مستقبل الصراع على بحر النيل: الدور الإسرائيلي والخسائر المصرية
الجمل: تنظر الأوساط الدولية والإقليمية إلى منطقة حوض النيل باعتبارها المنطقة الأكثر احتمالا لجهة انفجار بؤر التوتر واندلاع المواجهات الساخنة المرتفعة الشدة بمختلف أنواعها, فما هي ملامح الأزمات التي بدأت تشكل في هذه المنطقة؟ وما هو شكل السيناريو العام القادم وسيناريوهاته الفرعية؟
التعريف بمنطقة حوض النيل: الوضع السياسي الكلي
تمتد منطقة حوض النيل بشكل طولي من منطقة البحريات العظمى الأفريقية الواقعة عند خط الاستواء وشمالا حتى الساحلب المصري المطل على البحر المتوسط, هذا, وتتكون هذه المنطقة من 10 كيانات سياسية, هي: مصر – السودان – إثيوبيا – إرتريا – أوغندا – كينيا – الكونغو الديموقراطية (زائير) – رواندا – بوروندي – وتنزانيا
تتميز دول منطقة حوض النيل بتعدد مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية, إضافة إلى تنوع خبراتها التاريخية والسياسية, وقد أدى هذا التنوع إلى تباين جدول أعمال كياناتها السياسية, فدول منطقة البحيرات الأفريقية العظمى (أوغندا – كينيا – تنزانيا – رواندا – بوروندي – الكونغو الديموقراطية) ظلت تشهد حالة مستفحلة من الحروب الداخلية, بما أثر سلبيا على استقرار جنوب السودان, وإضافة لذلك فقد ظلت إثيوبيا وأرتريا أكثر ارتباطا بصراعات منطقة القرن الأفريقي, وصراعاتها الداخلية والبينية, الأمر الذي أدى إلى التأثير على استقرار شرق السودان, أما مصر والسودان, فقد ظلا أكثر ارتباطا بقضايا الصراع العربي-الإسرائيلي.
الوضع الجزئي للصراع: ماذا يحمل المستقبل لكل دولة
تشير المعطيات والوقائع الجارية إلى أن منطقة حوض النيل قد أصبحت على مفترق الطرق, إزاء ثلاثة خيارات, الأول هو تحسن الأوضاع وتحقيق الاستقرار, وهو احتمال ضعيف, إن لم يكن ضعيف للغاية, والثاني استمرار الوضع المتوتر غير المستقر الحالي, وهو احتمال ممكن, والثالث, هو تدهور الأوضاع بوتائر عالية باتجاه نفق الصراعات والمواجهات المرتفعة الشدة, وهو الأكثر احتمالا على ضوء المؤشرات الحالية.
يمكن الإشارة إلى مكونات الأزمة الجارية حاليا وبحسب المناطق الفرعية الموجودة في منطقة حوض النيل على النحو الآتي:
• مصر: تعاني من أزمة داخلية متعددة المكونات, فهناك أزمة اقتصادية مستفحلة بسبب تزايد معدلات الديون الخارجية والاعتماد على المساعدات الأميركية المشروطة, وتزايد معدلات البطالة والتضخم, واستشراء الفساد, وانخفاض في مستوى المعيشة وتزايد معدلات الفقر, وفي ظل التطورات الجارية فقد برزت بشكل ساخن المزيد من الأزمات السياسية, بفعل تزايد موجات السخط والمعارضة المصحوبة بعجز النظام عن القيام بأي عمليات إصلاح اقتصادي أو سياسي تساعد في احتواء الأزمات وتخفيف ضغوطها.
• السودان: عانى السودان من كل أنواع المشاكل والضغوط التي أصبحت تعاني منها مصر حاليا, واستمرت معاناة السودان من منتصف ثمانينات القرن الماضي, وحتى مطلع القرن الحالي, وبرغم ذلك فقد نجح السودان من تجاوز هذه المشاكل والضغوط, ولكن, ضمن تكلفة باهظة, وهي: القبول بتقرير مصير جنوب السودان, في استفتاء سوف يتم إجراءه في 11 كانون الثاني (يناير) 2010م القادم, وبرقابة دولية وإقليمية, وعلى خلفية ما سوف تسفر عنه نتيجة الاستفتاء فإن وضع السودان سوف يصبح أكثر خطورة, لأن تصويت الجنوبيين إلى جانب الوحدة سوف يدفع الحركات الانفصالية إلى مواصلة نزاعاتها الانفصالية, خاصة وأن العديد من زعمائها أكدوا صراحة بأن نتيجة الاستفتاء إن تكن هي الانفصال, فإن عودتهم إلى الحرب سوف تكون حتمية, وفي حالة تصويت الجنوبيين إلى جانب الانفصال, فإن العديد من الحركات الإثنية الجنوبية المسلحة أكدت صراحة, بأن انفصال الجنوب سوف لن يكون بالنسبة لها سوى الخطوة الأولى من أجل إكمال بقية الخطوات والتي تتمثل في الانفصال عن جنوب السودان, بما يؤدي إلى تفكيك جنوب السودان إلى إلى سلسلة من الدويلات الصغيرة المبعثرة على غرار ما حدث ليوغسلافيا السابقة.
• إثيوبيا: تواجه إثيوبيا أزمة خماسية المكونات, أولها أزمة المشاركة السياسية بين القوى السياسية الإثيوبية المتصارعة, والثانية هي ضغوط الصراع الانفصالي في إقليم الأوغادين, والثالثة هي مشاكل الأقليات الإثيوبية ذات الطبيعة الانفصالية, أما الرابعة فهي ضغوط الحرب الأهلية الصومالية, والخامسة هي تدهور الأوضاع الاقتصادية المصحوب بالاعتماد على المساعدات الخارجية الأميركية المشروطة.
• إرتريا: تعاني من ضغوط العقوبات الدولية, إضافة إلى مخاطر الاستهداف الإثيوبي, إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب ضعف البنيات الاقتصادية, وتزايد معدلات الفقر وتدهور البنية الطبيعية.
• كينيا: دخلت كينيا في نفق الأزمة السياسية بعد انتخابات منتصف عام 2008م الماضي, وإضافة لذلك تعاني كينيا من الصراعات العرقية والدينية إضافة إلى تزايد النفوذ القبلي, المصحوب بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
• تنزانيا: تعاني من عدم التجانس الإثني والذي أصبح بفضل ضغوط الأزمة الاقتصادية قابلا للانفجار في أي لحظة, وتقول المعلومات بأن الشعب التنزاني يتكون من 125 قومية, تتحدث 125 لغة, وبرغم أن اللغة السواحلية هي الأكثر انتشارا, فإن القوام الاجتماعي التنزاني ما زال ضعيفا, وأكثر قابلية لانتقال عدوى أزمات دول الجوار الإفريقي المستفحلة.
• أوغندا: تواجه أوغندا في الوقت الحالي أزمة متطورة المكونات, فهي تخوض حربين أهليتين, الأولى ضد تنظيم جيش الرب المتمركز في مناطق شمال أوغندا, والثانية ضد الجماعات الانفصالية المسلحة الناشطة في منطقة شمال غرب أوغندا, وتشير المعلومات إلى أن الشعب الأوغندي لا يملك لغة واحدة, ففي أوغندا توجد 23 لغة, وتقوم أجهزة الإذاعة والتلفزيون ببث برامجها ونشرات الأخبار بـ23 لغة, وحاليا تعتمد الحكومة الأوغندية على اللغتين السواحلية والإنجليزية في تسيير أعمالها, وتشير التوقعات إلى أن تزايد الاحتقانات الجارية حاليا سوف لن يؤدي إلى سوى إلى إشعال الحروب الأهلية والتي سوف تفكك أوغندا, وتعيدها إلى حالة الممالك والسلطنات الأفريقية القديمة والتي كانت عليها قبل دخول الاستعمار البريطاني, ومصدر هذه التوقعات يتمثل في أن الشعب الأوغندي مازال أكثر تمسكا بالبيئة الاجتماعية الثقافية التي كانت سائدة خلال مرحلة الممالك والسلطنات الأفريقية الأوغندية القديمة.
• بوروندي: تعيش بوروندي حالة الانقسام التقليدي بين 14% من التوتسي الناشطين في مجال الرعي, و85% من الهوتو الناشطين في مجال الزراعة, إضافة إلى 1% من جماعات أقزام التوا الذين مازالوا يعيشون عراة داخل الغابات يعتمدون في معيشتهم على حرفة الجمع والالتقاط, وفي ظل هذا الوضع, فإن الحكومة المركزية لا تسيطر إلا على العاصمة وثلاثة أو أربعة من المدن الفقيرة, وبكلمات أخرى, فإن دولة بوروندي تفتقر بشكل واضح إلى وجود المجتمع السياسي الذي يشكل قوام وعصب الدولة بمعناها السياسي المعاصر.
• رواندا: عانت روندا من المذابح العرقية وعلى وجه الخصوص مذبحة عام 1994م, التي شهدت إبادة 25% من الشعب الرواندي بالفؤوس والسواطير, والقليل من الأسلحة النارية, وحاليا, تنقسم رواندا إلى 15% توتسي رعاة, و84% هوتو مزارعين, و1% أفزام توا في الغابات والأدغال, وإضافة إلى الأزمة الاقتصادية, وانعدام المجتمع السياسي المستنير, فإن رواندا غارقة حتى أذنها في الصراعات الدامية والمذابح العرقية التي مازالت مستمرة, والتي يجري التكتم عليها بالتواطؤ مع الأميركيين والإسرائيليين وذلك لأن رواندا تمثل الممر الحيوي لعمليات تهريب الألماس واليورانيوم من شرق الكونغو إلى الإسرائيليين, مقابل شحنات الأسلحة التي ظلت تقوم بنقلها الطائرات الإسرائيلية إلى مطار كيفالي حيث يتم نقلها إلى شرق الكونغو.
• الكونغو الديموقراطية: تعتبر جمهورية الكونغو الديموقراطية من بين بلدان حوض النيل العريقة في مجال الصراعات والحروب الأهلية المتعلقة بالسيطرة على الموارد, وحاليا توجد في جمهورية الكونغو ثلاثة من أكبر حقول القتل في العالم, هي منطقة شمال كيفو, ومنطقة جنوب كيفو, الواقعتين في شرق زائير الغنية بمناجم الألماس واليورانيوم, إضافة إلى منطقة كاتنغا الواقعة جنوب الكونغو الغنية بمناجم النحاس واليورانيوم, وتشير التحليلات إلى أن حروب الكونغو سوف لن تنتهي إلا إذا انتهت محزونات اليورانيوم والألماس.
الأوضاع الجزئية المأساوية الخاصة بكل هذه الدول, سوف تلحق المزيد من الأضرار بهذه الدول العشر, وإذا استمرت الأوضاع بهذا السوء فإن بلدان منطقة حوض النيل سوف تتحول إلى مستنقعات نزاع يمكن للأطراف الخارجية والأجنبية, وعلى وجه الخصوص أميركا وإسرائيل توظيفها بما يؤدي إلى زعزعة استقرار كامل المنطقة وإعادة تقسيمها إلى دويلات وفق الرؤى الاستعمارية الجديدة.
الوضع الكلي للصراع: ماذا يحمل المستقبل لمنطقة حوض النيل؟
تشير التحليلات الجارية إلى أن مستقبل الوضع في دول البحيرات العظمى الأفريقية (كينيا – أوغندا – بوروندي – تنزانيا - الكونغو) سوف يتوقف حصرا على ما سوف يحدث في الآتي:
• ملف شرق الكونغو: يغذي الصراع الدائر في منطقة شرق الكونغو الصراعات الدائرة في رواندا وبوروندي وأوغاندا, إضافة إلى تغذية الفساد في أوغندا, ورواندا, وكينيا.
• ملف جنوب السودان: يغذي الصراع الدائر في شمال أوغندا, وشمال غرب أوغندا, وأيضا الصراع في شرق الكونغو, وفي حالة حدوث أي صراع عسكري جديد في جنوب السودان, فإن عدواه سوف تنتقل أكثر فأكثر إلى هذه المناطق المجاورة, إضافة إلى احتمالات انتقال العدوى هذه المرة إلى كينيا, إضافة لذلك فإن انفصال جنوب السودان سوف يدفع الأقليات في دول البحيرات العظمى إلى المطالبة بالانفصال, بما سوف يؤدي بالتأكيد إلى اندلاع سلسلة الحروب الأهلية الانفصالية.
أما الصراع في القرن الأفريقي, فسوف يرتبط مصيره بمدى تداعيات الحرب الأهلية الصومالية على بلدان المنطقة, إضافة إلى ملف التواترات الحدودية العدائية الإثيوبية-الإريتيرية, وملف الوجود العسكري-المخابراتي الأجنبي المكثف في دولة جيبوتي.
أما بالنسبة لمصر, فسوف يرتبط الوضع بالتطورات الجارية في العديد من الملفات والتي من أهمها على الإطلاق ملف تراجع قوة الدولة المصرية, وتحديدا ما يتعلق بضعف قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية, فمصر وإن كانت بعيدة نسبيا عن منطقة القرن الأفريقي, ومنطقة البحيرات العظمى, فإن تداعيات انكشاف القدرات المصرية, سوف تنتقل عدواها بكل سهولة إلى السودان, والذي سوف يلعب دور "المقسم" الذي تتوزع عبره ضغوط ومفاعيل الأزمات المصرية إلى بقية مناطق حوض النيل, وفي هذا الخصوص نشير على سبيل المثال لا الحصر, إلى أن ابتعاد الدبلوماسية المصرية عن مجالها الحيوي المتمثل في دول منطقة حوض النيل, وما ترتب على ذلك من انشغال الدبلوماسية المصرية, بملفات التعاون مع أميركا وإسرائيل في قضايا الصراع الشرق أوسطي, وهو ابتعاد أدى إلى حدوث ظاهرة فراغ القوة الدبلوماسية المصرية في مناطق حوض النيل, وهو الفراغ الذي سعى الإسرائيليون إلى ملئه, وبالفعل فقد زار وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان دول منابع نهر النيل برفقة كبار رجال الأعمال الإسرائيليين إضافة إلى الخبراء العسكريين الإسرائيليين واستطاع أن يوقع اتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري مع كل من إثيوبيا (التي توجد بها بحيرة تانا التي ينبع منها نهر النيل الأزرق الذي يغذي 70% مياه النيل التي تدخل إلى مصر), ومع أوغندا التي توجد بها بحيرة فيكتوريا التي تغذي نهر النيل الأبيض والذي يغذي 30% من مياه النيل التي تدخل الأراضي المصرية.
تشير المعلومات والتقارير إلى أن دول حوض النيل ما عدا مصر والسودان قد عقدت اتفاقا كونت بموجبه ما أطلقت عليه مفوضية نهر النيل, الأمر الذي أربك كل حسابات الحكومة المصرية الحالية, والتي وبكل أسف ما زالت أكثر إصرارا على رفض التفاوض و التفاهم مع دول حوض النيل. وعلى ما يبدو فإن القاهرة سوف تحاول التفاهم مع الأميركيين والإسرائيليين لجهة القيام بالضغط على دول حوض النيل الأفريقية لكي تتراجع, ولكن, وعلى غرار المثل القائل "من جرب المجرب فإن عقله مخرب" فإن السياسة الخارجية المصرية سوف لن تحصل على أي نتيجة إيجابية من محور واشنطن-تل أبيب, وذلك لسبب بسيط يفهمه الجميع, وهو: أن المستهدف بمشاكل ملف مياه النيل هو مصر نفسها, ولا أحد غيرها, فكل دول حوض النيل بما في ذلك السودان تتمتع بهطول الأمطار الغزيرة التي تكفي لتلبية حاجاتها, إلا مصرفهي هبة النيل, والتي مازال زعيمها حسني مبارك ووزير خارجيتها أبو الغيط يراهنون على التعاون مع نتنياهو وأفيغدور ليبرمان كوسيلة لتأمين وضمان تدفق مياه النيل القادمة من إثيوبيا (التي تقوم حاليا بدور إسرائيل القرن الأفريقي) وأوغندا (التي تقوم حاليا بدور إسرائيل منطقة البحيرات العظمى الأفريقية) لمصر.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد