من حديقة الهايكو اليابانية
الهايكو تقليد شعري ياباني ضارب في الزمن. في البدايات كان يُدعى "هوكو"، وهو عبارة عن مقطع صغير من قصيدة أطول (سُميت إمارينغا أو هايكابي) يتشارك في تأليفها عدد من الشعراء ينظمون مقاطع يردّ فيها واحدهم على الآخر، ضمن تمرين أو لعبة شعرية تراكمية طويلة. لكن في القرن السابع عشر عمل المحتوى المميز، فضلاً عن الاسلوب، كذلك النظام الخلاّق المسيطر على القصيدة، على جعل الهايكو شكلاً جذاباً بذاته، حتى ان العديد من الشعراء الكبار أرسوا شهرتهم الى حد بعيد على مهارتهم في ميدان الشكل الشعري للهايكو.
تقليدياً كان الهايكو الياباني قصيدة غير مقفاة، تتألف من سبعة عشر مقطعاً صوتياً، كلّ منها في ثلاثة أبيات، يتكون أولها من خمسة مقاطع والثاني من سبعة والثالث من خمسة. حري القول إن لدى اليابانيين ما يسمّى بالصوت بدل المقطع الصوتي، لذا تتألف القصيدة من 17 صوتاً.
تتوخى قصيدة الهايكو الإيجاز وضغط المعطى الكلامي. انما تترك الكثير مما لا يقال، مقترحة بعض الترابط والاسباب الموجبة، لكن نادراً ما تجعل ذلك واضحاً. تعمد قصيدة الهايكو النموذجية الى وصف شيء أو عنصر طبيعي، زهرة، حيوان، أو مكان، متضمنة علاقة بين ذاك المدرك أو المحسوس وبين الشعور الإنساني أو الحالة الذهنية. تالياً، تعتمد قصيدة الهايكو بشكل مكثف على لغة شعورية من دون أن تكون قَطْعية أو تعريفية محددة. هكذا، بدلاً من الاستنتاجات والملخصات، إقفال مناقشة أو أجوبة محددة، تتوخى الهايكو فتح الفضاءات، وإيقاظ مروحة من الاحتمالات الذهنية.
ثمة ايضاً ثلاث خصائص للهايكو تترك تأثيرها في القراء. الاولى أن الهايكو لها مطلب أو شرط "فصلي"، بمعنى أن كل قصيدة تربط نفسها بفصل من فصول السنة. هكذا "تؤرخ" ذاتها بالارتباط مع نموذج تغيير دوار ومتوقع. هذا النوع من الارتباط "الفصولي" قد يكون دقيقاً جداً، رفيعاً، وغير مباشر من خلال زهرة، حدث، أو حالة، عادة ما ترتبط بفصل معين. ثانياً، تنطوي الهايكو بشكل عام على أوصاف للطبيعة: تبدأ القصيدة عادة بملاحظة ظاهرة طبيعية محددة، نبتة، حيوان، أو مظهر من مظاهر منظر طبيعي، لتغدو مرتبطة إما تلميحاً وإما تصريحاً بإحساس أو شعور انساني. هذا التعلق بالطبيعة يتأتى من الاحساس البوذي بالطبيعة على أنها منظمة ومعافاة، لكنها طارئة وعابرة. بما ان البشر هم جزء من ذلك النظام الموحد، فإن الاجزاء الاخرى من الطبيعة تؤدي أدواراً كانعكاسات "طبيعية" للحالات البشرية. في طبيعة الحال، فإن الهايكو التي أُخذت الى لغات وثقافات غير اليابانية، لا يمكنها الاعتماد على الفرضيات الدينية أو وجهات النظر نفسها، لكن يمكن القول إن معظم قصائد الهايكو تكافح للاحتفاظ بمعنى للانساني والطبيعي على أنهما يعتمدان الواحد منهما على الآخر، ويؤدي التأمل في واحدهما الى الآخر. ثالثاً، غالباً ما تربط قصيدة الهايكو، "الطبيعي" بالانساني، عبر تركيبة من المشاهدات والتخيلات. إنها تطمس التمييز "الغربي" بين رؤية شيء بالمعنى الحرفي، وامتلاك "رؤية ما" لهدف الشيء أو معناه، على رغم أنها نادراً ما تنطق بشكل صريح بذلك الهدف، لتوصله تالياً الى بعد رؤيوي أوسع.
سندرج في ما يأتي أمثلة من أعمال بعض كبار شعراء الهايكو ابتداء من القرن السابع عشر، من مثل باشو، إيسا، باسون. لكن اللافت أن الهايكو غدت شكلاً عالياً للقصيدة، ومال شعراء من مختلف أصقاع العالم خلال نصف القرن الماضي وما بعده، من بينهم اللبناني فؤاد رفقة، الى إجراء محاولات واعية ومركزة لإنجاز قصائد هايكو في ما لا يقل عن خمسين لغة. وأدت عادات وتقاليد مختلف اللغات والآداب الى التأثير في طريقة كتابة الهايكو، فضلاً عن تكييف هذه الطريقة، مما ألحق بعض الأذى الفني ببعض من أساتذة الهايكو اليابانيين التقليديين، مثلما ابهج افتراضياً البعض الآخر ممن يقعون على التصرف الحر نسبياً بعملهم.
باشو (1644-1694)
هذه الدرب
هذه الدرب -
لا أحد يسلكها،
مساء خريفي.
•••
هيا ننطلق
هيا ننطلق
لمشاهدة الثلج
الى أن نُدفن.
•••
القبرة
تشدو
القبرة طوال النهار،
والنهار ليس بالطول الكافي.
•••
جرس المعبد
جرس المعبد،
سحابة من أزاهير الكرز -
أنيو؟ أساكاسا؟
•••
شجرة موز في أنواء الخريف
شجرة موز في أنواء الخريف -
أُصغي وحيداً الى قطرات المطر
تتساقط داخل بركة ليلاً.
•••
نهاية الرحلة
نهاية الرحلة -
لم أزل حياً،
هذه الأمسية الخريفية.
•••
قرية من دون أجراس
قرية من دون أجراس
كيف يعيشون؟
غسق الينبوع.
باسون (1716-1783)
فتور
فتور-
صوت الجرس
حالماً يترك جرسه.
•••
يا له من قمر
يا له من قمر -
يتوقف
اللص ليغنّي.
•••
جبال يوشينو
جبال يوشينو -
راميةً التبلات
مبتلعةً الغمامات.
•••
أميال من الجليد
أميال من الجليد -
فوق البحيرة
غدا القمر لي.
•••
غفوة قصيرة
غفوة قصيرة -
استيقاظ،
فإذا الريح ارتحلت.
•••
على امتداد الثلج
على امتداد الثلج،
أضواء المنازل
التي أغلقت بواباتها في
وجهي.
•••
قطر الندى على العوسج
قطر الندى على العوسج،
أشواك
ناصعة البياض.
•••
قريتي
قريتي -
يعاسيب،
جدران بيضاء تالفة.
•••
غزال تحت المطر
غزال تحت المطر -
صرخات ثلاث،
ثم لم يُسمع المزيد.
كيكاكو (1661 - 1707)
ليلة مقدسة
ليلة مقدسة،
عبر الأقنعة
ثمة الانفاس البيضاء للراقصين.
•••
بدر الخريف
بدر الخريف -
فوق حصيرة القش
ظل صنوبرة.
•••
فوق المركب
فوق المركب،
بطون
الأوز البري.
•••
بوابة المزار
بوابة المزار
تتبدى من خلال -
صوت أمواج.
•••
قشعريرة مفاجئة
قشعريرة مفاجئة -
داخل غرفتنا مشط زوجتي
المتوفاة، تحت الأقدام.
•••
ليت نور القمر
ليت نور القمر
يحلّ على مَن يُحضر
الزهور الليلة.
إيسا (1763 - 1827)
القمر والأزهار
القمر والأزهار،
لمدة تسع وأربعين سنة،
يتسكعان في الأرجاء، مبددِّين الوقت.
•••
في عجلة من أمرك
الليلة أنت أيضاً
في عجلة من أمرك،
يا قمر الخريف.
•••
تائه بين الخيزران
تائه بين قصب الخيزران،
لكن حين يضيء القمر-
ثمة منزلي.
•••
مزارع
مزارع،
يعلّم الدرب
بفجلة.
•••
لا تنتحبي أيتها الحشرات
لا تنتحبي، يا الحشرات-
فالعشاق، والنجوم ذاتها،
عليهم أن يفترقوا.
•••
حين يزهر الخوخ
حين يزهر
الخوخ -
يحدث الجليد في جهنم.
•••
تغريدة البلبل
تغريدة البلبل
هذا الصباح،
منقوعة في الماء.
•••
أظهري بعض الإحترام
أظهري احتراماً،
يا عصافير الدوري،
لفرشة نومنا العتيقة.
•••
تحت أشجار الكرز
تحت أشجار الكرز
لا يوجد
غرباء.
•••
العيش بعدهم جميعاً
العيش بعدهم جميعاً،
جميعهم-
يا لبرودة الحياة.
التقديم والترجمة: فوزي محيدلي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد