مرسيل خليفة في قلعة دمشق حوار أجيال خلاق
أجمل ما في حفلات مرسيل خليفة في قلعة دمشق أخيراً أنها كانت بحق حواراً خلاقاً بين أجيال، فعلى الخشبة ستجد أغنية لها من العمر أكثر من ثلاثين عاماً، ولكن قلبها نابض بالعازفين الشباب، وارتجالاتهم الحرة التي قد تصل إلى حد نسيان المرء للأغنية وقالبها الأساسي. ربما ساعد وجود ولديْ مرسيل (بشار على الإيقاع، ورامي على البيانو) على ولادة حوار الأجيال هذا من دون عناء، إلى حد أن أغنية «جواز السفر» صارت أشبه بلازمة في حفلات مرسيل، ففيها تقع ارتجالات حرة وجميلة يقدمها رامي خليفة على البيانو، وكذلك صارت «يا بحرية» لازمة أيضاً، فهي تتيح عزفاً منفرداً للكلارينيت (هذه المرة مع اسماعيل لومانوفسكي)، وللإيقاع والناي (مسلم رحال) إلى جانب حوارية جميلة بين عود مرسيل وبزق محمد عثمان.
تلك الجدة في أعمال مرسيل كان لا بد منها، ولعلها أبسط ما يمكن القيام به من أجل أن يكون الفنان راهناً، لأن حفلات من هذا النوع يأتي الناس غالباً إليها ليسمعوا أصواتهم هم. وقد يكون الأمر مجرد لقاء مع الذاكرة، وفي أحيان كثيرة جزءاً من عدة الحرب، التي تحيا وتموت حسب مقتضى الحال. من يتذكر حفل مرسيل في ملعب كرة السلة في صالة الفيحاء بدمشق 2008 سيتذكر ذلك الجمهور الحربي، الذي انقسم على عدد الأحزاب، في حرب أعلام صريحة. قال الجمهور حينها كل ما يريد، ومع ذلك بقي هو الخاسر الأكبر.
موسيقيون سوريون
جمهور قلعة دمشق (2500 متفرج) جاء بلا أعلام، ولذلك بدا حقيقياً وأكثر وفاء، لمرسيل وللموسيقا. استمع حين وجب الاستماع، وغنى حين حق الغناء. كما غنى مرسيل ست عشرة أغنية، من كلمات طلال حيدر «أحلى من الركوة»، «بغيبتك نزل الشتي»، «سجر البن»، «لبسوا الكفافي». ومن كلمات محمود درويش «الكمنجات»، و«ريتا»، وتعاليم حورية»، «أجمل حب»، و«جواز سفر». كما قدم من كلمات أدونيس «انهض يا ثائر»، وللحلاج «يا نسيم الريح». وشارك مرسيل الغناء يولا وأميمة خليل التي غنت «عصفور طل من الشباك» بعد أن أهداها مرسيل «إلى السجناء العرب في السجون الإسرائيلية»، قبل أن يستدرك «وإلى السجناء العرب في السجون العربية»، وعزفت الفرقة موسيقى تانغو بعنوان «تانغو لعيون حبيبتي» أهداها مرسيل إلى تشي غيفارا.
المهم أن الموسيقى قد نجت بنفسها من صخب محتمل، رغم أنه (الصخب) قد وقع بالفعل في بعض الأحيان. لا ندري، ألا يمل المرء من أن يظل «منتصب القامة» على طول الخط؟ أما آن لهذه القامة أن تترجل لتستمع إلى صوت أكثر حناناً؟!
وبالنسبة إلى «مينا»، المؤسسة التي استضافت حفلات مرسيل، فما يعنيها هو هذه الفسحة التي أتيحت من أجل العازفين والمغنين السوريين، حيث فرقة مرسيل في حفلات القلعة كانت في معظمها من السوريين. ما تعتبره دنيا الدهان، الاستشارية في «مينا»، تحقيقاً لأهداف ولدت مع احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». ومن بين أبرز العازفين السوريين محمد عثمان (بزق)، مسلم رحال (ناي)، فراس شهرستاني (قانون)، وكنان إدناوي (عود)، ومن المغنين شادي علي، وليندا بيطار، وسواهم. بالطبع إلى جانب زملائهم من لبنان وجنسيات أخرى؛ كعازف الكلارينيت اسماعيل لومانوفسكي والأكورديون أنطوني ميلليت والباص مارك هيلياس، وعازف الطبل ألكسندر بيتروف.
سعر باهظ
لكن أكثر ما يلفت تلك النبرة العالية التي قدم بها مرسيل لحفلاته في دمشق، إذ كتب في بيان صحافي سابق «نلتقي في دمشق لنبوح بإيمان حار بالإنسان والفن والجمال في زمنٍ آسن يسيجه طاغوت المال وشراهة التسليع لكل القيم الرمزية. نعود إلى دمشق لنكتشف عيار نسبة السلامة في الذائقة الجمالية للجمهور أمام طوفان التفاهة المصنوعة في فضائيات الابتذال». وأضاف «نريد أن نعيد الإيمان بأن الإنساني في الناس لا يُسحق تحت أقدام الترويض البذيء، وأن الجميل يخرج دائماً من رماد الحرائق الثقافية المدبّرة».
إهدأ يا مرسيل، هذا الكلام لم نعهده في لغتك؟ ثم أليس في كلامك شيء من الغرور واحتكار «الإيمان بالفن والجمال»، أم هي ضربة استباقية لمواجهة من يعترض على «الذائقة الجمالية العالية» التي تتفرد بها؟ وإذا كنت حريصاً إلى هذا الحد على «القيم الرمزية»، وضد «التسليع»، لماذا هذا السعر الباهظ نسبياً لبطاقات حفلتك، وأنت تعرف أن جمهور الثقافة المجانية لن يقوى على أسعار بطاقتك، والدليل اضمحلال الحشد الواضح بين حفلة الفيحاء وحفلة قلعة دمشق. وإذا كنت حقاً تمثل الجمال وسلامة الذائقة فمن الواضح أن لا خوف على هذه الأشياء، طالما أن جمهورك ما زال متفوقاً على جمهور تامر حسني.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد