الرقص قدمان تفكران وخصر يعلّم الحكمة
"الرقص جناحان"، يقول مالارميه، لأنه يفصح للجسد عن خفته وحريته الجديدة، حرية الحركة والإيقاع. يستخف الرقص بالجاذبية المعتادة للجسم وبماديته. هو علامة خارجية تؤشر الى ما يعتمل في الداخل كرقص زوربا، بطل كازانتزاكيس، في لحظات الحزن الشديد "كالطير يرقص مذبوحاً من الألم"، أو الفرح الشديد. رقصةٌ ما قد تطيح رأساً مقدساً كما فعلت سالومي مع يوحنا المعمدان. وقد حذرنا جبران في "النبي" "ولن تقدروا أن ترقصوا حتى تتسلم الأرض جميع أعضائكم"، كما حلم نيتشه بإله راقص. في نظر الان باديو، الرقص هو "قدرة الجسد على الفن". لكن يبقى الجسد الراقص المتلوي والملتاع ونبض الحياة التي تحركه، سراً تجهد العقول في استكناهه.
الرقص كتعبير عن الثقافة التقليدية أو الحديثة، يتحدر في شكل عام من حاجة الفرد الى التواصل. فهو في المجتمعات التقليدية يعيّن اللحظات أو المراحل المهمة في الحياة (الصيد، الحصاد والقطاف، الأعياد...الخ)، فيؤدي دوراً في التماسك الإجتماعي ويؤمّن الإنتماء الى الجماعة. وقد عرفته المجتمعات القديمة مثابة أداة تواصل مع الآلهة وتعظيم لها. ففي مصر الفرعونية ارتبط بالأعياد الدينية ذات الصلة بالزراعة، مثل دورة الحياة والبعث للإله أوزيريس، رمز تعاقب فصول نهر النيل. وفي اليونان العتيقة اقترن الرقص بالأنشطة الفنية والفلسفة والدين، وخصوصاً تكريم الإله ديونيزوس إله الخمر، وكانت بعض الرقصات الحربية جزءاً من تدريب الجنود.
الرقص المقدس
أدى الرقص دوراً في عدد من الأديان، وبيّن البروفسور لوفوبير أن حركات الرأس تحديداً تحفز يقظة الذهن. عند بعض الشعوب، يدخل الشامان في "حالة إنخطاف" ووجد، لشفاء بعض الأمراض المادية والنفسية والروحية لأفراد من جماعتهم.
لم يشجع الغرب كثيراً الرقص المقدس، لأن الكنيسة المسيحية دانته بوصفه لاأخلاقياً بعد العصر الوسيط. النموذج الأكمل للرقص المقدس هو الرقص الهندوسي، المنشأ على عبادة الإله "شيفا" الذي خلق ويخلق العالم راقصاً، ويعبّر عنه في حركات رمزية تدعى"مدراس" تتعلق بأوضاع اليدين والذراعين والساقين وحتى العنق والعيون والحواجب والجبهة.
يتوصل الراقص من خلال حركات هذه الأجزاء الى تمثيل الألوهية (الرجال، الحيوانات، الأزهار)، والعناصر الطبيعية (هواء، نار). اليابان، بلاد غنية بالرقص الفولكلوري ذي الطابع الديني، ولا سيما المسرح الراقص، مثال "النو" الذي يعود الى القرن الخامس عشر، و"الكابوكي" في القرن السابع عشر.
يعبر الرقص الأفريقي عن التشبث بالأرض. فالأرض مقدسة في فلسفة "البانتو"، وكل الوجود الإنساني يتقوم في صلته بها. لذا، يركز الفنان الإفريقي كامبو سوكي المنتمي في رقصه الى الفلسفة الصوفية، على إنسانية متشبثة بالأرض، تحدّر الإنسان منها وإليها يعود ومنها يريد أن يستقي الكمال والخلود.
قيم تعبيرية
الباحثة الفرنسية اللبنانية الأصل، تيلدا مبيض، ترى في كتابها "الرقص، وعي الكائن الحي" La Danse, conscience du vivant ذي البعد الأنتروبولوجي – الجمالي والصادر في باريس، لدى دار "لارماتان"، 2005، أن المحيط الجيو- ثقافي يملي استخداماً محدداً لأقسام راقصة في الجسم دون غيرها، تركّز الأنظار عليها.
في الشرق الأقصى نجد القيمة التعبيرية للوجه والذراعين. ففي الهند على سبيل المثل، تروي الأذرع والوجوه في حركة مستمرة قصة الخلق، الحقيقة النهائية التي تبيّن أن الظاهر ليس الا الرمز لما هو غير ظاهر، وما يحصل في الزمن له معادله في الأبدي، ووحده من يملك دلالة "حركات الأيدي" وأسرار تعبيرات الوجه (13 حركة رأس، 36 حركة نظر، 9 حركات تحريك لحدقة العين "البؤبؤ"، 7 حركات حواجب)، يمكنه أن يكسر الحائط الذي يفصل الملموس عن الغامض.
هذا، وتهتم المدارس الأربع الكبرى للرقص في الهند بإذاعة معنى الأشياء وإيصالها، والتعبير عن الحياة ومساعدة الإنسان في اجتياز صراط التحرر.
أما الغرب، بحسب بحث مبيض، فقد ركّز على أهمية الأرجل، لأن الرقص فيه تحدّر من حركات الزهد ذات الصلة الوثيقة بتاريخ المسيحية، ورافق تلاوة المزامير، وكان جزءاً من الطقوس اللاهوتية الإحتفالية، حيث يرقص رجال الدين في شكل دائرة. حتى العصر الوسيط احتفظ الرقص بطابعه كتعبير خارجي عن العبادة. في تطور لاحق، أصبحت الموسيقى فناً مستقلاً بذاته، وكذلك الرقص، لكن بقي التركيز على الرجلين، كما يظهر ذلك في فن الباليه.
تشكل "الجسم الراقص" في الغرب رويداً رويداً، ومنطقة تلو الأخرى: ففي القرن السادس عشر جرى التركيز على الأرجل في الحركات الراقصة، وعلى الساقين في القرن السابع عشر، وعلى الجذع ووحدة الجسم في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الظهر في النصف الثاني من القرن العشرين. وقدّرت مبيض أن ثمة توازياً بين مغامرة الجسم الغربي و"الفرد" (الفاعل) في سعيه للحصول على احساسات حميمة وعميقة.
يفيد تتبع تطور الباليه تاريخياً، من رقص البلاط في عهد لويس الرابع عشر، الى رقص الباليه الذي يعبّر عن أحداث (Ballet d’action) في عصر الأنوار بمبادرة من نوفير، الى الرقص الألماني الحديث بين الحربين في رعاية لابان، إن المشترك بينها بحسب أحد الباحثين، هو "الإستعراض" ومراميه البينة في إعطاء شكل من اللحمة الإجتماعية.
أما في بلدان شرق المتوسط فنجد القيمة التعبيرية ممنوحة لجذع الجسم، أي "الوسط"، اذ تبدو المنطقة الوسطى هذه، المكان الأثير للتعبير عن حركة الرقص. وهي حركة أفعوانية تتغنى بالحب في دائرة "صوفية" في نظر الشرقيين، لأن المظهر للدائرة الراقصة يُرمَز اليه بالرقم 8، علامة اللانهاية، في حركة تتصل من دون توانٍ حتى الإنطفاء ومن ثم تولد مجدداً. ما يبدو للناظر حركات "إيروسية" بواقع هز الأوراك والحوض والصدر، فإن الراقصة الشرقية تحمّل هذه الأعضاء انفعالات أكثر صوفية منها لحمية، لأنها في الحركة المستمرة تلغي الحاجز العازل بين الحياة والفكر. والحال، فإن منطقة الوسط هي فيزيولوجياً المركز المحفز لطاقة الجسم، فعلى نطاقها توجد وظائف التنفس والقلب والهضم والتناسل. فالحركات تنطلق من القلب والبطن، وهذا الأخير مصدر حياة وقوة وتوازن.
يبيّن كتاب روبير لانسن، "الرقص الكوني"، السند الممكن لرقص البطن، ففي رأيه أن التقليد الياباني ذا الصلة بمعظم الفنون القتالية، يُعلّم أن المركز النفس- فيزيولوجي لحكمة الجسم يكمن في "الهارا"، وهذه موضعها تحت مركز السرة بنحو سنتيمترين وبعمق سنتيمترين داخل الجسم. هذا المركز نفساوي (Psychique). ويحدد كارلفريد غراف دوركهايم أن "الهارا" أو رقصة البطن، تشير الى كل نشاط أو فن ينجز إنطلاقاً من البطن. بيد أن "الهارا" وحدها تتيح الوصول بالفن الى تمامه، وهذا يكون فعل إنسان قد حقق كلية كينونته.
لغز الجسد
طالبت الفلسفة الظاهراتية، ولا سيما تلك الخاصة بهوسرل، بتحليل محصور بالجسد وحركاته، يتيح الإلمام بالتجربة الداخلية للجسد الراقص، الذي هو في مركز الإستعراض والبحوث الكوريغرافية. وقد اهتم سبينوزا في القسم الثاني من كتابه "الأتيقا" بتقديم نظرية عن الأجسام، وإبراز الرقص في وصفه آلية (ميكانيكية) للأجسام.
يتساءل بول فاليري عن إمكان "التفلسف" (فلسفة الرقص، 1936) حول الرقص من جانب رجل لا يرقص. ففي رأيه، لا ينحصر الرقص في كونه ممارسة وتسلية وفناً تزيينياً ولعبة مجتمع في بعض الأحيان، بل هو شيء جدي، وفي بعض وجوهه مبجل جداً. فكل عصر فهم الجسد البشري، أو أقله أحس بالجانب الغامض فيه، بموارده وحدوده وتوليفات الطاقة والحساسية التي يحوزها، قد اعتنى بالرقص وبجّله. إنه فن رئيسي، تشهد له كونيته وقدمه والإستخدام الطقوسي له، كما الأفكار التي يولدها ويوحي بها.
الرقص في عرف فاليري مستنبط من الحياة نفسها، اذ أدرك الإنسان أنه يملك في نفسه عافية ومرونة أكبر، وإمكانات واسعة في مفاصله وفي عضلاته، أكثر مما يحتاجه لضرورات بقائه. واكتشف الإنسان أن بعض الحركات بتواترها وتتابعها، تجلب له لذة تصل أحياناً الى حد الإنتشاء. ويلاحظ فاليري أن بعض الفنون ولدت من نشاط عابث، ففي إمكاننا رسم دائرة، والتلاعب بعضلات الوجه والمشي بخطوات منتظمة، وهذه الحركات التي تبدو من دون طائل، أتاحت إنشاء الهندسة والكوميديا والفن الحربي. كما يؤكد فاليري أن "الفكر" غير ضروري للبقاء، بعكس باسكال الذي يربط كرامتنا بوظيفة التفكير. لكن فضولنا، يقول فاليري، طمّاع بأكثر من الضروري، ونشاطنا محفز بأكثر مما يتطلبه الغرض الحيوي لبقائنا، ما يجعلهما، أي الفضول والنشاط، يبتدعان الفنون والعلوم والأسئلة الكونية وإنتاج الأشياء والأغراض التي نستطيع، ببساطة، العيش من دونها. لكن هذه المبتكرات الحرة والمجانية لحواسنا وقدراتنا، وجدت لنفسها شيئاً فشيئاً نوعاً من الضرورة ومن الفائدة.
مهمة الفيلسوف التساؤل، لذا فإنه يقف أمام هذا النشاط المجاني الذي يملأه حبوراً، ليمارس ما يجيده متتبعاً خطى الإستجواب: ما الرقص؟ ينظر بعينين وادعتين الى الراقصة. يتبدى لفاليري أن المخلوقة الواقفة أمامه تنغلق على ذاتها في ديمومة، من صنعها هي، معجونة من طاقة آنية مؤلفة من أشياء لا عمر زمنياً لها. انها نقطة اللاثبات، وهي تجزل في عطائه. تمر عبر المستحيل وتستغل غير المحتمل. وفي جهدها لإنكار الحالة الطبيعية للأشياء، تمنح الأذهان فكرة عن حالة أخرى، حالة إستثنائية، من الفعل فحسب، ودوام يتعزز بحركة من العمل المستمر. ويمكن الفيلسوف أن يقارن الراقصة بشعلة تتعهد نفسها بالإحتراق الشديد واستهلاك طاقة من نوعية عالية.
يجهد الفيلسوف في محاولة فك لغز الجسد هذا، الذي بصدمة داخلية يدخل في حال من الحياة المتحركة والمنضبطة في آن واحد، عفوية و"عالمة"، وبالتأكيد مدروسة. يلعب مع جاذبيته ويتجاهل ما يدور حوله، لأن صلته الأساسية هي مع نفسه ومع شيء ينفصل عنه ويعود اليه: الأرض، الأرضية الصلبة التي يدوسها خلال حياته اليومية.
أخيراً، يقارن فاليري الرقص بالقصيدة. فالقصيدة فعل، لأن وجودها لا يتحقق إلا لحظة إلقائها - كتابتها، فتكون بالفعل. هذا الفعل، كالرقص، لا غاية له الإ خلق حالة. يملي قوانينه الخاصة به، يخلق أيضاً زمناً، وقياساً للزمن يتناسب معه وهو ضروري له، ولا يمكننا تمييزه من شكل ديمومته. نطق الأبيات الشعرية، في رأي فاليري، يعادل الدخول في رقص لفظي. منتهى القول عنده إن الرقص "شعر شامل لفعل الكائنات الحية".
إله يرقص
الراقص العالمي موريس بيجار، رأى إن نيتشه والرقص يشكلان كلاً واحداً. فأعمال الفيلسوف الألماني وأسلوبه ولغته واقعة تحت تأثير الرقص والحركة. يشي بذلك الإستخدام المتكرر لكلمة رقص، ففي "هكذا تكلم زرداشت" ترد هذه الكلمة نحو 64 مرة. وفي "هو ذا الإنسان"، يطلب نيتشه من الإنسان معرفة الرقص مع الرجلين والأفكار والكلمات، كما يكتب أن زرداشت "راقص" وهو "اله" الرقص والوجد والحركة. وفي عبارة له، يحملنا على الإعتقاد بأنه لا يؤمن بإله لا يجيد الرقص. وانطلاقاً من هذه الرؤية، عنون بيجار أحد أعماله "زرداشت، أغنية الرقص"، وأراد بذلك أن يبقى وفياً قدر الإمكان لإبداع نيتشه.
في اعتقاد بيجار، أن الرقص يشكل وحده عالماً بذاته مرتبطاً بالألوهة، ويمتلك لغة كونية تسمح بالتواصل بين الأعراق والثقافات، ويتسم بطابع مقدس يستعين بالقوى الغيبية. وفي عرف بيجار، فإن الرقص والله يمثلان وحدة تامة.
صدع الأرض
رأى جورج ديدي هوبرمان، مؤلف "راقص العزلات" (باريس، مينوي، 2006) الذي كرّسه لراقص الفلامنكو كالفان، إن رقص الفلامنكو هو "فن الصدم والصدع". الصدم (le choc) لأنه في الأصل خبط للأرجل في الأرض. عنده أن الرقص ليس أن تصنع أشكالاً جميلة في الفضاء فحسب، والذي وجدت فيه المثالية الألمانية "مجاز الفكر"، بل الرقص أيضاً أن تخلق في الأرض صدمات فاعلة (هدارة كما تقول الأغنية اللبنانية)، أي أن تخرج إيقاعات فيها نوع من الدنس، تتوجه الى الأرض كما لو أنها فضاء مادي منحطّ، خطوات تطرق الخشبة. كما فعل جورج باتاي في ليلة ثمل، ليؤكد لجان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي، أنه يشعر بنفسه "مفكراً راقصاً"، مفكراً نيتشوياً يملك خبطة قدم غضوبة ومرحة.
التانغو هجران وحنين
لعل الإنطباع الأول الذي يصلنا عن التانغو أنه رقص حسي ومثير، مصدره الأرجنتين. وقد عدّته الطبقة البورجوازية في تلك البلاد رقصاً غير محتشم، إضافة الى كونه ثمرة الطبقات الشعبية، قصائده مكتوبة بلغة ركيكة، ومنتج على هامش الحياة الأدبية في بوينس آيريس.
ولد التانغو في عام 1898 في القاع: في المواخير والحانات وبيوت البغاء القذرة في العاصمة، ومونتيفديو القريبة من الريو ومن بلاتا. في هذه الأحياء الفقيرة اختلط المهاجرون ولا سيما ذوو الأصول الإيطالية والأسبانية مع الرعاة الأرجنتينيين. بدأ التانغو يروي قصص السكاكين ومغامرات المهمشين والذكريات الأليمة، في نصوص مجهولة الكاتب. من خلال الرقص أخرجت الطبقات الشعبية ما يعتمل داخلها في سبيل نسيان مصاعب العيش في تلك الحقبة. اذ داخل المهاجرين كثير من الأحلام آن وصولهم الى الأرجنتين، فقد وعدوا بالأرض والمال، لكن الأرض كانت مملوكة لقلة من الناس.
في القرن العشرين عُرف التانغو على أنه موسيقى هامشية، موسيقى الأطراف والضواحي البائسة، رقص الأوباش. يمارسه المتباهون برجولتهم أصحاب المشاكل، وهو من دون فائدة، تنظر اليه باحتقار الصفوة الأرجنتينية. ولكن، ما إن أضحى التانغو موضة في باريس ولندن بعدما أذاعه البحارة بدءاً من عام 1910، حتى أعاد أهل الأرجنتين النظر فيه واستضافوه بين جدران الأحياء الراقية في الحول نفسه.
حين ظهر التانغو – الأغنية، كانت موضوعاته الرئيسية تدور حول الحزن والحنين لما مضى والهجران والخيانة. بدا التانغو شكوى الروح المكلومة، والندب السوداوي: "أريد أن أموت وحيداً/ من دون اعتراف، من دون رب/ مصلوباً بألمي/ كما لو أنني احتضنت حزني". على مستوى العبارات، استخدم المؤلفون لغة الطبقات الشعبية، لغة "الأطراف" وهي نابية تصل الى حد الإسفاف أحياناً. لهذا السبب بالذات، لم يُدرج أدباء بوينس آيريس كلمات التانغو في إطار الأدب أو الشعر.
بيد أن رواجه جعل أهل الأدب يتدخلون ويعيدون تأهيله ليناسب ذوق الصالونات الأرجنتينية. فقام باسكوالو كونتورسي المولود عام 1888 بتغيير روح كلمات التانغو، فأصبح يروي قصصاً حقيقية لها أسانيد، ووضع أسساً شعرية له. في ما بعد، قام كثير من الشعراء بالمساهمة في تطوره مانحين إياه شكلاً جديداً وطابعاً شخصياً أكثر. هذه هي حال أنريكه سانتوس ديسبولو الذي كان الرائد في الفترة القاسية ما بين 1933-1934، زمن فقدان الإستقرار الإقتصادي والأخلاقي. تناول ديسبولو موضوعات الوحدة واليأس والصخب والتمرد ونظرة متشككة ازاء العالم. ووصل بالموضوعات الكلاسيكية في التانغو (الهجران والخيانة) الى أبعاد أكثر إنسانية وأشد إيلاماً. وعبّر عن غضبه في وجه الأزمة الإقتصادية والأخلاقية، وأظهر رغبته في أن يشغل الإنسان مكانه الصحيح كي ينال نصيبه من الإنسانية. إنه تانغو "الرجل الذي يفكر" أو كما يسمّيه البعض "فلسفة ديسبولو": أسلوبه مباشر ولا يتردد في أن يستعير أصوات أبطاله اليائسين والتائهين، وهو يقول "التانغو فكرة حزينة في حالة رقص".
وقف الكاتب الأرجنتيني بورخيس موقفاً متحفظاً من التانغو، بسبب من حبه للميلونغا (milonga) الشعبية والحبورة والمندفعة، وعدّ التانغو مصطنعاً وعاطفياً. ولم يكن ليقدّر نصوصه المغناة، المكتوبة بلهجة ضواحي بوينس آيريس، في حين أن الميلونغا تعبّر في رأيه عن اللغة المشتركة للناس وتستخدم الغيتار ذا الأوتار الستة. كما أن الآلات المرافقة للتانغو (البيانو والكمان) مرتبطة بالمواخير، أمكنة الحيوات التائهة.
وعلى رغم أن بورخيس عاش طفولته وجزءاً من حياته في عز زمن التانغو، إلا أنه كان من أهل النخبة الأدبية والكوسموبوليتية، ولم يكن ليهتم بالأشكال البسيطة والمصطنعة من هذه الثقافة الشعبية التي كانت في طور الإندثار لتتحول فولكلوراً. وقد رأى في التانغو واحداً من الموضوعات التي شكلت عالمه الشخصي المتمحور حول مدينة بوينس آيريس التي رسمها مدينة خيالية تعيش خارج الزمن. رسم بورخيس شخصيات تخرج من رفوف المكتبات لترقص التانغو وتتعارك بالسكاكين. وقد خص هذا النوع من الرقص بفصل عنونه "تاريخ التانغو" في كتابه "إيفاريستو كارياغو" وهو عبارة عن سيرة للشاعر الهامشي وغير المعروف كارياغو، المتوفى عام 1912 عن عمر 29 سنة. وقد اغتنمها فرصة ليكتب حكاية تمزج الوقائع بالخيال عن الحياة في الأحياء الشعبية والفقيرة في بوينس آيريس، عن عالم التانغو والزعران والشجارات وبيوت البغاء والفتيات المسلولات ¶
عفيف عثمان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد