الحرب في حدّ ذاتها
في كتابه "الحرب قوة تمنحنا معنى"، يقول المراسل الحربي السابق لـ"نيويورك تايمس" كريس هيدجز: "غالباً ما تكون حمّى المعركة إدماناً قوياً وقاتلاً. ذلك أن الحرب مخدّر". الكلمات الثلاث الأخيرة هي التي تفتتح بها كاثرين بيغلو فيلمها "خزانة الألم". يبدأ دنيس جونسون روايته الضخمة، "شجرة الدخان"، عن حرب فيتنام، بمشهد صادم محيّر. المجنّد الأميركي يمشي في الأدغال بحثاً عن خنازير برية يصطادها، "مدركاً مدى انفعاله. فمن جميع الجهات المحيطة به انبعثت آلاف الأصوات". يشبه خطوه في تلك البيئة الغريبة، خطو خبير تفكيك المتفجرات في بغداد في فيلم بيغلو، حيث كل شيء وكلّ شخص يمكن أن ينقضّ عليه. يرى المجنّد هيوستن قرداً يتحرك على شجرة فيصوّب بندقيته من دون كثير تفكير، ويطلق الرصاص. ثم يقترب المجنّد من القرد المحتضر:
"صاح بالقرد: أيها الرب الرحيم! كأنه يجدر بالقرد أن يفعل شيئاً حيال وضعه المحرج الشنيع. شعر أن رأسه سينفجر إذا ما واصلت الظهيرة الاشتعال في الأجمات من حوله، والنوارس زعيقها، وإذا ما استمر القرد في النظر بتمعّن حوله، محرّكاً رأسه وعينيه السوداوين من طرف إلى آخر، وكأنه شخص يتابع مسار محادثة أو جدال ما، نوعاً من النزاع الذي يخوضه الدغل، في ذلك الصباح، في تلك اللحظة، مع نفسه. اقترب هيوستن من القرد وألقى البندقية إلى جانبه، وحمله بكلتا يديه، واضعاً يداً تحت مؤخرته، والأخرى تحت رأسه، ليكتشف - أولاً بذهول، ثم بنفور - أن القرد يبكي. خرجت أنفاسه شهقات، وتدفقت الدموع من عينيه كلما رمشت...".
سوف نرى (نقرأ) مشاهد "حربية" أخرى في الرواية، منها ما هو أكثر مباشرة وفظاعة. جنود مذعورون يركضون في الأدغال، وسط تساقط القذائف المدفعية حولهم وعليهم، جنود يحرقون أكواخ الفلاّحين، جنود يعذّبون أسيراً، جنود يتناوبون على اغتصاب امرأة فيتنامية ويقتلونها، جنود تقتلع أحشاؤهم الخ. غير أن هذا المشهد – القرد المحتضر – سيظلّ الأكثر مثولاً في الذاكرة، الأكثر تعبيراً ليس عن قسوة الحرب أو بشاعتها أو ما إلى ذلك، بل عن "حقيقتها"، تلك الحقيقة المراوغة المتنقلة بين الرعب والعبث والخفة والجبن والشجاعة وحتى الحياة. يصف الكاتب في لحظة أخرى، اندفاع جندي في لحظة عفوية غير واعية لكي يقفز فوق قنبلة يدويّة ألقاها أحد الفيتكونغ داخل الغرفة التي يجتمع فيها وجنراله وآخرين. يقول جندي آخر مستذكراً تلك اللحظة بعد سنوات: "الحرب هي الحركة. التفكير يؤدي إلى الخيانة. قال لي عمي مرة إنه رأى جندياً يرمي نفسه على قنبلة يدوية. أتظنين أن هذا الشاب فكّر في الأمر أولاً؟ لا، الشجاعة هي الحركة. التفكير جبن".
ليست الشجاعة ما تلتقطه بيغلو في فيلمها، وما نالت عليه ثناء مستحقاً، بصرف النظر عن جائزة الأوسكار. ليست محض الشجاعة بالأحرى. ما يبدو كاوبوي أميركياً نمطياً يقتحم بجسده ألغام بغداد، ليس إلا واحداً آخر من أولئك المدمنين، لا يفعل ذلك مدفوعاً بأي مثل أو قيم أو خطابة جوفاء عن الحرية والدفاع عن البشرية وما إلى ذلك. يحتفظ هذا الجندي ببقايا القنابل التي يفكّكها كتذكارات عزيزة. بالأحرى كتعازيم، من دون أن نعرف ضدّ ماذا، غير أنها بالتأكيد ليست ضدّ الموت، بقدر ما هي في مديح الحرب. يعود الجندي إلى دياره، غير أنه مثل الجنديّ في رواية دنيس جونسون تماماً، إذ يكتشف أن هناك، في الديار لا ينتظره سوى الخواء، يقرّر العودة إلى دورة جديدة.
لعلّ هذا العنصر القديم/ الجديد الذي التقطه الفن (فيلم بيغلو) والأدب (رواية جونسون)، من فيتنام إلى بغداد، حول جوهر الحرب. الحرب، وبقدر ما تتعلق بمصائر بلدان وجماعات، تتعلق أيضاً بمصائر أفراد. لكن هذا يمكن أن نعزوه إلى الجزء "القديم" من قراءة الحرب. الجديد هو الحرب منزوعة من كل قيمة أو مثال أو درس أو فكرة أو صورة. ما أربك مشاهدي فيلم بيغلو (خصوصاً العرب منهم)، وجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف واضح من الفيلم (معنا؟ ضدنا؟) هو نفسه ربما ما أربك قرّاء "شجرة الدخان": غياب الدرس؛ ما اعتادوا التعلق به في معالجة الحرب لكي يأخذوا موقفاً ما. هذا الفيلم مع الأميركان أو ضدهم، مع الحرب أو ضدّها. هذا بات يمكنك الحصول عليه من نشرات الأخبار في عصرنا. من التغطيات المباشرة وسيل التحقيقات التي تريك ضحايا الحرب وآثارها وسيل المقالات التي تدين هذا الطرف أو ذاك، وتناشد ضمير الإنسانية... إلخ. قبل هذا كله وبعده، تبقى الحرب نفسها؛ حقيقتها؛ جسدها؛ ليس ما أدى إلى الانفجار التي يفسّرها كل واحد منا على هواه وبحسب خلفيته الإيديولوجية والسياسية، ولا نتائج الانفجار، التي ربما أيضاً تخضع إلى تعدّد القراءات والتأويلات. بل لحظة الانفجار نفسها؛ تلك الذرّات التي تنفجر ذرةً ذرة؛ ذلك الدم الذي يسيل داخل خوذة الجندي كأنما على واجهة. تلك الدموع الغامضة التي تنهمر من عيني قرد، من دون أن يعرف هو نفسه سبباً لها ¶
سامر أبو هواش
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد