مسلسل وراء الشمس، فتح جديد في الدراما السورية
الجمل- نضال قوشحة: الفن من المجتمع وإليه، كثيرا ما أكد المبدعون على إختلاف مساراتهم هذا المبدأ ، ووضعه بعضهم موضع التنفيذ ، فكان ديدنه وهاجسه الذي يطمح إليه .
مسلسل وراء الشمس ، حقق هذه المعادلة الصعبة ، فهو تناول موضوعة هامة ، وللأسف مغفلة أو تكاد تكون . وهي شريحة ذوي الإحتياجات الخاصة . و التي باتت في عصرنا سمة واضحة الظهور وكثيرة التمظهر بصور شتى .
-النص : العمل تناول هذه الشريحة من الداخل ، فعرض لعدة محاور فيها ، تختلف فيما بينها زمنيا وإجتماعيا ، فهناك شخصية بدر ( بسام كوسا ) الذي هو شاب في الثلاثينيات من عمره وابن بيئة فقيرة بسيطة . وكذلك علاء ( علاء الزيبق ) . وهو في العشرينيات من عمره و ابن بيئة متوسطة إجتماعيا وماليا . وثالثا الجنين . ابن عبادة ( باسم خياط ) ومنى ( صبا مبارك )، الذي لم يولد بعد وكان محور الحدث في المسلسل .
نقطة تحسب للنص أنه وزع أحداثه على هذه المحاور الثلاثة وجعل سيرورة الحدث تدور في فلكها جميعا وهذا ما أحاط بالمشكلة من أكثر من جانب وجعل الفكرة أكثر غنى .
استعان النص بالخبرة الطبية المناسبة وهذا جيد تجنبا لمطبات علمية ووفق النص بدمج هذه المعطيات العلمية الطبية في تركيبة الشخصيات ، فغدت في مسار العمل متوازنة وتحت السيطرة . كذلك نجح الكاتب ( محمد العاص ) في رسم مشاهد غاية في الشفافية مثل بعض مشاهد علاء ووالدته ( نادين ) وكذلك بين صبا مبارك ونادين .
العاص كتب نصا جديا ناضجا وشفافا ، ولكنه بطيء الإيقاع ، كان تطور الحدث أحيانا مطولا جدا ، مثلا إحتاج موضوع إكتشاف مقدرة بدر على تصليح الساعات أكثر من حلقة ونصف ، وهو الأمر الذي يمكن أن يجسده مشهدان في دقائق . ربما كان المسؤول عن ذلك ضرورات إنتاجية ، ولكن الخلل صار موجودا على أي حال .
الأمر الإشكالي الذي طرحه العاص في نصه هو موقف الأم منى من جنينها المشوه . فكثيرات من النساء اعترضن على موقف الأم وأكدن أن أي أم في موقفها ستقبل بالتأكيد إجهاض الطفل ، خاصة في ظل وجود طب متقدم يقلل إلى حد بعيد مكامن الخطر ، لكن الغريب أن نساء أخريات وبنسب جيدة عارضن الفكرة وأيدن موقف الأم من جنينها . وكان الموضوع برمته مثار جدل وهذا بالحتمية حراك مفيد .
النص رسم تقاطعات درامية هامة في العمل . بنى عليها هرمه الدرامي . فجمع فيه عدة ذرى درامية . بدر وكريم ( حسن عويتي ) ، عبادة ومنى ، بدرية ( ميسون أبو أسعد ) وأبو راتب ( علي كريم ) عبادة ووالدته ( ثراء دبسي ) أبو راتب وابنته ( نجلاء خمري ) . وقد استطاع النص أن يوظف هذه التناقضات ويحكي من خلالها ما يريد من أفكار، وقد أصاب النجاح عددا من المحاور ، لكننا نرى أن محورا هاما جدا كان يمكن إستثماره بشكل هائل فيما لو تم رصد تطويرات في شخصيتيه وهو محور، كريم وبدر . فالعلاقة بينهما نافرة ، رب عمل مستغل يسرق جهود صانعه ويدعي أمام الغير بأنه يساعده ، والأهم أنه أي كريم ، يفقد طاقته على العمل برحيل بدر المؤقت عنه . ربما كان بإمكان النص أن ينشأ من هذا التأسيس جملة من الأحداث بالغة السخونة بحيث نرصد من خلالها كيفية تعاطي شخصية بدر مع عوالم جديدة بعيدة عن أمه وأخته ومعلمه فحسب . خاصة مع ظهور بسام كوسا في دوره كممثل بشكل ملفت للنظر .
شخصية بدر كانت في معظم تفاصيل العمل رد فعل ، أي سلبية ، وهي لم تكن فاعلة ومحركة للحدث ، على عكس علاء الذي كان أحيانا أكثر فعلا من بدر .
النص انقذ نفسه من إطلاق أحكام قيمة على المجتمع في نهاية العمل واكتفى بإطلاق رسائل ، فهو لم يغلق كل مسارات الأحداث ، فعبادة شاهد طفله وداعبه ، لكننا لم نعرف ما بعد ذلك ، ونضال المتآمر على شقيقته في مرحلة ما ، ترك مصيره مجهولا ، وكذلك بدر ، الذي سعت شقيقته لإيجاد فرصة عمل له ، ولكن دون جدوى ، فالنص لم يضعنا في حالة محددة وترك الأمر مفتوحا على كل الإحتمالات .
-الإخراج : كما في العمل السابق ، قاع المدينة ، كون مخرج العمل سميرحسين رؤية بصرية مبدعة وموظفة ، عبرت عن حساسية النص وأفكاره الإنسانية العليا ، سمير حسين استغنى في عمله عن الكثير من التقنيات البصرية ( كرين ، شاريو ، غرافيك ..... ) وكان عمله منسجما مع النص وانسيابيا في تدفقه ، ولكنه كان كما النص بطيء الإيقاع .
يحسب لسمير حسين عمله على المبدأ السينمائي في الكثير من المشاهد ، من حيث بصرية المشهد ، بحيث لايلجأ للحوار إلا في الضرورة القصوى . مثل مشهد شعور بدر بفقدان والدته في المنزل بعد حادثة الدراجة . هذا المشهد وهو طويل نسبيا نفذه حسين بتقنية إخراجية شفافة وموجعة ، وكان أداء بسام كوسا فيه عاليا . رصد فيه مواجع دفينة لشخص مريض عصبيا وعقليا بحس جميل ، وناغم بين أداء كوسا الراقي وحركة الكاميرا الهادئة والموسيقى التصويرية المرافقة ، فكان مشهدا للذكرى.
كذلك يحسب لحسين إختيار مواقع التصوير ، فبيت أم بدر هو بيت شرقي دمشقي ، وهو ما اعتدنا على رؤيته في أعمال البيئة الشامية مليئا بالألوان والجمال والشجر . لكنه بدا هنا شاحبا خاليا من اللون وحتى الشجر ، كمعادل حسي جمالي عن إفتقار هذا البيت للسعادة بعد نكبات أصابته . موت الأب ونشاز البنت ومرض الابن .
وربما تكمن أهمية سمير حسين الأوضح في قدرته اللافتة على إستخراج طاقات و دواخل الممثلين العاملين معه . فظهور الممثلين في أعماله ناجج وغير مسبوق . فكل الممثلين الذي ظهروا في العمل كانوا في درجة الإمتياز ، خاصة الطفل علاء الذي يعاني من مرض ، والذي يجعل المصاب به في وضع خاص وحرج من حيث القدرة على الفعل . لكنه تحت إدارة سمير حسين كان ممثلا جيدا يمتلك قدرة مذهلة على الإقناع ، وقد استطاع الشاب علاء أداء عدد من المشاهد بشكل حساس وجدي ومقنع وكان ممثلا حقيقيا .
كذلك جهد حسين في عمله على إيجاد زوايا تصوير خاصة في بعض المشاهد ، تحمل إيحاءات ذات دلالة ، فكانت زاوية الرؤية موظفة وغير عشوائية . مثلا ظهرت بعض اللقطات لشخصية عبادة عندما وصل به الأمر لمرحلة التناقض مع نفسه والتحول للعنف مع زوجته في وضعية التصوير عبر زجاج الطاولة ، فكانت وجهة نظر الكاميرا تخترق زجاج الطاولة من تحت لفوق ، وفي هذا دلالة جمالية على حجم الإنقلاب النفسي الذي وصلت إليه الشخصية . بحيث ظهرت من تحت لفوق .
-التمثيل : ربما كان موقف النقد من التمثيل في المسلسل هو الأصعب ، بحكم أنه جهد جماعي ، وقد قدم الجميع في العمل جهدا مميزا . البداية مع باسم خياط ، الذي جسد شخصية عبادة بكل تفاصيلها . الشخصية كانت مركبة تتدرج انفعالاتها من البسيطة إلى حد يقارب إنفصام الشخصية . وقد أمتلك خياط مقدرة ممتازة على تجاوز بعض الصعوبات فنفذ مشاهد قوية وحساسة في العمل ونجح بلعب دور هام في رصيده بقدرة وتكنيك عال ، وقدم مشاهد مدهشة . نفس الأمر ينسحب على صبا مبارك في دور منى . وهي الشخصية متغيرة المشاعر والمركبة ، أيضا جسدت صبا دورها بشكل ملفت ولعبت حواريات مع الفنانة نادين غاية في الروعة . خاصة في مشهد نقلها خبر جنينها إليها .
كذلك قدم الفنان بسام كوسا دورا هاما ، وقدم فيه مستوى يخطو عميقا جدا في النجاح ، وقد كسب كوسا بادائه المقنع قناعة مشاهدي العمل بنسب تكاد تصل حد الإجماع ، وهو أمر مستحيل التحقق غالبا . ولو كان في النص مزيد من الأحداث لهذه الشخصية تحمل مزيدا من التغير ، لكانت شخصية العمر لبسام كوسا .
السيدة منى واصف ، كانت كما العادة مضيئة بأدائها ، وكان الدور أصغر بكثير من مقدرتها ، وكذلك السيدة ثراء دبسي التي قدمت شخصية امرأة فذة وقوية ، وكسبت السيدة دبسي قناعة المشاهد ، لقدرتها الفائقة على فهم تفاصيل الشخصية ورسمها حركة وصوتا .
شخصيات أخرى قدمت بشكل صحيح ، لكن فعاليتها كانت أقل وذلك بحسب حجم الدور ولكن الممثلين قدموها بشكل علمي وصحيح . الفنان سليم صبري ، رضوان عقيلي ، نادين ، حسن عويتي ، ضحى الدبس ، جلال الطويل ، علي كريم ، ميسون أبو أسعد ولينا دياب التي سجلت حضورا ملفتا في المسلسل . وكان لافتا حجم التناغم الكبير في أداء العمل بين الممثلين رضوان عقيلي ونادين ، اللذين تمتعا بالكثير من البساطة والحرفية فكانت شخصيتهما غاية في القرب من المشاهد .
- حضور الشارة : لابد أن المسلسل حمل في أحد تجليات نجاحه وجود شارة متميزة ، حملت نصا شعريا يحمل مضامين إنسانية عميقة " هذي الدنى ، من حولي صاخبة ،ما أجمل الأرواح تواقة تلمع ، درب أسير على أطرافه ألما ، تنسل روحي من أصابعي تدمى "ولحنا وضعه طاهر ماملي بروحه الشرقية المخلتفة والمبدعة . وهو – ماملي – صار رقما صعبا وشيخ كار حقيقيا في تاليف شارات موسيقية وغنائية للأعمال الدرامية السورية وهذا ما يؤكده حضوره الهام في عدد من الأعمال في كل موسم .
- مسلسل وراء الشمس تجربة جديدة لمجموعة من المبدعين حملوا هما وطنيا واجتماعيا ، نحو فئة كثيرا ما غابت عن أذهاننا ، فقدموا تجاهها عملا ينبض بالإنسانية ، وشرًحوا إلى حد بعيد تفاصيل حياتهم . فكان عملهم سبقا نحو عالم مجهول ، ما زال يحتاج للكثير من العمل ، ولكن التاريخ الفني في الدراما السورية سيسجل نجاح المسلسل في كسب ثقة الناس والمتابعين بأنه عمل أول ، في صفحة درامية مستجدة ، قدم جهدا حقيقيا وجادا بعيدا عن الإبتذال والمعالجة المسطحة وكان بحق حاملا لصفة العمل الجماهيري الخلاق والجيد .
الجمل
إضافة تعليق جديد