كيف يفكّر جمهور "حزب الله"؟ وما هو سر حسن نصرالله (3-3)
السيّد حسن نصر الله هو الشخصية المحورية التي ساهمت في صنع هالة "حزب الله" وجماهيريته. طلع من بيئة فقيرة لم ينسها البتّة بل احتضنها وتجاوب مع هواجسها وحصّن مواقعها. اليوم يطبق السيّد عامه السادس والأربعين، وهو يترك أكثر من انطباع لدى كل من يرغب في سبر تفاصيل حياته وأبعاد شخصيته.
أنصت الإمام الخميني بانتباه شديد الى كلمة السيد حسن نصر الله الذي زاره عام 1986 مع وفد من شورى "حزب الله" في طهران. ولما خرج الوفد من حضرة الخميني لفت الأخير المسؤولين الإيرانيين قائلا لهم: "حافظوا على هذا الشخص واحموه، لأن مستقبله باهر".
يروي النائب السابق عبد الله قصير أن الإمام الخميني كمرجع ديني وبعدما أصدر مرّة إجازات خطية بتسلم الحقوق الشرعية وصرفها ضمن الموارد المقررة شرعا لكل المشايخ والعلماء في الشورى، ميّز ورقة وحيدة، هي تلك التي تخص السيد نصر الله، إذ ذيّلها بسطر فيه: "أطلب من صاحب هذه الإجازة أن يدعو الله لنا بالتوفيق". كلام الإمام الخميني كان مثيرا للدهشة، خصوصا أن الجميع كانوا يطلبون منه الدعاء لهم.
تبوّأ السيّد حسن نصر الله المسؤوليات القيادية مذ كان في الـ18 من عمره، لذا تحفل مسيرته بالخبرة والنضالات.
أبصر السيد حسن نصرالله النور في 31 آب عام 1960 في حيّ يطلق عليه إسم شرشبوك في منطقة النبعة، أما أصل عائلته فمن البازورية في جنوب لبنان. والده عبد الكريم نصر الله صاحب دكان للمواد الغذائية، ووالدته نهديّة صفيّ الدين وهو ابن عائلة مؤلفة من اربعة صبيان وخمس بنات.
متأهل من فاطمة ياسين، إبنة الشيخ مصطفى ياسين وله منها: هادي الذي استشهد في عام 1997 أثناء مواجهات مع الإسرائيليين، جواد وعلي وزينب.
أتمّ دراسته الإبتدائية في مدرسة "النجاح" في النبعة، أما دراسته التكميلية فأتمّها في "الثانوية التربوية" في سن الفيل، فيما تابع الصف الأول الثانوي في صور بعدما غادرت عائلته النبعة عام 1974 قاصدة البازورية. أسّس في مسقط رأسه مكتبة صغيرة بالتعاون مع الشيخ علي شمس الدين، وهناك بدأ يظهر ميله الى التعمق في الدين الإسلامي. "بعد انتقال عائلته الى قريته البازورية عام 1975 راح حسن يدعو أولاد القرية الى المسجد لتعلم الصلاة على يد الشيخ محمد علي شمس الدين محاولا أن يعبئ رفاقه ويدفعهم الى الذهاب الى المسجد لسماع الدرس وقراءة الدعاء مما أثار حفيظة الشيوعيين واليسار، فكمنوا له وضربوه لمنعه من خلق جوّ من التدين"، يروي عضو المجلس المركزي في "حزب الله" ونائب الحزب سابقا عبد الله قصير، وهو صديق مقرّب للسيد حسن نصر الله منذ العام 1982 عند بدايات نشوء الحزب وقبل الإعلان عن إسمه في شكل رسمي.
كان نصر الله في الخامسة عشرة من العمر عندما انضوى في صفوف حركة المقاومة الإسلامية "أمل" التي أسسها الإمام المغيّب موسى الصدر وقد حمل له حسن الصغير إعجابا كبيرا. ويروي في مجالسه الخاصّة أنه كان يجلس في دكّان والده في النبعة متأملا صورة الإمام المعلقة على الحائط متمنيا أن يصبح على غراره عندما يكبر.
الى النّجف، مقصد الطلاب الشيعة الراغبين في التعلّم على يد كبار الفقهاء، توجّه حسن عام 1976، هناك تتلمذ على الشيخ عبّاس الموسوي. عام في النجف ثمّ عاد الى لبنان بسبب مضايقات الاستخبارات العراقية وتابع تحصيله الديني في "مدرسة الإمام المنتظر" التي أسّسها السيّد عباس الموسوي في بعلبك، وكان مديرها والأستاذ فيها. تولى مسؤوليات تنظيمية في البقاع وصار المسؤول السياسي للحركة وبقي عضوا في مكتبها السياسي حتى حزيران عام 1982، عندما تركها مع عدد من الكوادر فيها لتأسيس "حزب الله".
عام 1987 أصبح عضوا في هيئة الشورى في الحزب ورئيسا لهيئته التنفيذية، وتولّى مهمات التعبئة الفكرية الى العام 1992 عند انتخابه أمينا عامّا عقب اغتيال السيّد عبّاس الموسوي، وجدّد انتخابه أمينا عاما منذ ذلك الحين.
أسباب تألقه والثقة به
المرّة الأولى التي التقى فيها النائب السابق عبد الله قصير بالسيد حسن نصر الله كانت عام 1976 في النجف الأشرف، حيث كان السيد لم يزل طالبا يافعا في السادسة عشرة من العمر يدرس في الحوزة العلمية وتحديدا في المدرسة "الإزرية" فيما يكبره قصير بأربعة أعوام ويدرس في مدرسة أكاديمية تبعد من الحوزة المختصة برجال الدين مسافة أمتار.
سرعان ما لمع إسم السيد حسن طالبا مميزا في دراسته "الحيزوية". " برز ذكاؤه بحدة بشهادة أساتذته ومنهم السيد عباس الموسوي والشهيد السيد محمّد باقر الصدر اللذين شهدا مع أساتذة آخرين لفطنته وسرعة بديهته وقدرته الإستيعابية"، كما يروي قصير.
بالإنتقال الى لبنان عام 1978 تابع السيد نصر الله دراسته في حوزة الإمام المهدي في بعلبك وتبوّأ المسؤولية السياسية في حركة "أمل" عن منطقة البقاع وهو لم يتجاوز الـ18 من العمر، فيما تولى صديقه قصير المسؤولية في الحركة عينها في منطقة بئر العبد. حمل نصر الله لقب السيد منذ مولده وقبل أن "يتعمّم" في النجف، أي قبل أن يلبس العمامة السوداء التي تنحصر في رجال الدين الذين يتحدرون بنسبهم من أهل البيت. مع مرور الوقت وبعدما انتقل من صفوف الحركة بسبب اختلاف النظرة في القتال مع إسرائيل الى تشكيل الخلايا الأولى لـ"حزب الله" بين عامي 1983 و 1984، تسلّم السيد نصر الله المسؤولية التنظيمية في البقاع ثمّ انتقل الى العاصمة بيروت حيث تولى مسؤوليتها بالإضافة الى التعبئة العامة. في تلك المرحلة توطدت علاقة قصير المسؤول الإعلامي في "حزب الله" بالسيد نصر الله وصار على احتكاك يومي ومباشر معه، وخصوصا أنهما صارا جارين وهما الساكنان في بئر العبد مقابل الجامع.
"بدأت في اكتشاف شخصيّة السيّد منذ العام 1985 ولاحظت كم أنه شخصية قيادية متميّزة جدّا".
هذا التميز الذي يجمع عليه جمهور "حزب الله" في طبقاته المختلفة يفسّره قصير بعوامل عدّة، في طليعتها إخلاص نصر الله العميق للقضية التي يؤمن بها، بل ذوبانه فيها لا يشغله عنها أمر شخصي أو حتى عائلي أو أي اعتبارات بروتوكولية أو شكليات أو مسائل إدارية، "لا يكفّ السيد عن التخطيط لأي موضوع يختص بالقضية، يجيّر له طاقاته كلّها وفكره واحاسيسه". ويذهب قصير بعيدا معتبرا أن هذا الإخلاص "يجلب حالة التوفيق الإلهي اي الإلهام، "ففي عقيدتنا الإيمانية الشيعية الإثني عشرية أن من خلص لله سبحانه وتعالى أربعين يوما وليلة يجري الله الحكمة على لسانه، أي انه يصبح إنسانا مسدّدا وملهما"، يضيف قصير: "إكتشفت مع الوقت أن السيد حسن هو من هذه الطينة في طريقة أدائه وتعاطيه الأمور".
يرى قصير في السيد نصر الله ذاك "التعبد الحركي"- كما يسميه - أو التعبد العملي "فهو يعيش واقع الحياة، لا ينزوي في البيت أو المسجد ولا يترهب، بل يتعبد وسط الناس ويتعامل مع القضايا كلّها بروح متعبّدة. تجلّى ذلك بوضوح في مسيرته الحزبية مما استقطب شريحة واسعة من العاملين معه إذ غرس فيهم روحية الإخلاص والتفاني في سبيل المقاومة".
ميزة أخرى يتحدّث عنها جميع من يعرف السيد نصر الله من كثب تكمن في التصاقه بقضايا الشباب وحمله همومهم ودعمه قضاياهم واحتياجاتهم العملية والشخصية والحزبية، "عندما يلتقونه لا يلتقون مديرا لمجموعة عمل بل أبا روحيا يزرع الحماسة والروحية العالية ويجعل الإنسان يشعر بأن المشاكل التي يواجهها ليست ذات قيمة أمام الهدف الذي يسعى إليه. كنا نقصده للشكوى من مسائل في النطاق العملي، فيحوّل الشعور لدينا قائلا أن هذه ليست عوائق بل يجب تجاوزها لأن الهدف أكبر واسمى"، يروي قصير.
يتميّز السيد نصر الله بمرحه، فهو صاحب شخصية سلسة على صعيد العلاقات الشخصية، قليل الغضب وإذا غضب لا يظهر انفعالاته التي سرعان ما تزول.
لديه ذكاء حادّ وقدرة على إقناع الطرف الآخر في الجلسات التنظيمية كما يجمع عارفوه، "من النادر أن يطرح رأيا في موضوع معيّن ويعجز عن تسويقه لدى الفريق المعني اتخاذ القرار معه. فهو يقدّم الفكرة بمنهجية مقنعة متسلسلة وواضحة ومدعّمة بالحجج والبراهين تجعل الشريك يقتنع بوجهة نظره"، يخبر قصير.
ثقافة الإستشهاد
عرف السيد نصر الله ساحات الوغى مقاتلا يعشق العيش مع المقاتلين المحاربين على الجبهات، كان يندفع للذهاب الى الجبهات أحيانا في الخفاء ومن دون معرفة القيادات المسؤولة كي لا تمنعه من ذلك. شارك في القتال مرات عدة في عامي 1985 و 1986 كذلك في عامي 1988 و1989 أثناء حصار إقليم التفاح حيث حوصر مع شباب "حزب الله" لثلاثة أشهر. تدريبه العسكري كان في مدينة بعلبك على يد الحرس الثوري الإيراني الذي نشط في تدريب المقاتلين أثناء الإجتياح الإسرائيلي، وتابع دورات قتالية عدّة إستمرت اشهراً عدة.
عزّز السيد نصر الله ثقافة الإستشهاد في "حزب الله"، "وتعود هذه الثقافة في جذورها الإيمانية الى كربلاء والى الإيمان بأن الإمام الحسين كان في كربلاء إستشهاديا بمعنى أنه بذل دمه في سبيل حفظ قضيته وإعلائها في الأرض، ونحن نؤمن بأن الإسلام ولد محمديا واستمر حسينيا ولولا هذه الشهادة لما استمر الإسلام بحضوره الصافي والنقي" يقول قصير.
جسّد السيد نصر الله هذه الثقافة عمليا وربّى شباب "حزب الله" عليها، وخصوصا أنه كان مسؤولا عن التعبئة التي لا تنحصر في استقطاب العناصر بل في تعبئة هؤلاء ثقافيا وروحيا وفكريا، وكانت الثقافة كربلائية من كون الشهادة في سبيل الله هي أعلى مرتبة قد يصل اليها الإنسان.
آمن السيد بهذه الثقافة التي علّمها لجمهوره وعمل بحسبها مما ساهم في تمتين عامل الثقة بينهما، "المشاركة المباشرة من القيادة مع العناصر في مواقع القتال تعطي هذه الثقافة نوعا من التجسيد الواقعي والصدقيّة ولا تبقيها نظرية: فعندما يرى العنصر أن المسؤول معه يتعرض للخطر مثله يشعر بمدى صدقيته وهو يمارس ثقافة الإستشهاد، هذا ما مارسه السيد وتجلى في استشهاد إبنه" يروي قصير.
شكّل استشهاد هادي إبن الـ19 ربيعا مفصلا رئيسيا ونوعيا في نظرة الجمهور الخارجي الى الحزب، باعتبار "أن هذه القيادة التي تضحي بإبنها البكر في مواقع القتال والشهادة هي صادقة لأنها تضحي بأغلى ما عندها". بدوره تعرض السيد حسن نصر الله لمخاطر جمّة في حياته ولمحاولات اغتيال عدّة كانت اسرائيل وعملاؤها يخططون لها وتحبط أحيانا قبل دقائق عدة من كبس الزناد.
عام 1989، وقبيل دقائق من اعتلاء السيد نصر الله المنبر، أجرى المنظمون الكشف الأخير للمسرح واكتشفوا أن باقة الورد الموضوعة في إحدى الزوايا مفخخة ومعدة للتفجير، فأبعدوها من دون ضوضاء وتكلم السيد وكأن شيئا لم يكن.
كذلك اكتشفت محاولات إغتيال أخرى، وخصوصا بين عامي 1985 و 1988 في الطريق أمام منزله السابق في بئر العبد، حيث فخخت الشتول على ضفتي الطريق والأرصفة وذلك قبل أن ينتقل للسكن في حارة حريك قرب الأمانة العامة.
قائد حنون
في الضفة العائلية يوصف السيد نصر الله بأنه "حنون جدّا"، وخصوصا تجاه المجاهدين وعوائل الشهداء لا يردّ لهؤلاء طلبا، "أحيانا نقول له "تزوّدها" نظرا الى تجاوبه السريع مع اي طلب" يقول قصير.
لم يتردّد السيد نصر الله في الموافقة على طلب أحد المجاهدين ليد إبنته الوحيدة زينب التي تزوجت عام 2001 حسن قصير، شقيق الإستشهادي الأول للحزب الشهيد أحمد قصير، وقد استشهد شقيقه الثاني ربيع في الحرب الأخيرة.
وقصير هو من العائلات المتواضعة ماديا، "أثار الأمر صدمة في صفوف المسؤولين في الحزب الذين رأوا من الصعب أن يزوج السيد ابنته الوحيدة لشخص ليس ابن عائلة معروفة" يقول عبد الله قصير. لكن السيد قال للشاب الذي أضحى صهره: "أتشرف بأن أعطي ابنتي لعائلة شهيد"، فاشترط عليه الشاب أن يبقى في صفوف المقاومة على الجبهة فأجابه السيد: "هذا طلب طبيعي ومقبول جدّا".
عائليا أيضا كان السيد نصر الله ورغم الظروف الإستثنائية التي عاش فيها ولا سيما غيابه الطويل عن العائلة، هادئا في التعامل مع عائلته وملبيا طلباتها، كان يحرص دائما على زيارة والده ووالدته في ساعات الفجر الأولى أو في ساعات متأخرة من الليل مظهرا لهما محبته وعطفه أو يرسل وراءهما لرؤيتهما.
درج السيد نصر الله قبل عام 2000 على تخصيص أوقات لاستقبال الناس، وكان يستعين بجهاز خاص في مكتبه من أجل متابعة الطلبات التي يقدمها هؤلاء. لكن بعد ارتفاع درجات الخطر والتهديد أوقف هذه اللقاءات. لكنه يحب أن يكون موجودا دائما مع الناس العاديين. قبيل الحرب الأخيرة كان يصرّ على زيارة عوائل الشهداء حتى أنه كان يكتب كتاب من يرغب في ذلك معتبرا ان ذلك هو متنفّسه الوحيد للقاء الناس. والطريف أن بعض الأزواج كانوا يسجلون أسماءهم لكتب الكتاب للمرة الثانية بغية لقائه، وهو كان يقسم هؤلاء على أيام عدة ويسمح للعروسين باستضافة 10 اشخاص في دارته.
قال السيّد...
السيد نصر الله يملك ملكة الخطابة، ولديه قدرة على تسويق أفكاره في أسلوب جذاب ومن أقواله مثلا: "أعلن أنه إذا كان نزع صفة الإرهاب يقتضي أن نتخلى عن إسلامنا ومقاومتنا وسلاحنا في رفض الهيمنة الأميركية والإسرائيلية، فليسجّل الأميركيون: نحن إرهابيون الى الأبد". (السفير 21/9/1995).
وله قدرة على استشراف التطورات، ففي حوار أجرته معه صحيفة "السفير" في 27/1/1997 قال:
-" نحن معارضة، لكننا لا نريد صداما مع السلطة.
- نتوقع عدوانا أكبر من عدوان نيسان 1996 وأصغر من إجتياح 1982.
ورغم إيمانه العميق إلا أنه بعيد من المظاهر غير المناسبة، ناشد المحتفلين في ذكرى عاشوراء بقوله "على جميع الذين يقومون بمظاهر الضرب على الرأس أن يتركوا القيام بهذه الأعمال التي تستغل من أجل الإساءة الى الشيعة والإسلام. من يريد أن يواسي الإمام الحسين بدمائه يتوجه الى ثغور المقاومة ويتبرع بهذا الدم لجرحى المقاومة والإعتداءات الصهيونية" (النهار 26/4/1999).
وصف نهج "حزب الله" السياسي بأنه "واضح، ولا نختبئ خلف الإصبع ولا نطلق شعارات فارغة، نهجنا مقاومة الإحتلال والحرمان والإهمال في الداخل. قد يظنّ البعض ويتوهّم بأننا مقاومة ضدّ الإحتلال فحسب وجوع الناس وفقرهم وعطشهم واحتياجاتهم لا تعنينا، هذا وهم. نحن الذين نقدّم الدّم ونريد عزّة شعبنا وسعادته" (النهار 24/5/1997).
هذا النهج ينسحب أيضا على حياته الشخصية ومسيرته القيادية وسلوكه اليومي مما جعل منه القائد الأوحد لجمهور ليس بقليل.
مارلين خليفة
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد