«Camp»تبدأ عروضها من دمشق: لعبة الأبواب والتكرار
بعد مسرحيتيه «حظر تجول» 2006 و«رحلة الهبوط» 2008، يتابع المخرج العراقي مهند هادي رحلته في استكشاف حال عراق ما بعد الحرب. ففي «Camp»، مسرحيته التي انطلقت أول عروضها في دمشق أخيراً، برعاية من مديرية المسارح والموسيقى، و«تياترو لفنون الأداء» و«المورد الثقافي»، يستكشف هادي أحوال بلاده عبر ملاحقة مواطنيه في مكاتب الأمم المتحدة للاجئين في دمشق.
رجل وامرأة يلتقيان، ظهراً لظهر، أمام محقق أجنبي لا يسمع، موقت مثل الآلة، إذا حانت ساعة الغداء نهض من غير أي اعتبار لمأساة مقابله. كل ما يريده الرجل رعاية صحية وأن يبقى قريباً من بلاده، فبغداد له «مثل النايم بالإنعاش، وإحنا نراقبها من بعيد، وأول ما تستقر حالتها آني أول الناس اللي أركض وأرجعلها». أما المرأة فلم تعد تطيق الحياة في بلد ولدت فيه تحت ظل أب دكتاتور، لتجد نفسها من استبداد إلى آخر، وصولاً إلى تفخيخها عنوة وإطلاقها لتنفجر في وسط الزحام، والحظ وحده ينجيها من انفجار محتوم.
لكن خلف هذه الحكاية حكايات أخرى؛ فالرجل الذي يحتفظ بأرشيف الدائرة التي كان يعمل فيها خوفاً من نهبها من قبل «أولئك الذين يريدوننا بلا أمس»، يفاجأ بأنه يصبح متهماً بسرقتها، وكذلك يمنى بأن يصبح ولده إرهابياً له اليد الطولى في تهجير أهل الحي، فيتنكر له ويعتبره بحكم الميت. كما للمرأة قصص جاءت على فجائعيتها في لبوس ساخر.
وضع العرض حكايته بين قطبي الرجل والمرأة اللذين يتقابلان في دمشق (يؤديهما حسن هادي، ونغم ناعسة)، لتصبح القضية التي يعود إليها، والتي يختم بها الجدل هي قضية البقاء أو الهجرة، الأولى يمثلها الرجل والثانية تمثلها المرأة، يصبح المرء هنا أمام صراع درامي مفتعل لا يحتاج إليه العرض، فهو حافل بالقصص والمشاهد التي يمكن أن يشكل بعضها إلى جوار بعض بانوراما عن حال العراق. هكذا تتالى في العرض مشاهد العزلة، عزلة المواطن المنتهك بعد أن سرق أرشيف بلده، والخطوبة، حيث رجل يرفض أن يزوج ابنته لجندي يعتبره بحكم الميت، وانتظار الفتاة المراهقة لعريس يتقدم لخطبتها، مشهد المرأة المفخخة، التي تروح تبتعد عن الزحام من أجل عدد أقل من القتلى، ومشاهد التحقيق في السجون الأميركية، كلها لوحات مكتملة بذاتها، لا تحتاج لأن تكون في تيمة «البقاء والهجرة». والحق أنها جاءت مشاهد متقنة، كتابة وأداء وإخراجاً، الأجمل فيها أنها لا تركن إلى فجائعية المشهد، وأنها سرعان ما تدلف من احتمال تأثير فجائعي إلى السخرية.
لكن الحكايات في «Camp» ليست كل شيء، رغم أن الوضعية التي اختارها المخرج والمعدّ (لاجئون أمام مكتب الأمم المتحدة) مولدة لأكثر الحكايات فجائعية أو سخرية لو شاء. فالعرض يكفيه إنجازاً تلك المتاهة التي وضعها على الخشبة، حيث المسرح أبواب لا تفضي إلا إلى أبواب، وحيث ذلك الحومان لشخصيات تتكرر كأنما بلا نهاية. وهنا لعبة أخرى في العرض، حيث كل مشهد يخفي وراءه مشهداً آخر موازياً، وإن كان بلا صوت، فالحكاية ليست فريدة، إنها حكاية الجميع.
في هذا الديكور، وفي ذلك الحومان، وفي تكرار المشاهد، تقع اللعبة المسرحية كلها. التكرار لا يرمي فقط إلى معنى، فهو مدروس بصرياً، حيث بإمكان المرء أن يرى المشهد في الوقت نفسه مواجهة، أو بشكل جانبي، بشخصيات أخرى.
أكثر ما يلفت في «Camp» علاقة مختلفة مع الجمهور، ومن الواضح أن معظمه من عراقيي دمشق، والعرض يعنيهم، مرة لعرضه صورهم أمام مكاتب الأمم المتحدة، ومرة من أجل عراق الذكريات الذي استعيد على خشبة دمشقية، وربما أيضاً كان يعنيهم متعة اكتشاف اللهجة العراقية بلسان السوريين، حيث الممثلون معظمهم من السوريين، تميزت بينهم نغم ناعسة بأداء ينتقل بخفة بين حالات ومشاهد وشخصيات. اللافت في هذه العلاقة هو التعليق المباشر، الذي يصل أحياناً إلى حد «التطييب»، كما في الغناء، الأمر الذي يؤكد أن «Camp» قد لامس فعلاً أصحاب الشأن، وهو شرط ضروري للتأثير بالآخرين.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد