العقلانية النقدية في مواجهة الأصولية والتطرف
يكاد يجمع الكثير من علماء الاجتماع ومعهم قسم واسع من العاملين في الثقافة، ان الثقافة العربية على مختلف مستوياتها تعاني ازمة حقيقية، تتجلى في اكثر من مظهر يبدأ بطبيعتها وإنتاجها ويصل الى علاقتها بقضايا المجتمع وهمومه. يزيد من المأزق صعود ثقافات ترتبط بتيارات سياسية وسلفية ترغب في اعادة المجتمعات العربية قرونا الى الوراء، وتفرض ثقافة لا تمت الى العصر بصلة، بل لا تتردد في طمس الحد الادنى من الثقافة المتنورة التي شهدتها الحياة العربية في تاريخها السابق او الحالي. تبدو المفارقة كبيرة بين الاثر الذي تتركه التطورات الحضارية والتقدم التكنولوجي على الثقافة العالمية، وبين مدى افادة الثقافة العربية من هذا التطور، وهذا ما يدفع العاملين في هذا الميدان الى البحث جديا في كيفية تجاوز الانفصام وجعل الثقافة العربية في وضع تواكب فيه العصر. من الدراسات الصادرة في هذا المجال كتاب الباحث المصري جابر عصفور، "نحو ثقافة مغايرة"، الصادر عن "الدار المصرية اللبنانية".
يحدد عصفور وجهة نظره في مسألة الثقافة بالقول: "نحن في حاجة الى ثقافة مغايرة. ينطلق هذا المبدأ من ايماني بالدور الحيوي الذي تلعبه الثقافة في المجتمع، في كل جوانبها، كما اكد تقرير الأونيسكو الذي نشر في كتاب عنوانه "التنوع البشري الخلاق". ولقد عشنا طويلا تحت وهم ان الاقتصاد اساس التنمية، وقيل لنا ان الصناعة اساس التنمية، ثم قيل لنا ان العلم هو اساس التقدم في كل شيء ، ومن ثم اساس التنمية. وقد اثبتت التجارب ان كل هذه الاقوال لا محل لها من الاعراب، لانها لم تؤد الى التقدم المنشود في كل مرة اعتمدت عليها الدول، النامية او المتخلفة، بلا فارق كبير. فقد اثبتت تجارب هذه الامم، ولا تزال، انه لا تنمية صناعية او اقتصادية ما لم تسندها ثقافة تدعمها وتدفع بها الى الامام". انطلاقا من هذا التوجه يرصد جابر عصفور مأزق الثقافة العربية وما تعانيه في علاقتها بتغيراتها الداخلية ومدى علاقتها بما يحصل في العالم المتقدم. فهي ثقافة تريد التغيير والتحرر من قيود الماضي الجامد، ولكن عبر ما تراه من حي في هذا الماضي. وهي تريد ان تواكب العصر وتتفاعل معه، لكنها تخاف فقدان هويتها الخاصة. وهي ثقافة تسعى الى الخلاص من علاقة التبعية للقوى السياسية المهيمنة من دون ان تتصادم معها وتكرس استقلاليتها. لذا تبدو السمة الغالبة عليها التمزق بين احلام ورغبات تسعى الى الوصول اليها، وبين القوقعة التي تقيم فيها او العودة الى ماضيها، خوفا من تحولات الحاضر.
ان الوضع الذي يعيش داخله المثقف العربي يفرض عليه ان يواجه مسائل قد لا تكون مفروضة على المرء في مجتمعات متقدمة، فعليه ان يسعى الى اللحاق بالتقدم الثقافي في العالم، ومواجهة التخلف الذي يهيمن على مجمل حياته وينعكس مباشرة على ثقافته وإنتاجه، والكفاح من اجل الخلاص عبر الاندماج في عصر يشهد كل يوم تغيرات مذهلة تفرض على العقل ان لا يبقى جامدا او متكلسا في مواجهتها.
من المسائل التي يثيرها جابر عصفور كشرط لا بد منه لخروج المثقف من ازمته، ما يتصل ليس فقط بالمثقف نفسه، ولكن بتآزر الاجهزة والمؤسسات والهيئات العامة والخاصة من حكومية وغير حكومية، لنشر ثقافة التنور والعقلانية في مواجهة التعصب والتطرف والنزعات الاصولية الصاعدة اليوم والساعية الى فرض ثقافتها المتخلفة على المجتمع، حيث لا تتورع هذه القوى المتطرفة احيانا كثيرة عن اعتماد القوة المادية في طرحها او في التصدي لما لا يتوافق معها. تقع مسؤولية الدولة في هذا المجال عبر اطلاق الحريات السياسية والفكرية وحماية اصحاب الفكر المتنور وافساح المجال لهم في مقارعة الفكر المتطرف، وخلق حراك فكري داخل المجتمع. لا تقوم الدولة اليوم بهذا الدور، فهي تدّعي الوقوف في وجه الفكر المتطرف، لكنها في الآن نفسه تحارب اصحاب الفكر المتنور وتقمع إنتاجهم القادر وحده على التصدي لثقافة التخلف والتطرف.
ومن اجل الوصول الى ثقافة مغايرة، يستوجب الامر تنمية شاملة على صعيد المجتمع تبدأ بالتصدي لمشكلاته الاجتماعية والاقتصادية، وتنتهي ببرامج التعليم والاستراتيجيات الثقافية. يصعب تصور حصول تبدلات ثقافية في مجتمع يقبع اكثر من ثلثيه في الأمية، كما يصعب التقدم الثقافي في مجتمع يعيش معظم سكانه تحت خط الفقر ويعجزون عن تأمين لقمة العيش، فكيف يمكن هذا المواطن ان يشتري كتابا ويقرأه؟ تبدو التنمية وتحسين الاوضاع المعيشية شرطا ضروريا في معركة الوصول الى ثقافة مغايرة. كما يرتبط ذلك بتحولات سياسية في طبيعة النظام وقيام المجتمع المدني بما يسمح للمثقف بالعمل بحرية وبما لا يضع قيودا على إنتاجه.
من الصعب الوصول الى تحول في الثقافة القائمة لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي وثورة الاتصالات والافادة من مكتسباتها، خصوصا في اقامة مجتمع العلم والمعرفة، وتطوير البنية العلمية للمجتمع، وانتاج ثقافة عمادها العقل في مواجهة تصاعد ثقافة الخرافات والاساطير، من دون اخضاع مجتمعاتنا الى تحليل بناها ومعضلاتها، وتشجيع مراكز الابحاث العلمية والثقافية، وحماية الخلاّقين والمنتجين بما يكفل لهم حدا من العيش الكريم، وبما يسمح بالافادة من ابداعهم، ويمنعهم طوعا من الهجرة الى الخارج. وهذا أمر لا يجري التعاطي معه بمسؤولية من السلطات الحاكمة، حيث يضطر علماؤنا ومثقفونا الى الهجرة، سعيا وراء حياة مادية افضل، او هربا من الاضطهاد السياسي والفكري.
ولا يستقيم الوصول الى ثقافة مغايرة من دون التعاطي مع التراث الفكري والحضاري بعين نقدية. ان التمترس بالماضي واجترار ادعاءات التفوق الحضاري، والتذكير دوما بدور الحضارة العربية في نهضة اوروبا، لم يعد يفيد في تقدم العرب، في وقت باتت المسافة شاسعة بين التطور الحضاري في المجتمعات الغربية وواقع التخلف المريع الذي تقبع داخله المجتمعات العربية. تبدو الحاجة ماسة لتجاوز عقدة العلاقة بالاخر الغربي على الصعيد الحضاري والفكري، كما تبدو الحاجة ماسة لقراءة نقدية للتراث للاحتفاظ بما يمكن ان يفيد الحاضر.
ان معركة تكوين ثقافة عربية مغايرة ومتصلة بالحاضر وبالتقدم الحاصل، معركة شاملة جميع المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، هي معركة اعادة بناء مشروع نهضوي شامل في العالم العربي، متجاوزا ادعاءات الحاضر والماضي وموصولا مباشرة بالعصر وانتاجه الحضاري.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد