حياة يومية للماضي
يكاد مفهوم "الحياة اليومية" أو فكرتها يكونان محصورين بالحياة العصرية والحديثة، أكثر تحديداً بالراهن، والتصاقاً بالفرد، بكلّ فرد على حدة. كأن الحياة تحدث اليوم. هذا ما تريد عبارة "الحياة اليومية" قوله أو الإيحاء به على الأقلّ. كأن كل يوم هو حياة قائمة بذاتها. بيد أنه في مقابل هذين التمجيد والإعلاء، فإن التعبير المراوغ نفسه يحيل على الرتابة والضجر. بقدر ما يجزّئ ويفصل، يصل ويربط، وبقدر ما يجعل لكلّ يوم قيمة مستقلة، يجعله بلا معنى، ما لم يكن جزءاً من التسلسل الذي يستقيم فيه معنى الرتابة حقاً.
وإلا، عندما نقول "الحياة اليومية"، فضدّ ماذا، وعكس ماذا؟ الحياة الأبدية، السرمدية؟
لعل ارتباط "الحياة اليومية"، في أذهاننا، نحن أبناء هذا الزمن، أي أبناء هذه الحياة اليومية – وهو ارتباط لا يخفي نرجسية على كل حال- ينبع ربما من ارتباط اليومي بدورة حياة مدينية تبدو ثابتة مستقرة (حتى وإن كان هذان الثبات والاستقرار هما حال الحرب مثلاً، أو الحصار أو المجاعة أو الديكتاتورية. فالبؤس يتمتع بالاستقرار أيضاً) على شكل وهيئة، يتوزعان غالباً في الحيز المديني بين الوظيفة وأوقات الفراغ، أو بين الأدوار التي يلعبها الفرد في المكان والجماعة. وتبدو الحياة اليومية دوماً من أعمال الحاضر المحموم وأشكاله، فلا تستدعي ذاكرة المرء من الماضي، حتى الماضي الفردي والقريب، إيقاعاً أو نسقاً، بقدر ما تستدعي نتفاً وشذرات ولمحات ومحطّات.
الحياة اليومية تنتهي بنهاية اليوم نفسه. كل ما قبل ذلك هو "التاريخ" أو "الماضي"، وكل ما بعد ذلك هو "المستقبل" أو "المجهول". وإذا كان المستقبل معلقاً دوماً، بين احتمال أن نكون أو لا نكون فيه أساساً، فإن "الحياة اليومية" فيه شبه معدومة أو موضع تخيّل وتخمين فحسب. فهل يمكننا أن نتخيّل حياة يومية للماضي أو التاريخ؟ أم أن الإعلاء من شأن اليومي، ولصق الحياة به، يحول دون ذلك؟ أم لعله العكس تماماً، أي أنه إعلاء من شأن الماضي: هناك حيث حدثت الأمور المهمة، أو حيث تحدث. ذلك الحيّز المزدحم بالتواريخ والأسماء التي قادت إلى "هنا".
خطرت لي هذه الأفكار خلال قراءتي سلسلة "غرينوود" الموسوعية الأميركية التي تحمل عنوان "الحياة اليومية عبر التاريخ". فهذه السلسلة الفريدة من نوعها قامت من المفارقة الصعبة: الجمع بين الحياة اليومية والتاريخ. كيف كان الناس يعيشون في زمن "العهد الجديد"؟ أو في زمن الرومان؟ أو المغول؟ أو الأزتيك؟ او في أيام الهولوكوست؟ أو محاكم التفتيش الإسبانية؟ أو في العصور الإسلامية الوسطى؟ أو خلال الحرب العالمية الأولى؟ ثمة في الأجوبة التي يقدّمها علماء اجتماع وأنثروبولوجيا وأركيولوجيا وتاريخ، ضمن هذه السلسلة الضخمة التي يجري العمل حالياً على ترجمتها إلى العربية، ما يتجاوز فكرتنا الضيقة عن الحياة اليومية والتاريخ معاً. بداهة أنه كان هناك حياة يومية قبل العشرات والمئات والآلاف من السنين، ربما تكون مفاجئة، بالتحديد لأنها بديهية إلى هذه الدرجة إنما افتراضية في غالب الأحيان، حتى الآن. وفي الوقت الذي يمنح التاريخ الحياة اليومية بعداً أثقل ومعنى أكبر يتجاوزان العابر والضائع، فإن الحياة اليومية تلقح التاريخ ضدّ الإيديولوجيا. لا يعود كتلة ثابتة، ومجموعة من المواقف والصور النمطية والخلاصات الثابتة. لا يعود الأحداث الكبرى وحدها، بل الناس، وغالباً الناس العاديين الذين صنعوا هذه الأحداث، وصنعوا تفاصيل حياة تتجاوز اللحظات المصيرية الكبرى: كيف كانوا يستيقظون صباحاً؟ ماذا كانوا يلبسون؟ كيف كانوا يمارسون الجنس؟ كيف كانت طرقهم؟ طعامهم؟ أثاثهم؟ بدقة أكبر: ما كان نوع التعليم الذي يحصل عليه طفل الأزتيك، وما نوع العقاب الذي يتلقاه من معلمه؟ ماذا كانت تفعل طفلة الإنكا حين تصل سنّ البلوغ؟ وكيف كانت تتزوّج؟ ما نوع الدمى التي كان يلعب بها الطفل الياباني في القرن الثامن عشر؟ أكثر من ذلك: ما هي المقادير والوصفات الدقيقة للطبخات التي كانت تعدّها البيوت في الكثير من الحضارات القديمة؟
صور مبهجة، ملوّنة، متحرّكة، مليئة بالحياة بسبب امتلائها بالتفاصيل الصغيرة، وذلك بالتحديد ما يجعلها أحياناً مفعمة بالألم، لا سيما في الكتب التي تسرد الحياة اليومية في زمن الحروب الآسيوية المعاصرة، أو الحرب العالمية الأولى. لا تعود المسألة مسألة عشرين ألفاً سقطوا بين ليلة وضحاها في فرنسا مثلاً، بل المكان، والجو، والأفكار، والمشاعر، التي عاشها كل واحد من هؤلاء، قبل أن يلاقي حتفه. الأمر نفسه ينطبق على الهولوكوست ومحاكم التفتيش. لا تعود المسألة مسألة اتخاذ موقف أخلاقي أو إيديولوجي، حتى من عمليات طقوسية قاسية مثل القرابين البشرية لدى بعض البشر. فمثل هذا الموقف متخذ سلفاً وربما بطريقة مبالغ فيها أحياناً. يصبح الأمر متعلقاً بالرؤية، بالمشاهدة، بالفحص والتدقيق، لا بالأفكار العامة والنمطية، بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها.
ربما يغدو الإنسان الحديث الغارق في نرجسيته، أكثر تواضعاً والتصاقاً بالأرض، حين يرى أن شخصاً آخر، لا يقلّ عنه تطوراً وارتقاء، خيراً أو شراً، إبداعاً أو كسلاً، إلحاداً أو إيماناً، عاش قبله بمئات السنين، وكانت له حياة يومية، ما زالت في غالب الأحيان مستمرة تحت التراب والشواهد والأضرحة .
سامر أبو هواش
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد