غازي أبو عقل: لَست من عَقْربٍ ولا تيزينِ
الجمل - غازي أبو عقل: أفادَتْنا "أخبار الأدب" القاهرية في عددها (889 الصادر في الأول من آب أغسطس 2010) بقرب صدور كتاب بقلم الشاعر سعدي يوسف، عن دار التكوين في دمشق عنوانه: أنا برليني. نشرتْ الأخبار بعض مقطوعاته في صفحتين، مما يستوجب شكرها لأنها ساعدتني على اتخاذ القرار الملائم يوم وصول الديوان إلى المكتبات. تُثير المقطوعات التي نشرتْها "الأخبار" من أنا برليني بعضَ الفضول، وتدعو إلى التأمل في مآل الفن بعامة والشعر على وجه الخصوصية. مع ذلك لن أتوقف عند هذه النقطة، بل سأهتم ببعض التفاصيل غير ذات القيمة.
لَفَتَني العنوان أولاً "أنا برليني"، وأجبرني على شحذ ذاكرتي من أجل معرفة أين قرأتُ نداءً مماثلاً. تذكَّرتُ بعد لأي أن أول من أعلن النداء "أنا برليني" كان جون كيندي لما هبط في مطار برلين المحاصرة في عز أيام الحرب الباردة، وارتفاع جدار برلين ليقسم ألمانيا، فهتف بالألمانية ICH BIN EIN BERLINER فهل اقتبس شاعرنا العربي ذلك النداء و اتخذ منه عنواناً لديوانه؟ أعرف قلة أهمية هذه المسألة.
في المقطوعات التي انتقَتْها "أخبار الأدب"، واحدة عنوانها – البِسترو – وهي كلمة لها تاريخ رغم كونها غير فصحى في اللغات التي أُدخلت إليها. إلا أن معناها واحد، فهي الخمارة أو المشرب في أكثر من لغة أوروبية غربية. يقول لاروس الفرنسي إن أصلَ الكلمة "غامض"، ربما لأنه لم يتعمق في البحث عنه، فجئتُ متبرعاً له بشرح أصلها غير الغامض. تعود الحكاية إلى أيام حملة نابليون الأول على روسيا. ففي رحلة الذهاب كان الجيش الأكبر يتقدم إلى ضواحي موسكو، وكان جنوده ينتهزون كل مناسبة لاجتياح الخمارات فتزدحم بهم. ولما كانوا مستعجلين، يريدون احتساء الشراب سريعاً والعودة إلى مواقعهم، فإنهم كانوا يصرخون ويحثّون العاملين في الخمارات لكي يحصلوا على طلباتهم بسرعة، فاضطروا إلى تعلم المفردة الروسية المرادفة "بيسترا" (سريعاً بسرعة أسرع) وكان لا بد لأصحاب الخمارات من استعجال عمالهم فكانوا ينادون: بيسترا بيسترا، وهكذا حلّت هذه الكلمة محل مفردة الخمارة بين جنود الجيش الأكبر، الذين كانوا في مرحلة الإياب أكثر "بيسترا" في الانسحاب وفي ارتياد الخمارات. وهكذا انتقلتْ التسمية إلى غرب أوروبا – ألمانيا وفرانسا – ولربما كان إثراء اللغتين بهذه الكلمة الغريبة، أكثر آثار تلك الحماقة النابوليونية العظمى بقاء واستمراراً. بدليل أن شاعرنا العربي أُعجب بها فنقلها إلينا. بقي أن نتمنَّى استقرار "بيسترو" في أدبنا المعاصر، بخاصة في قصائد النثر المتناثرة على تراب وطننا السعيد. لا أذيع سراً إن حكيتُ عن تفاعل صحيفة "الكلب" بديوان "أنا برليني"، ولكن قبل كشف هذا التفاعل بين نقيضين، وقار "أنا برليني" وجدّيته من جهة، ولا وقار صحيفة "الكلب" من جهة ثانية، رغم سَطْوها على كثير من مفردات أنا برليني، ينبغي التنويه بحكاية غير معروفة.
كنتُ طوال سنوات كثيرة دائم التردد على الشاعر الطبيب وجيه البارودي، بعد أن لَفَتَني إلى فرادة شعره منذ بداية ستينات القرن العشرين، راوية شعره الصديق الراحل وليد قنباز. كان الطبيب الأديب خفيف الظل ساخراً من كل شيء، ذائع الصيت في حماه وريفها، الذي كان يعرف قراه واحدة واحدة وله في كل منها صداقات قوية. كان طبيبنا الشاعر يعطي لبعض القرى أسماء يشتقها إما من حوادث جرت له فيها، أو من طبيعة اسمائها الأصلية مثل تيزين. وكانت هناك في سهل الحولة (الواقع في مثلث حماه – حمص – مصياف) قرية اسمها بعرين، جاء ذكرها في قصيدة ساخرة شهيرة كتبها ثلاثة من المتهكمين الحمويين، في ثلاثينات القرن العشرين من أجل إجبار أحد أعيان المدينة على حلق لحيته (السكسوكة) التي أطلقها على شاكلة (سكسوكة) الحلكم الفرنسي في تلك الأيام، وارتدى فوقها (برنيطة) إمعاناً في الاستغراب. المهم أن القصيدة أفلحت في جعل "العين" يتخلى عن الاثنتين، إثر جلسة تاريخية في المحكمة.
كان وجيه البارودي يطلق على بعرين اسم برلين، لهذا السبب اختار محرر الكلب لقصيدته التقليدية غير الوقور التي يرحب فيها بديوان أنا برليني عنواناً هو: أنا بعريني. أما المفردات والصيغ المستعارة من أستاذنا سعدي يوسف، فلن يكتشفها إلا من يحصل على الديوان وعلى عدد "الكلب" ذي الصلة، وهذا أمر ضئيل الاحتمال.
أنـا بعـرينـي
لستُ من عقربٍ ولا تيزينِ
من زمانٍ مضى .. أنا بعريني
اسمُ بعرين للأصالةِ رَمْزٌ
لا تكوني غشيمةً وافهميني
لو أكَلْتِ المغطوطَ فيها صباحاً
ورغيفَ التَّنور قبلَ التِّين
أو رأيتِ الرُّعاة في هَدْأةِ الفَجْرِ
لكنتِ اسْتَطَعتِ أن تذكريني
يمتطون الحميرَ نحو المراعي
وتُرَبَّى الأغنامُ للتَّسْمينِ
نحن لولا تلك الأصالةِ ضعنا
وقَبِلْنا مساويءَ التَّهجين
كيف تحكي ليلى كلاماً كَـ "ديزي"
"داعِبوني تحتَ القميضِ الثَّمين"
سوف يأتي "الأتراكُ والكوردُ" أيضاً
لِيُلَبُّوا نداءها السبعيني
أنتِ لن تضحكي إذ وقَعَ العُر
بان يوماً في مثلِ هذا الكمينِ
"عقْدَتي أنني اَضيقُ إذا ضاقَ
وأعني المكانَ في كُلّ حينِ"
"الخيولُ التي بلا عرباتٍ"
جلسَتْ في "اللوبار" كي تُغريني
أنتِ تدرينَ.. لم أُعِرْها اهتماماً
وأتيتُ البِسترو بقلبٍ حزين
حيثُ دَوَّنْتُ ما رأيتُ ببرلينَ
لكي ينشروه في "التكوين"..
أين سِفرُ التكوين.. شعري يُضاهي
كُلَّ سِفْرٍ من منشىءٍ لاتيني
سوف يمحو سِفري "حكاياتِ" موسى
ويًُضاهي تدوينَهم تَدْويني
بعدَ حينٍ ستسمعين الملايين
تُنادي خلفي: أنا برليني.
يومَها يخرجُ العراق من الأَسْر
ويأتي المأفُونُ بعدَ الأفينِ
قرأَ "الكلبُ" نَصَّ سعدي وأبدى
قَلَقاً من فهاهة التَّلْوين
وحكي لي عن رأيهِ باختصار:
قال يا صاحبي: "أنا بعريني"
أتمنَّى سؤالَه بوقارٍ:
هل سيمضي يوماً إلى بكّين؟
ومتى في اعتقاده سوف نَحظَى
بكتابٍ عنوانُه: "أنا صيني"؟...
ملحوظة ذات صلة بما قبلها
قبل أن أحظى بكتاب أنا صيني، قرأت في السفير: أنا ياباني بقلم الاستاذ عباس بيضون.
كما قرأت عن كتاب عنوانه: أنا فيلّيني،المخرج الايطالي المعروف. ثم اكتشفت ديوان: أنا...البرقاوي، الدكتور أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق...فقررت العودة إلى قصيدة الشريف الرضي الشهيرة: قولي لطيفك، التي غنتها أم كلثوم في فيلم دنانير 1939، ولحنها زكريا أحمد، وفيها: أما أنا ... فكما علمتِ ....
------------------------------
* عقرب وتيزين قريتان قريبتان من بعرين.
إضافة تعليق جديد