جنون أسعـــار الخضار والفواكه
بدأ المستهلك المحلي هذه الأيام مرغماً على تطبيقات دقيقة لمقولة «لست غنياً لأشتري رخيصاً» وما أرغمه على ذلك ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الخضار والفواكه وصلت إلى حد تهدد بقلب معادلة يومياته وإعادة ترتيب الأولويات هذا إن بقي شيء كي يصار إلى ترتيبه.
فقد جرت العادة أن يبتعد المستهلك الحاذق عن التعاطي مع السلع الرخيصة لأنها سريعة العطب والتلف لكن ذلك غير قابل للتطبيق على مستوى الاحتياجات الأساسية وخصوصاً الغذائية، فالمعادلة هنا مقلوبة والمقولة السابقة تصبح «لست غنياً لأشتري غالياً» لكن الوقائع فرضت نفسها هذه الأيام بقسوة وباتت السلع الأساسية تجنح نحو قائمة ما هو صعب المنال.
بورصة الخضار
لم يكن في وارد المستهلك أن يجد نفسه يوماً مضطراً لأن يخوض غمار مضاربة في بورصة تداول السلع تتعلق ببقائه وأسباب عيشه ولعلها من المفارقات أن يضطر هذا المستهلك لدفع 40 ليرة سورية ثمن كيلو الخيار و50 ليرة للكيلو من البندورة و70 ليرة للعنب ومثلها للتفاح واللافت في الأمر أن ذلك يحدث في ذروة موسم تترك فرضية معكوسة بالأسعار أي تهاود على رب الأسرة إنفاقه لإطعام أطفاله الذين اعتادوا على أن يكونوا أمام فرصة استهلاك خلال هذه الفترة من السنة لا تتكرر في باقي الأيام لكن شيئاً ما حصل وخلط الأوراق هو ما يجب تحرية والبحث عنه.
في المشهد حالة خلل لها مسبباتها التي تشترك فيها الطبيعة مع البشر لخلق واقع جديد غير معهود في سوقنا، فبعضهم يتهم الجفاف وآخر يشير إلى موجة الحر وثالث يتحدث عن معادلة العرض والطلب التي باتت مسوغاً شديد الفعالية لارتكابات الحلقات التجارية المختلفة وتسديد الصفعة تلو الأخرى لمستهلك وجد نفسه بلا حماية في مضمار عنوانه اقتصاد السوق فإن كان الجفاف هو المتهم يبدو السؤال واجباً لماذا غلاء الأسعار الآن والآن فقط بما أن كان الجفاف بات شريكاً أساسياً في حياتنا منذ بضع سنوات وإن كان الحر و الموجة السابقة التي لفحت المحاصيل فهذا مقنع إلى حد ما بالنسبة للخضار والشتول حديثة الزراعة خلال موجة الحر التي كان من المفترض أن تؤتى ثمارها الآن لكنها تلفت السؤال ماذا عن الفاكهة وبالذات العنب والتفاح فالحرارة تسرع في إنضاج هذه المنتجات وهذا يعني أنه من المفترض أن نكون أمام فائض في عرض الفواكه وخصوصاً العنب والتفاح خلال هذه الفترة من السنة فأي عرض ناقص يتحدثون عنه أدى إلى ارتفاع أسعار فاكهتي الخريف الأساسيتين «العنب و التفاح» إلى الأرقام التي وصلت إليها الآن فلنبحث إذا عن مسببات أخرى بعيدا عن اتهام الطبيعة ولنتحر عن مجريات الحلقات التجارية بدءاً من الفلاح ومحصوله مروراً بسوق الهال وانتهاء بتاجر المفرق الذي يقدم نفسه للمستهلك كضحية لأسواق الهال وينفي ارباحه بعد إحجام بعض المستهلكين عن التعاطي مع السلع مرتفعة الأسعار إلا بالحدود الدنيا التي تتكفل بسد الرمق، والفلاح أيضاً يشكو سوق الهال فهناك إذا في أسواق الهال خلل تجب معالجته وبحث الحلول الناجعة لأجله فما الذي يحصل في أسواق الهال.
بؤرة خلل وإرباك
تبدو أسواق الهال فعلا مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تسخين أسعار المنتجات الزراعية ليس في هذا الموسم وإنما في جميع مواسم العام وقد تمت تسميتهم حتى في المداولات الرسمية بالحيتان ولعلها تسمية تعكس الكثير من الحقائق.
توجهنا إلى منطقة الزبلطاني حيث سوق الهال المركزي الذي يستقطب منتجات الأرياف المحيطة بالعاصمة ودرعا وبعض منتجات المنطقتين الساحلية والوسطى وهناك سألنا محمد راتب سلام رئيس لجنة مصدري الخضار والفواكه.
وكانت إجابته المباشرة عن أسباب ارتفاعات الأسعار تلصق التهمة بمعادلة العرض والطلب وأن البندورة والخيار تعرضا لحشرة آذت الموسم إضافة إلى موجة الحر التي أحرقت الإنتاج من مادتي الخيار والبندورة لكن السؤال الحرج كان عن وضع العنب والتفاح فهذان المنتجان يكشفان الغطاء عن بوابات نزيف انتاجنا الزراعي باتجاه الخارج حيث الطلب على سلعنا الزراعية.
وقد سألنا سلام عن علاقة التصدير بأزمة العرض والطلب الحالية، فاعتبر أن صادرات هذه المنتجات تنتعش هذه الأيام وهذا من مقتضيات السوق المحررة رافضاً فكرة إيقاف التصدير نزولا عند احتياجات الاستهلاك المحلي معتبرا ذلك مخالفة غير مبررة للأعراف التجارية التي تملي فتح الأسواق استيراداً وتصديرا ضاربا أمثلة من الدول المجاورة وبالذات الأردن التي لاتتدخل حكومتها في فرض قرارات تحد من تدفقات السلع استيراداً وتصديراً.
لكن سلام يبتعد على ذمته بالتصدير كمسبب لغلاء الأسعار فهو يؤكد أن تدفقاتنا الزراعية باتجاه الخارج قد انخفضت خلال هذه الفترة بنسبة 35 بالمئة عن الشهرين السابقين.
أكلوا البيضة والتقشيرة
بكل الأحوال يبقى سوق الهال أحد أهم عناصر الخلل التي آلت الأمور بسببها إلى ماهي عليه من ارتفاعات للأسعار، فالبندورة مثلا التي تباع للمستهلك بـ 50 ليرة للكيلو من النوع دون الوسط الذي يبيعه الفلاح في سوق الهال بمبلغ 350 إلى 400 ليرة للصندوق سعة 13 كغ أي سعر الكيلو الواحد بين 26- 30 ليرة سورية، ويدعي تاجر المفرق انه يدفع ثمنها بين 40-45 ليرة أما الكميات التي ترد إلى سوق الهال من النوع الممتاز والعالي الجودة فهي توضب للتصدير وليس للاستهلاك المحلي وعلى هذا يقبض الفلاح ثمن الصندوق منها سعة 13 كغ من 500 إلى 600 ليرة.
ويمكن هنا الجزم بأن التصدير هو المسؤول رقم واحد عن ارتفاعات الأسعار وخصوصاً البندورة بدليل الأخبار التي تتدفق إلينا عن نقص حاد في عرض هذه السلعة في الأسواق الخارجية وارتفاع أسعارها بشكل يجعل من تصديرها مغرياً ويحقق عائدات خيالية للمصدر وليس للمنتج.
أي ثمة أزمة بندورة في الأسواق الخارجية يجري حلها على حساب مستهلكنا لأن معظم الأسواق المجاورة تستورد المادة ونحن نصدرها بعيداً عن اعتبارات حاجة السوق المحلية.
المساحات المزروعة لم تنحسر
يبقى من المهم معرفة رأي أطراف أخرى ذات علاقة بالموضوع ففي وزارة الزراعة نفى المهندس حسان قطنا مدير التخطيط والإحصاء في الوزارة أن يكون ثمة انحسار في مساحات الأراضي المزروعة بالخضار أي لا يمكن اتهام هذا العامل برفع الأسعار، إلا أن قطنا يشير إلى الظروف الجوية التي رافقت بدايات زراعة الخضار بالتالي أثرت في الإنتاج فهو يرى أن درجات الحرارة التي تجاوزت المعدل بأكثر من 7 درجات أدت إلى تأثر جميع أنواع الخضار هذا من جانب ومن جانب آخر دفعت الفلاح إلى زيادة عدد مرات ري محصوله وهذا أدى إلى زيادة تكلفة الإنتاج.
لكن سؤالاً يبدو هنا وهو متى كان الفلاح قادرا على تسعير محصوله والتحكم بالسوق مهما كانت تكاليف منتجه بالغة، فالوقائع السابقة تؤكد أن الفلاحين منوا بخسائر كبيرة لظهورهم ولم يتمكنوا من زيادة أسعار محاصيلهم ولو ليرة واحدة ونعود إلى مدير الإحصاء في الزراعة فهو يضيف أن فترة الصقيع التي رافقت عقد أزهار الفاكهة أدت إلى إتلاف نسبة كبيرة من الأزهار وهذا ما ظهر في الإنتاج ولمسناه في كل أنواع الفاكهه الصيفية.
ويشير قطنا أيضا إلى الآفات والحشرات التي أثرت في إنتاجية الخضار كـ «حافرة أنفاق البندورة» وغيرها من الآفات.
الظروف الجوية متهمة
أما محمود مبيض مدير التجارة الداخلية في دمشق فقد نأى بأسباب ارتفاع الأسعار بعيدا عن آلية السوق وعواملها واتهم موجة الحر التي قضت على 50 بالمئة من الإنتاج حسب تقديره، فقد أدت الحرارة إلى ظهور آفات طارئة ليست في سورية بل في الدول المجاورة التي كنا نستورد منها الخضار عند حصول قلة عرض في سوقنا كالأردن مثلا وقدر مبيض نسبة الأذية التي تسببت بها الآفات بين 80-85 بالمئة من إجمالي الإنتاج المفترض.
وفيما يخص الفاكهة تحدث مبيض أيضاً عن الصقيع وآثاره على الأزهار لكنه يستثني التفاح ويتهم التصدير الذي مازال مستمراً بكميات ليست قليلة. ويشير مبيض إلى عامل آخر وهو أننا في نهايات الموسم وهذا يشمل البندورة والباذنجان والكوسا ويعتبر أنه من الطبيعي أن ترتفع الأسعار في هذا الوقت من السنة.
مزاعم توازن!؟
أمام كل المعطيات السابقة يصبح تصريح السيدة لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد والتجارة مؤخرا لوسائل الإعلام ضربا من ضروب المفارقة فهي أكدت أن وزارتها لا تسمح بتصدير أي مادة غذائية إلا بعد التثبت من وجود فائض في الإنتاج وخصت بالذكر الإنتاج الزراعي الذي لا تفتح بوابات تصديره إلا عندما يفوق حجم الإنتاج الاحتياجات المحلية أي وجود فائض يغطي السوق المحلية والأخيرة تشكل أولوية لوزارة الاقتصاد على حد زعم عاصي.
لكنها- عاصي عادت ولفتت إلى أن الوزارة تأخذ بعين الاعتبار حق المنتجين- ونكرر المنتجين بتصدير إنتاجهم لتحقيق ايرادات وعائدات لذلك لا يمكن منع التصدير بشكل نهائي ومطلق أي الوزارة تعتمد مبدأ التوازن، تسمح بالتصدير عن الفائض وتمنعه عند الحاجة «انتهى كلام السيدة الوزيرة».
والآن علينا أن نسأل عن تطبيقات هذه الرؤية الرسمية على أرض الواقع لمجريات السوق الحالية وأين «الكونترول» الذي انتجته «الاقتصاد» لموازنة العرض والطلب وهل ثمة ضرورة لقرارات من شأنها إنتاج توازن في السوق أكثر من الوقت الراهن الذي وصلت فيه الأسعار إلى عتبة غير مسبوقة.
كما نسأل إذا كان الهدف من ابقاء بوابة التصدير مفتوحة هو مصلحة المنتج فمن الذي حظي بالحصة الأكبر من عائدات التصدير المنتج أم المصدر؟ ولعل الإجابة ليست بالصعبة بمقارنة الأسعار التي يبيع المنتج بموجبها انتاجه في سوق الهال وأسعار الإنتاج عندما تباع للمستهلك أو عندما تصدر فالفروقات هائلة وبالتأكيد ليست من نصيب المزارع.
إن أردنا حلاً
إن مشكلة المستهلك والأسعار باتت تقليداً سنوياً ولعلها ستبقى في ظل قوانين السوق ومعادلة العرض والطلب بما أننا اخترنا اقتصاداً كنهج اقتصادي، لذا لابد من البحث عن حلول مستدامة بعيدا عن المس بمعادلة العرض والطلب، وقد يكون من الضروري أو المفيد اختصار الحلقات التجارية بين المنتج والمستهلك لأن في ذلك تقليصاً لمتوالية زيادات في الأسعار تكون على شكل أرباح تحصل عليها كل حلقة من الحلقات التجارية.
بالنسبة للمنتج الزراعي من الممكن إلغاء أسواق الهال لأنها مضمار يقوم في أدبياته على السمسرة والسعي للفوز بما أمكن من علاوات هي ليست بالتأكيد من نصيب صاحب الإنتاج.
ففي دمشق مثلا يمكن إلغاء سوق الزبلطاني الذي لم يعد وجوده في هكذا منطقة مقبولاً من الناحية التنظيمية، ومن ثم يصار إلى إقامة تجمعات على أطراف المدينة مهمتها الجمع بين المنتج والمستهلك أو المنتج وبائع المفرق مباشرة أي دون حلقة السمسرة التي تبدو مفصل الخلل وبؤرته.
فمثلاً يمكن تخصيص قطعة أرض في منطقة الديماس لتجميع إنتاج منطقة غرب دمشق (وادي بردى- والزبداني وسرغايا) وقطعة أرض في منطقة الكسوة لاستقبال إنتاج درعا والمنطقة الجنوبية من ريف دمشق والحال ذاته في منطقة المعضمية لتجميع إنتاج خان الشيح وسعسع وجبل الشيخ وعموماً كذلك تخصيص حيز في حرستا لاستقبال انتاج الغوطة الشرقية وهذا ليس صعباً فالبلديات والدوائر المحلية تتولى مهمة إيجاد الأمكنة المناسبة، ونكون بذلك قد اعطينا المنتج المزارع حقه وأعفيناه من دوامة استغلال مزمنة كذلك أوصلنا الإنتاج للمستهلك بأسعار مقبولة وعلى وزارة الاقتصاد أن تراقب كميات العرض والطلب وعلى أساسها تسمح أو تمنع التصدير.
مفارقة..
من خلال سؤالنا الفلاحين الذين سوقوا إنتاجهم في سوق الهال ومن اعترافات بعض العاملين في سوق الهال من الذين لا مصلحة لديهم لتزوير الحقائق وجدنا المفارقة الكبيرة بين لائحة اسعار الخضار والفواكه التي زودتنا بها مديرية التجارة الداخلية و بين السعر الحقيقي الذي باع فيه الفلاح محصوله من الخضار و الفواكه في سوق الهال، فقد أكد الفلاحون انهم باعوا كيلو العنب الواحد الممتاز لتاجر سوق الهال بسعر يتراوح بين /25-35/ ليرة، بينما حددت مديرية التجارة سعر الكيلو الواحد من العنب الممتاز في لائحتها بحوالي /55-60/ ليرة سورية، كما وقف سعر الكيلو الواحد من التفاح الحمصي على الفلاح في سوق الهال بـ/10-20/ ليرة و /20-35/ ليرة لتفاح السويداء «الإكسترا» في الوقت الذي بينت فيه مديرية التجارة الداخلية و حسب لائحة أسعارها أن سعر الكيلو الواحد من التفاح الممتاز بكافة أنواعه بين /40-45/ ليرة، فيما كان سعر كيلو التفاح من الدرجة الثانية /30-35/ ليرة سورية.
هذا التناقض والتباين بين أسعار الخضار والفواكه على أرض الواقع سوق الهال ومديرية التجارة تدفعنا لسؤال ملح، من أين حصلت المديرية على أسعارها و كيف توصلت إليها و كيف حددتها ؟ هل من خلال جولات مراقبيها على أسواق سوق الهال الذين بمجرد دخولهم الأسواق يستعيرون عيوناً و آذاناً من أدراج تجار سوق الهال. إذاً المشكلة ليست بالعرض والطلب في سوق الهال بل بسبب الرقابة عليه يا ترى هل نستطيع مراقبة هذا السوق وضبط حركته لكبح جماح وشهوة تاجر سوق الهال لاستغلال وسرقة وبخس الفلاح إنتاجه وجهده وعرقه ،و فتح الباب على مصراعيه أمام تاجر المفرق ليأخذ حصته من جيوب المستهلك ما يسبب ارباكاً و بلبلة في السوق المحلية، كل ذلك ليحصد تاجر سوق الهال/ البيضة والتقشيرة/ على البارد المستريح ومن وراء طاولة وكرسي وبدخل يومي /200/ ألف ليرة سورية في سوق الزبلطاني.
نهى علي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد