غسان الرفاعي: ديمقراطية (ملغومة)
-1-هناك ديكتاتورية متطرفة، مخملية الملمس مضمخة بالطيب، متمكيجة بذوق برجوازي رفيع، تتحكم فينا منذ بعض الوقت، ببراعة وخبث،.
سلاحها الإخضاع والإقناع عن طريق (المعرفة التي لا يرقى إليها الشك) -كما يزعم- لا المسدس، ولا السوط، وزبانيتها من كبار المثقفين المتخرجين من الجامعات الراقية، مثل هارفرد، وكامبريدج، السوربون، ومن ذوي (الياقات البيض) في مراكز البحوث الدبلوماسية والاستراتيجية الغربية. إنهم يوزعون صكوك الثقافة الرفيعة والرصينة من على المنابر والشاشات والميكروفونات ودور النشر، شهاداتهم كطابع البريد تلصق على «المبشرين بالجنة» فإذا بهم يعبرون الحواجز من دون جواز مرور، ويصبحون من (سدنة الديمقراطية المعاصرة)، يفرضون أحكامهم –أو هكذا يحلمون- على الجميع، بترفع وكبرياء بعد أن تخلصوا من رواسب العالم الثالث (القاصر والرازح في أقفاص الاستبداد الشرقي، والمترنح في غيتو الحريم السياسي والكبت الاجتماعي).
-2-
حينما صدر كتاب (ديمقراطية من دون ديمقراطيين) باللغة الفرنسية- وهو مجموعة من الدراسات التحليلية، شارك فيها عدد من الاختصاصيين الغربيين بإشراف وتقديم الدكتور (غسان سلامة)، حول سياسات الانفتاح في العالمين العربي والإسلامي، تحمست للكتاب قبل قراءته، لما كنت أعرفه عن الدكتور (سلامة) من رصانة وسعة اطلاع، قبل الاجتماع به، ولما ترسخ لدي من إعجاب به بعد التعرف إليه، ومشاركته في بعض الندوات في باريس. وقد شغلتني بعض الهموم الوظيفية عن قراءة الكتاب وقت صدوره، ولكنني عشت معه طوال عطلة الأسبوع بكاملها، خصوصاً بعد أن نشره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بالعربية، وقد ساءني جداً أن تكون ترجمته ركيكة، ولعل هذا هو السبب في غياب اسم المترجم أو المترجمين، ولكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة بعد قراءة مقالة الدكتور (غسان سلامة) في الكتاب، وهي بعنوان: (الديمقراطية كأداة للسلام المدني)، ومخصصة لتحليل التجربة الديمقراطية في لبنان والكويت، وهالني ما وصل إليه الدكتور (سلامة) من مغالطات وتشويهات، ما جعلني أثبت وجهة نظري في (ديكتاتورية الياقات البيض..).
-3-
يعتمد الدكتور (سلامة) في تحليله لظاهرة الديمقراطية اللبنانية على ثلاث أفكار (مصنعة) في مراكز البحوث الغربية، ولكنها لا تخلو من إمتاع ومؤانسة: أولها، إن هذه الديمقراطية بحاجة دائمة إلى حماية خارجية، وعلى وجه أكثر دقة، إلى حماية غربية، ومن الأفضل أن تكون حماية فرنسية، وثانيها: إن انقسام المجتمع اللبناني إلى طوائف متنازعة لا يثق أحدها بالآخر، ومنح حصص في كعكة الحكم لكل طائفة، هو الذي جعل من الديمقراطية البرلمانية المتوازنة البديل عن الاقتتال التدميري، وثالثها: إن انعدام المطامح الإقليمية في لبنان، بسبب صغر حجمه، وهامشيته، هو الذي حماه من الاستبداد، والحكم الديكتاتوري البوليسي، ويستشهد الدكتور (سلامة) بنص لـ (جان جاك روسو) في كتابه (العقد الاجتماعي) يقول فيه: كم يستلزم قيام حكم ديمقراطي من أشياء يصعب توافرها! وأولها دولة صغيرة جداً يسهل فيها جمع الناس، ويستطيع كل مواطن معرفة الآخرين جميعهم بسهولة.
ويصل الدكتور (سلامة) إلى ثلاث نتائج مفزعة، أولها: إن كل نظام في الشرق الأوسط العربي، يستحدث لنفسه مهمة تاريخية أكبر منه، مثل تحرير فلسطين، أو تحقيق الوحدة العربية، أو هزيمة الامبريالية، محكوم عليه أن يكون ديكتاتورياً لأنه يستبدل مشروعيته الداخلية بمشروعية توسعية خارجية، وثانيها: إن التجزئة الاجتماعية التي يعتبرها البعض عقبة أمام (دمرقطة المجتمع) يمكن على النقيض أن تشجع على الديمقراطية على أساس أن الاعتراف بالتعددية الدينية والاثنية والثقافية تحقق الديمقراطية أكثر بكثير من إنكارها، لأن مثل هذا الانكار يشكل التربة الخصبة للسلطة الاستبدادية، ومن هنا فإن الدعوة إلى الوحدة الوطنية الجامعة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تحكم طائفة، وإلى سيادة الفاشية الاستبدادية، وثالثها: إن الأنظمة التي تسعى إلى التحرر من الحماية الأجنبية، وبشكل خاص من الحماية الغربية هي أنظمة ديكتاتورية واستبدادية، ولن تستطيع أن تلبي رغبة المواطنين في إقامة ديمقراطية عادلة ونزيهة، وإذاً، لابد من مظلة غربية لحمايتها ولترسيخ الديمقراطية فيها..
المنطق السافر الذي يتمسك به المشرف على كتاب (الديمقراطية من دون الديمقراطيين) هو ذات المنطق الذي يتستر عليه سياسيون ومثقفون تحت غطاء (الحفاظ على لبنان في وجه التحديات الاقليمية) وقد يكون من مستلزمات الوطنية النزيهة أن تسقط الأستار، وأن تبرز معالم المنطق السافر وراء المنطق المستتر.
-4-
لئن كان من المباح في عهد الازدهار، الاستجابة لإغراء اللامسؤولية والهامشية، أو الاعتصام بالحياد الزاهد، فإننا اليوم أكثر من أي وقت مضى، لابد من أن نكون في مغطس ماء، مهما تحاشينا التورط في (الشأن العام) أو الانخراط في الصخب السياسي والاجتماعي، قد نفضل أن نكون متفرجين أو قد يفرض علينا أن نكون (منبوذين) وقد نساق إلى الصمت الأنوف، ولكننا لن نستطيع أن نحلق فوق عصرنا ولا أن ننجو من إرهاقاته.
حينما يتواجد الإنسان العربي في التاريخ، لا استمرار للماضي ولا مجازفة في المستقبل وإنما اندغام في (الآن) و(الهنا) يقف وجهاً لوجه أمام إيجابيات المرحلة وسلبياتها، ايجابيات التحرك العربي الذي يتفتح على الرغم من المزالق والأخطار، وسلبيات النكسة التي لا تزال تورق وتتورم. الواقع كل لا ينشطر ولا يتشقق، والطليعي هو من يقبل تناقضاته بلا تذمر ولا خيبة أمل. إنه لا يتفاءل بسخاء ولا يتشاءم بهلع، إنه يناضل بذكاء وتواضع حتى دون مباركة اجتماعية ولا مكافأة سياسية.
-5-
في أمسية ضمت عدداً من الصحفيين والكتّاب العرب والأجانب في منزل زميلة، أجلّها واحترمها، لفت نظري الدكتور (سلامة) بسرعة بديهته وكثرة استشهاداته ودقة ذاكرته.
قال في لهجة أرادها أن تكون نزيهة صادقة:
- مشكلتنا نحن العرب أننا لا نقرأ ولا نتذكر أن خطابنا السياسي والاقتصادي والثقافي غث إلى درجة لا تطاق، لقد آن الأوان للتعرف إلى (الرقم) في طرحنا لقضايانا والتعامل معه.
وتحمست لهذه الفكرة وأثنيت على طرحها.
وتابع حديثه: التعامل مع الأرقام يدخلنا في العالم الحديث، ويعلمنا شيئاً من التواضع، ويحررنا من التفاخر والتورم حينئذ نعرف حجمنا الطبيعي.
وخفت حماستي وبدأت ارتاب.
-6-
يا صديق:
قد نكون (ديناصورات) مهددة بالانقراض ولكننا نرفض أن نخضع لحضارة (الميكي ماوس)، حتى ولو كان علينا أن نستمر في السخرية من التعامل بالأرقام، مازلنا متمسكين بالحلم الوطني الكبير في إقامة دولة عربية موحدة، ولا نعتقد أن هذا الحلم يتنافى مع الديمقراطية، ومازلنا مؤمنين بضرورة الوحدة الوطنية التي تعلو على التناحر الطائفي والاثني والمذهبي، ولا نعتقد أن التعددية السياسية الديمقراطية تستوجب الاعتراف بالطائفية والمذهبية، وسنبقى أوفياء لترابنا الوطني، ولا نجد مبرراً للاستنجاد بالمظلة الغربية، ولا بالنظام العالمي الجديد، لحماية الديمقراطية في بلادنا، وسنتخلص من أقفاص الاستبداد، وسرايا الحريم السياسي على طريقتنا دون مساعدة مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية الغربية. ونحن متفائلون، متفائلون جداً: الديمقراطية آتية بأسرع مما يخيل لمثقفي الياقات البيض.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
التعليقات
أرقام
إضافة تعليق جديد