مسرح الخريف الدمشقي
مع أولى نسائم الخريف استعادت صالات المسرح في دمشق حركتها المعهودة، فقدّمت فرقة “سمة” عرضها الراقص “تركيب” على خشبة صالة الحمراء، بينما شهد المسرح العمالي أول عروض مسرحية “السيرك” من تأليف الدكتور صفوان بطيخة، إخراج نضال صواف وإنتاج شركة قبنض. ومبادرة افتتاح الموسم الحالي جاءت من قبل القطاع الخاص، فماذا حول الشكل والمضمون؟
نبدأ من “سمة” وهي فرقة خاصة تعنى بلغة الجسد والرقص التعبيري، تأسست في العام 2003 بإشراف الكريوغراف علاء كريميد، وتضم عددا من الراقصين والراقصات من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية ومدرسة الباليه، وقد حققت الفرقة حضورها في الوسط الفني بشكل رئيس من خلال حفلات افتتاح عدد من المهرجانات المحلية والعربية، لاسيما مهرجان دمشق السينمائي.
أما “تركيب” فهو عبارة عن مجموعة من اللوحات التعبيرية الراقصة صمّمها وأخرجها علاء كريميد، وكل منها يتناول موضوعا مستقلا في حد ذاته، فهي تارة تدور حول الحب، وأخرى تتمحور حول علاقة الجسد بالروح، وثالثة تتعلق بطبائع البشر المتباينة، أو بصراع العشاق للحصول على قلب امرأة مسكون بعشق آخر.
ويسير موضوع اللوحة وفق ثلاثة خطوط درامية متوازية، لكل منها أدواته التعبيرية المستقلة: خط الموسيقى المتعددة الطبقات الذي يستلهم مقطوعات من ألحان وأغاني الفنان التونسي ظافر يوسف، وخط ثانٍ تكتبه الكلمة والعبارة الشعرية، وثالث ترسمه لغة الجسد، وإذ تتواشج الخطوط في فضاء الخشبة يكتمل المعنى الدرامي.
تبدأ كل لوحة بكلمة استهلالية يخطها أحد الراقصين على خلفية الخشبة، والكلمة تعبّر عن معنى متعدد الدلالات والأمداء الجوانية والظاهرية، من مثال: إيقاع، حب، جسد، روح. والكلمة الاستهلالية في بداية اللوحة تفتح الباب أمام ترديد المزيد من العبارات الشعرية المقتضبة التي تدور في نفس الفلك، والتي ارتجلها الراقصون أثناء البروفات، فكلمة حب سوف تستدرج العبارات: الحب كل شيء، أنت الحب، الحب لمسة يد... وكلمة روح سوف تستدرج العبارة: أحيانا ينتشي الجسد وتتعب الروح...
وانطلاقا من المعنى الدلالي المجرّد وتواترات الخلفية الموسيقية، يبدأ بناء الفضاء الحركي للمشهد، بلغة أجساد تجيد فن التعبير عن اختلاجات الروح، ورسم مدارات الشعور، والتناغم ما بين وشوشات الحركة وملابسات السكون، لتكتب في نهاية الدرب نصها المستقل، وقصيدتها الناعمة. وكان من المؤسف حقا أن تنكسر الشعرية المتعددة المشارب في المشهد الأخير، حين اجتمع الراقصون في صف واحد أمام الجمهور، وأخذوا يحدثونه عن طبائع البشر بلغة الشارع اليومية من قبيل: “في ناس بحبوا اللّعي، وفي ناس بحبوا يسكتوا...” بحيث مثّلت هذه الخاتمة خروجا عن كل المقدمات والمقترحات الفنية التي سبقتها والتي ميزت العرض، وأكسبته مذاقه الخاص، ولا ندري لماذا وقع فريق العمل في هذا المطب؟.
السيرك
“قبنض” كما صرّح لنا مدير الإنتاج أحمد السماحي: هي شركة خاصة للإنتاج الفني، تأسست قبل حوالي ثلاثة أعوام، وأنتجت بعض المسلسلات التلفزيونية، وتعمل على إنتاج عدد من الأعمال المسرحية، ولهذا الغرض استأجرت الشركة مسرح نقابة العمال لمدة عام كامل، و”السيرك” هو أول عرض تقدّمه، يليه عرض يجري التحضير له حاليا من إخراج فايز قزق.
و”السيرك” مسرحية كوميدية انتقادية من فصلين، تتوفر فيها مختلف الشروط الإنتاجية الجيدة التي تفتقر إليها أغلب العروض السورية، وتقوم على مبدأ تعدد أشكال الفرجة بالاستناد إلى أسلوب المسرح داخل المسرح كحل إخراجي.
تدور الأحداث حول فرقة تدعى “السيرك العربي الأصيل”، تقدّم فقراتها المتنوعة إلى الجمهور، بحيث ينقسم العرض إلى مشاهد تجري داخل الكواليس، تتناول أوضاع الفرقة ومشاكلها وتدريباتها التحضيرية، ومشاهد أخرى تجري في مكان الفرجة أو خيمة السيرك، وتمثّل الفقرات التي يقدمها العاملون في إطار الفرقة، وهم شخصيات لا تكنّى بالأسماء بل بالصفات كالمدير والآذن والشيخ في إشارة إلى التعميم. ومنذ العنوان وحتى الخاتمة هناك محاولة من المؤلف لمقاربة أوضاع السيرك المهلّهلة بالواقع العربي المفكك والفاسد.
داخل الكواليس تتكشف مساوئ المكان، المجارير المسدودة والروائح العفنة، كما تتكشف آلية العمل الاعتباطية التي يفرضها المدير المتسلط والغبي (علي كريم)، وفيها يظهر الشيخ الانتهازي (حسن دكاك) الذي يطبطب على مفاسد المدير، ويظهر الصحفي الباحث عن الحقيقة (زهير البقاعي) فيكسر المدير قلمه ويسلمه مكنسة ليصبح آذن السيرك، كما يظهر الساحر الأميركي (تيسير إدريس) الذي يستولي على إدارة السيرك بحجة تطويره، فيزيد أوضاعه سوءا، قبل أن ينسحب ويعود ثانية إلى بلاده، وكلها أحداث رمزية تعكس واقع التسلّط والفساد والغزو الأجنبي.
أما في خيمة السيرك فنتابع برنامج الفعاليات الذي تعلن عنه المقدّمة (عائدة اليوسف) بعدما تطلع المشاهدين على ما تقوله الأبراج لهم: برج العرب وبرج اميركا وبرج العراق... بالتناوب ما بين اللهجات السورية واللبنانية والخليجية والمصرية، وفي هذا التقديم الناجح -قالبا ومضمونا- انتقاد لاذع للواقع العربي والدولي، ولواقع البرامج الترفيهية التي تحفل بها الفضائيات العربية.
البرنامج يضم لوحات تعبيرية راقصة، ترسم مشاهد مؤثّرة للحب والضياع، تقدّمها فرقة “رحيل” من تصميم وأداء الكريوغراف جمال تركماني، كما يضم فقرة الاسكتشات القصيرة التي يقدّمها الأخوين ملص، وتدور حول بعوضتين تتحدثان عن الفوارق بين مص دماء البشر الفقراء والأغنياء، وهناك فقرة لاعب الخفة عماد النجار، وفقرة برج العراق التي يقدّمها المجنون (جمال العلي) وفقرة الختام لقاء التاريخ بالمستقبل وضياع الحاضر.
كل هذا التنويع في أشكال الفرجة رافقه توظيف موفق للبؤر الضوئية الملونة والأبخرة والمؤثرات الصوتية التي استطاعت إلى حد كبير مقاربة مناخات عروض السيرك، وهنا بالتحديد كمن مطب المسرحية الحقيقي، فباستثناء فقرات مقدّمة البرنامج، وفقرة برج العراق، ولوحات جمال تركماني، باستثناء ذلك اكتفى الفريق الفني بالأداء الهزلي المفتعل، والحوارات السطحية، وانصب جهده على إبراز الجانب الاستعراضي، لا البعد الدرامي الذي يمنح المسرح جوهره وقيمته الفعلية.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد