فنون تستلهم مصائرها الغامضة
ما من أحد في إمكانه أن يزعم أن طرق الفن المعاصر وطرائقه صحيحة ومؤكدة. «من قال إننا لا نمشي في الطريق الخطأ أو عكس ما هو مطلوب؟» هناك كثير من الثقة الناقصة في كل كلام عن الفن. من خلاله ومن حوله. يتطلب الإيمان بالفن وبضرورته وبالحاجة إليه وقدرته على التأثير وإحداث التغيير قدراً هائلاً من التسليم. استسلام واع لقوة القضاء والقدر. وهي قوة لا يمكن التثبت منها مسبقاً أو القياس عليها أو معرفة قوانينها أو التماهي معها دائماً. مثلما هي المصائر البشرية تماماً. فما من مصير يشبه مصيراً آخر. حتى وإن تشابهت أو تطابقت الظروف المحيطة والدوافع المسببة. ويمكنني القول بيقين إن لا أحد في إمكانه أيضاً أن يتنبأ بما ستؤول إليه أحوال الفن (فننا الآن) في العشر سنوات المقبلة. الفن في جوهره لا يقاس بصنعته أو بما يؤكد هذه الصنعة، بل بما يفلت من هيمنة تلك الصنعة وما ينحرف بها عن مسارها. وهو ما يشكل اعتراضاً أو تمرداً على القوانين المتبعة.
ولكن ذلك ليس كل شيء. بل هو الجزء الظاهر من المغامرة. أما ما خفي فلا يمكن الخوض فيه بكلام واضح. ففي الماضي كثر الحديث عن الجمال، معان وتطبيقات، حتى باتت العين الخبيرة بحسب هربرت ريد تميز الجميل عن سواه. ومع ذلك كان الهامش الذي يتعلق بنسبية الجمال يقلق ويحرج ويستدعي الكثير من التأمل. وكأي انطباع بشري آخر مارس الجمال (بحسب قوانين عصره المرعية) نوعاً من الطغيان. وهو ما يعني أن الجمال الرسمي كان يقمع كل افتراض بوجود جمال آخر سواه. ولهذا كانت الانطباعية على سبيل المثال تقف على هامش المشهد الفني يوماً ما. وهو ما تعرضت له التيارات والمدارس الفنية كلها في القرنين الماضيين. غير أن تلك المعادلة (جمال رسمي في مقابل محاولات جمالية لنقده والإفلات من هيمنته) صارت اليوم من مخلفات الماضي. فالفنون الجديدة (التركيب والتجهيز والإنشاء والفيديو والأداء الجسدي والمفاهيم والحدث والفوتوغراف وسواها) لا تظهر اهتماماً كبيراً بمبدأ الجمال. لا أحد اليوم يتحدث عن الشيء الجميل باعتباره منتجاً فنياً. ذلك لأن الفن لم يعد (بحسب أفكار منتجيه) وسيلة لإنتاج الأشياء الجميلة واستدعاء الأفكار والرؤى لرعاية تلك الأشياء والتأثر بها وتخيل مساراتها المستقبلية. فهل انتهى عصر الجمال (على الأقل في ما يتعلق بالفن)؟
هناك أعمال فنية أُنتجت خلال العقدين الماضيين صارت اليوم بمثابة أيقونات، من خلالها يمكن التعرف الى السياق العام للتجربة الفنية في العالم. وهي تجربة غير منقطعة الصلة بإرث فني بعيد هو الدادائية (خلال العقد الثاني من القرن العشرين) وإرث قريب يتعلق بجماعة فلوكسس (جماعة فنية تأسست في ألمانيا منتصف ستينات القرن الماضي واستمرت في أميركا). الفرق الجوهري الذي يفصل تجربة اليوم عن أصولها أنها لا تظهر أي اكتراث بتاريخ الفن الذي سبقها أو الذي يجاورها. فهي لا تمثل حركة تمرد، بل أن استقلالها يظهرها كما لو أنها غير معنية بالمعاني التي انطوى عليها مفهوم الفن قبل قيامها. وإذا ما عدت إلى المحاولات الفنية التي اتخذت طابعاً أيقونياً يمكنني ذكر: خزانات أدوية داميان هيرست وسرير تريسي أمين ودوائر ريتشارد لونغ الحجرية وأقمشة ارنستو نيتو ودمى جيف كونز وأكياس روبرت كوبير ومرايا أنيش كابور وهجائيات شيرين نشأت ولقاءات ماريا ابراموفتش وقسوة نان غولدن وهندسة خيال ريتشارد ويلسون وأبنية زها حديد المحلقة وصدع دوريس سالسيدو في التيت مودرن وحليب كارين فينلي ولافتات مارك والينكر وفضائح سارة لوكاس ونسخ شيري ليفين المعادة.
هذه الأعمال وسواها تشكل اليوم مفردات لمعجم الطريق إلى الفن بالنسبة للأجيال الفنية الصاعدة. وهي بذلك قطعت الطريق التي تقود إلى التاريخ الفني الذي يسبقها. «أيعقل أن نبدأ من لحظة قطيعة»؟ سيتساءل البعض وهو محق في سؤاله. ما يجري اليوم على مستوى التربية الفنية في كليات الفن هو شيء شبيه بما توقعه السؤال. عن طريق الصدفة حضرت قبل أسابيع افتتاح معرضين لخريجي أكبر كليتين لتدريس الفن في لندن. كان المعرضان مخصصين لتقديم تجارب الطلاب المتفوقين وممن أنهوا دراسة التخصص. لن يكون شعوري حيادياً في الوصف، لهذا لن ألجأ إليه، ولكنني على الأقل لم أر يومها شيئاً عميقاً يُدهش. شيئاً يجعلني أشعر بضرورة التفكير في احترام المحاولة. هل لأني توقعت شيئاً مختلفاً؟ ولا أقول لأني ابن ثقافة أخرى، ذلك لأني تربيت على ما أنتجته الثقافة الغربية من قيم جمالية خلال العقود الأخيرة. بالنسبة لي كان هناك ما هو محير. وهو ما يتعلق بطرق التفكير بالفن. وهو ما لم نهتم به، نحن العرب، في كل مراحل شغفنا النخبوي بالفن. تقدميين كنا أم رجعيين انصب اهتمامنا بالفن على ما يقدمه لنا من خدمة متعوية موقتة. أما أن نفكر به فقد كان ذلك يقع خارج حدود الاحتمالات التي رسمناها لعلاقتنا بالفن. ما رأيته في لندن كان يدخل ضمن نطاق مبدأ التفكير بالفن باعتباره احتمالاً له علاقة بفكرة العيش المباشر. وهي فكرة يصعب على من يبحث عن الجمال الجاهز استيعابها. ولذلك خرجت من المعرضين وأنا أشعر بالنكد.
أما نحن العرب (كذلك من هم في مثل وضعنا ممن يقيمون خارج حدود المركز الثقافي الغربي) فهل علينا أن نبدأ فنياً من حيث انتهى الفن الغربي؟ ما يستدعي هذا السؤال أننا لا نزال منهمكين ومستغرقين في تفكيك أصول النموذج الجمالي الغربي، مثلما اقترحته تيارات ومدارس الحداثة الفنية خلال القرن العشرين. بعض فنانينا قفزوا وصاروا اليوم في منأى عن كل سؤال حائر. صار لدينا اليوم فنانو تركيب وإنشاء وتجهيز وحدث وفيديو على الأقل. بل أن أهم الملتقيات الفنية في العالم العربي (بينالي القاهرة وبينالي الشارقة) ما عادتا تستقبلان الأعمال الفنية التقليدية من رسم ونحت. لقد بدأنا رسمياً إذاً من لحظة القطيعة. وهو أمر غريب وغير متوقع فعلاً. وهكذا تكون الذائقة الجمالية في مكان فيما تكون التظاهرات الفنية في مكان آخر. مكان لا يدري أحد إلى أين ستقود أحداثه. وهو ما يجعلني غير مطمئن إلى مستقبل مثل تلك التظاهرات. ذلك لو أنها عادت عن قرارها مقاطعة الأنواع التقليدية من الفن يوماً ما فسيكون ذلك القرار بمثابة نكسة لأهم ما جنيناه من حصاد ثقافي في العقدين الأخيرين.
ولكن ما حدث كما أتوقع هو أكبر من أن نستطيع تدبره خيالياً، قبل الواقعي من إمكانياتنا طبعاً. لا يزال هناك من بيننا من يفكر بالجمال باعتباره خلاصاً. لا يزال تفكيرنا بالفن يتخذ طابعاً إشراقياً. لا يزال تأمل الأعمال الفنية يثري الكثير من حاجاتنا الروحية. والأهم أننا لا نفكر بالشيء في العمل الفني إلا في صفته رمزاً. وهي طريقة تعد الآن متخلفة في التفكير بالفن ومن ثم في فهمه. ولكن ما الذي يمكن أن نفعله؟ أعتقد أن الصينيين والهنود والكوريين قد وجدوا حلاً لمعضلة من هذا النوع. لقد اندس عدد من فنانيهم في قلب المعادلة الفنية الغربية، لكن بشروطه الجمالية المحلية. هناك اليوم مهارة لافتة في كل تجربة من تلك التجارب الشرقية التي اخترقت حاجز المركز الفني الغربي لتكون جزءاً منه. مهارة تعيدنا إلى مبدأ التفكير بالفن، لكن من غير البكاء على زمن الرسم الجميل.
فاروق يوسف
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد