أنسي الحاج: بيـــن الهـــواء والطيـــر
■ صحافة (4)
يجمع نفرٌ من كتّاب الصحافة الحديثة بين الترفيه والتنوير. في خمسين سطراً يروي لك الكاتب خمس حكاياتٍ ويلخّص كتاباً ويعلّق، غالباً بالتنكيت، على أحداث الساعة. والبعض يوميّاً.
ظرفاء، أدباء، شموليون، لا تحتاج مقالاتهم إلى جهد لتحسيس قارئها بأنه شريك معهم في الوليمة وليس تلميذاً مظلوماً بالدرس. قارئهم مدلّل ولا يتخمونه.
الرشاقةُ صفة الأثيريّين ومن شيم الرقص والذوق والموسيقى الطائرة. وهي ذائعة بل واجبة في الصحافة الأميركيّة وتقليدها انتقل إلى الفرنسيّين. العرب عرفوا شبهاً لها منذ القِدَم مع مقاماتهم وفي كتابَي «الأغاني» و«ألف ليلة وليلة»، ولا تخلو منها مصنّفاتهم الجديّة مثل الرحلات والتأريخ، لكنّهم لم يبلغوا سرعة النبض الحاليّة ولا التنقّل من موضوع إلى آخر تنقّلاً يفوق سرعة الصوت.
واظب العرب على منطق الربط بين المقاطع حتى مطالع القرن العشرين، وبعضهم لا يزال. في انطباعاته عن الإنكليز، وقد أقام بينهم سنين وأتقن لغتهم، يأخذ أحمد فارس الشدياق عليهم العبور من جملة إلى أخرى دون وَصْلات، ويستهجن كأنّما في الأمر إعاقة عقليّة. والشدياق، على ظرفه، متعِبٌ أحياناً، بخلاف مريده مارون عبّود الخفيف اليد المتتابع الطَلْق المتداخل المعاني. ولعل السبب عند الشدياق، بالإضافة إلى حرصه على منطق الوصل التقليدي، اهتمامه بمنافسة المقامة، ولو حرّر أسلوبه من هذا الهاجس لفاق الجميع.
لكنّنا ابتعدنا عن المقالة الرشيقة الحديثة، ومن روّادها في لبنان إسكندر رياشي ومحمد النقّاش وسعيد تقي الدين وسعيد فريحة وميشال أبو جودة وسمير عطا الله.
الصحافة المصريّة امتازت دوماً بأقلامها الرشيقة، كالتابعي والأخوين مصطفى وعلي أمين وأنيس منصور مثالاً، ويمكن أن ننصح لكل صحيفة عربيّة بقلم مصري إنْ أرادت التخفيف من وطأة عبوسها. فليس أضمن من الأقلام المصريّة نضارةً وجاذبيّة، فضلاً عن سلاسةٍ وغزارة لا يجاريها فيهما أحد.
يؤخذ على هذا النوع من المقالات عَومه أحياناً على السطح، إذ يكاد يصبح لحظة فراغ، كأن الكاتب أضناه المسير أو كأنه موقنٌ من غياب المحاسبة، وما قد يتورّع عن قوله شفهيّاً بات يرميه إلى الجريدة رَمْيَ القدمِ في الشارع. وهذه حوادث تقع، فليس أصعب من الكتابة اليوميّة. وعزاؤها أنها تقع أيضاً في المقالات التي تتوخّى التعمّق والجديّة، أو في الكتب الرصينة التي تحلم بقهر الزمن. ولعلّ ممّا قد يلجم استخفاف الكاتب الصحافي أن يتذكّر القاعدة التي كانت سائدة في صحافة الأمس: كان الصحافيّون يكتبون وفي ذهنهم قارئ النخبة، وقلّما ينحدرون عن مستوى معيّن حتّى لا يعرّضوا أنفسهم لتعيير الزملاء والأساتذة. كان هذا يسري على الجديّين ولكنّه قابلٌ للانطباق على الفَكِهين وموهوبي التخفيف عن القلب. كان الجاحظ يبزّ الناثرين جميعاً أفقيّاً وعموديّاً.
إذا قال قائل: لا يتبقّى في الذهن شيء من هذه المقالات المليحة، أجبناه: وما يدريك؟ ثم إن الهواء العابر ينظّف الصدر، وهذه النفحة من الزواليّة جرعة صداقة سحريّة، لكَ أن تعتبرها مقبّلات ولكَ أن تأخذها كمهضِّمات. علماً بأن الخفّة تفاجئك أحياناً فتكون فخّاً كسطح النهر لا تحزر أعماقه إلّا بعد الانغماس فيه.
أَقرأُ هؤلاء الكُتّاب بإعجاب وأتمنّى لو كان لي شيء من سحر رشاقتهم. الخفّة زبدة الخبرة، وهي نعمة وموهبة. والصحافة فنّ الزوال، فإن لم تكن هي المحلّ الأمثل لهذا النوع من المقالات، فأين يكون؟ البساطة ذروة التعبير، وبين البساطة والرشاقة ما بين الهواء والطير.
--------------------------------------------------------------------------------
■ الطفل والساحر
لا رحمةَ في إقناع الطفل بعدم تصديق الساحر. إذا أقدم أحد على ذلك بدافع التنوير فسيحصل التنوير، لكنه سيقترن بموت أغلى ما في الطفل، بل أجمل ما في الحياة، وهو الطفولة.
القاعدة نفسها تنسحب على العلاقة بين الجنسين. ليس أهون من قيام كلّ طرفٍ بكشف «حقائق» الطرف الآخر. الواقع حاضر تحت العينين. تحت اليدين والقدمين والأنف والأذنين وكل بوليس العقل.
الرحمة هي في حماية الغشاوة.
--------------------------------------------------------------------------------
■ دعاء
لنصلِّ أن لا يفكّ العقل البشري سرّ الله. لنبتهل أن يدومَ الشكّ. لننقذ ما تبقّى من الأسرار. لنخترع أسراراً جديدة ولو من باب الاحتياط!
لنُعِد الغموضَ إلى التجاذب والجهلَ إلى العيون.
ما إن يتوهّم العقل أنه وصل إلى فتح بابٍ حتّى ينهار مع الفتح حلمٌ أعظمُ منه. لا يمنحنا شيئاً إلّا يسلبنا أغلى منه!
المُبْهَم... ليبقَ لنا المُبْهَم. لا نريد أن نعرف!
--------------------------------------------------------------------------------
■ كلمة البداية
مطر الثرثرة لا يغسل اللغات بل يُعفّنها. الكلام القليل هو الذي يصعق الغصون الجوفاء ويهرهر الأوراق الميتة.
يحتاج الكلام حاجة ماسّة إلى إحياء، إلى ربيع، إلى الاصطدام بوجهٍ جديد لنفسه.
العيونُ تسحر لأن لغتها الصامتة هي هي الكلمة التي لا تعلو عليها كلمة. والأصحّ: لا تَعْمُقُ أبلغ منها كلمة. دائماً نقول «في البدء كان الكلمة» وكأننا نجد عذراً للحكي، نستنبط قداسة لصَدَفٍ دون لؤلؤ. في البدء كان الكلمة الفريدة، القليلة، ربّما الوحيدة، الكلمة التي ولدت من الصمت وعادت إليه ليحميها من «التطبيع». لا أحد يدري كم مرّة عاد الكلمة إلى الظهور. في كلّ مرّة كان يكون زمن جديد. ما يُتداول منذ الاهتداء إلى الحكي ليس الكلمة بل الألفاظ، وبعد الألفاظ الرواسم، وبعد الرواسم قشور وسَعْدَنات.
الاتكال كان دوماً على الشعر لغسل اللغة. تطهيرها وإعادة خلقها، عبر الصلاة والأغنية، ثم عبر القصيدة كبناءٍ غايته ذاته. اليوم يعاني الشعر حالةَ موت. كلّ الأشياء باتت أقوى من الشعر: الموت والحياة. لن تعود الكلمة إلّا إذا عاد الشعر. والشعر هذا لا يلوح في الأفق.
--------------------------------------------------------------------------------
■ اعتراف
الأدب الذاتي يتجوهر عندما يمارس كاتبه الاعتراف.
كفعلِ تَطَهُّر.
الاعتراف كما فعله أغسطينوس وروسو والرومنتيكيّون الألمان ومارلون براندو في مذكّراته ودوستيوفسكي في معظم ما كتب. وتولستوي أحياناً، على انتفاخاته. الاعتراف كما لم يمارسه أحد من العرب، حسب علمي.
كفعلِ تَطَهُّر وكانسحاق وكروح صمَّمت أن تفيض. كاتب يعامل اعترافه على أساس أنّه نهاية حياته. إحدى العلامات التي ميّزت الأدب الكلاسيكي الفرنسي عن الأدب الفرنسي الحديث (وله حداثات مختلفة في عصور عديدة لكن المقصود هنا الحداثة التي بدأت مع روسو وشاتوبريان) إحدى العلامات الفارقة أن الأثر الأدبي، من أدناه إلى أقصاه، ومن القصيدة الصغيرة إلى القصّة الطويلة، أضحى اعترافاً إمّا صرفاً وإمّا متشكّلاً بأصناف متنوّعة من التعبير. نستطيع أن نعتبر كل قصيدة لبودلير اعترافاً، ولم يكتفِ بها بل عرّى نفسه نثراً في شذراته ويوميّاته. رمبو في شعره. فاليري في بعض فلذات نثره. سارتر خطا شوطاً في البوح الحميم بكتابه الأخير «الكلمات». بعض الاعتراف يخرج منه صاحبه أكثر تحجّباً والتباساً، مثلما هو الأمر مع كامو. وقبله بروتون. الاعتراف الأقسى والأقصى يظلّ مثالاً، بُغيةً تراود المجانين، وحتّى هم لا يُقْدمون.
حسبُنا القدْر الذي نشعر، ونحن نطالعه، أننا لم نكن لنتجاسر أن نفعل مثله. وهذا لا نفتقده في أدبنا وحده، بل في تفاصيل حياتنا.
الاعتراف وداع. وكتابته أصعب من إعلانه شفهيّاً لأن التعرية الكتابيّة مراودة للأبديّة. الشفهيّ يمضي مع الهواء.
أذْنُ الكاهن التي يبوح لها المسيحي في كرسي الاعتراف ليست في نظره أذن إنسان بل حضن السماء. هذا المعترف هو أيضاً يراود الأبديّة، لذلك لا يبقى كلامه شفهيّاً بل يصبح رسولاً من روحه.
أتطلّعُ إلى يومٍ تنكسر فيه نفوسنا في الكتابة كما لم نفعل بعد. تنسحق كالذاهل تماماً عن أنانيته وعن المظاهر والصيت المركَّب. حتّى لو أُعطيتُ الحياة من جديد أعتقد أني لن أجرؤ على هذا الصدق. لا أعرف ماذا في تربيتنا وإرثنا ومحيطنا يكبّلنا. لعلّه هو نفسه ما يعرقل نموّنا. لعلّ هذه هي سلاسلنا الحقيقيّة.
نحتفظ ببعض الأمل في الآتين. دون مبالغة. وشرط أن لا يقعوا في الاستفزاز. ما نحتاج إليه هو صدْق مَن يلتغي الجمهور في ذهنه وهو يكتب، ويصبح اعترافه سَكْباً في الأبديّة.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد