غسان الرفاعي: هوامش على الطريق
-1- مشهدان سورياليان ينغرسان في شعوري وأنا أتشاغل عن نفسي وعن الآخرين، متجنباً متابعة الأحداث الفاجرة التي تتلاحق في عالمنا العربي:
مشهد الرجل الذي تحدث عنه (فوكو) وهو يمشي على طريق طويل دون أن يتوقف، لكن الطريق يختفي من تحته بعد قليل، فإذا به يمشي في الفراغ وتحته هوة سحيقة، فلا يكترث بل لعله يتلهف لو يسقط فيها، ومشهد الرجل الذي تحدث عنه (كافكا) وهو يخطب بعصبية وراء منبر مرتفع في قاعة ضخمة مترامية الأطراف ولكنها فارغة وكلما أرعد وأزبد زاد اتساع القاعة أفقياً وشاقولياً إلى أن يتداعى المنبر ويسقط الرجل في حفرة سحيقة.
-2-
يحتدم الردح الإعلامي حالياً بين المطالبين بمقاطعة إسرائيل سياسياً واقتصادياً وثقافياً بسبب عنصريتها الفادحة وانتهاكاتها الداعرة للقرارات الدولية الملزمة وممارساتها الآثمة ضد المدنيين وهدمها للمنازل وحرقها للمزارع، وبين المدافعين عن حق إسرائيل في أن تكون فوق القوانين الدولية وخارج الشرعية الإنسانية باسم حماية ضحايا ما يسمى بالمحرقة وحق إسرائيل في ممارسة الجريمة، وقد شهدت الساحة الفرنسية مؤخراً مجابهة شديدة بين الفريقين، في وسائل الإعلام كان أبرزها بيانان أحدهما بتوقيع عدد من الشخصيات السياسية والثقافية الموالية بزعامة (هنري ليفي) المولع بالغطرسة والتحدي، والآخر بتوقيع مثقفين وكتاب ومناضلين من أبرزهم (أوليفييه بيزانسون) الناطق باسم الحزب المعادي للإمبريالية.
-3-
يقول (أوليفييه بيزانسون) في لقاء خاص معه: (إن التحرك من أجل مقاطعة إسرائيل هو تحرك عالمي وليس تحركاً فرنسياً- من كندا وأستراليا إلى الولايات المتحدة، من أوروبا إلى أميركا اللاتينية، من جنوب إفريقيا إلى آسيا والشرق الأوسط، إنه تحرك شعبي واسع تشارك فيه النقابات والروابط الاجتماعية والكنائس والجامعات وشخصيات بارزة سياسية وفكرية واجتماعية ومواطنون عاديون، وليس لهذا التحرك إلا هدف واحد: الضغط على إسرائيل كي تحترم القوانين والالتزامات الدولية، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا تسعى الحركة إلى تأجيج الكراهية ضد اليهود، لا داخل إسرائيل ولا خارجها).
وجاء في البيان الذي وقع عليه عدد كبير من الشخصيات السياسية والفكرية: (تحركنا ليس فلسفة وإنما إستراتيجية، نحن من أنصار السلام ولكن لا سلام من دون عدالة، إسرائيل التي يعود الفضل في إقامتها إلى الأمم المتحدة ترفض الالتزام والانصياع لـ 30 قراراً دولياً صادراً عن الأمم المتحدة، ثم إن محكمة العدل الدولية في تموز (2004) قد أصدرت حكماً بضرورة هدم الجدار العنصري الذي تشيده إسرائيل في الضفة الغربية، ولكن الجدار مازال قائماً يبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وماذا يقال في الاستمرار في بناء المستوطنات وتوسيعها وهدم بيوت وأملاك الفلسطينيين، وحرق مزارعهم وأشجار زيتونهم، لا بد من الاعتراف بأن سياسة اسرائيل هي سياسة توسع استعماري سياسة احتلال غير مشروع ولا بد من مقاطعة هذه الدولة لأن التستر على ممارساتها هو لطخة عار، وما يقال من أن دعوتنا إلى المقاطعة هي تشويه لسمعة اسرائيل هو محض افتراء إذ إن أكبر عدو لاسرائيل هي اسرائيل ذاتها، وأكبر متضرر من عدوانيتها هم سكانها.
-4-
ماسمعته في ندوة حول «إشكالات القرن الحادي والعشرين» عقدت في جامعة السوربون في نهاية الأسبوع الماضي، أقنعتني بأن جيلنا مهدد بأن يتحول إلى تجمع غريب يعيش في عالم لا يفهمه، اكتفيت بالاستماع المهذب الخجول إلى النقاش الساخن الذي جرى بين الاقتصاديين الجدد، وتعمق لدي الشعور بأن جيلنا لا يعاني من الإشكالات التي طرحت ونوقشت وأثارت الدهشة والتأمل، قلت في ذات نفسي: «إننا ننتمي إلى جيل عاش انتصارات موهومة وإخفاقات جارحة، ومازال يتشبث بمجموعة من الأفكار التي خيل إلينا أنها مفاتيح الحداثة، وقد آن الأوان للانسحاب من الميدان بهدوء وصمت قبل أن نجد أنفسنا على قارعة الطريق..».
-5-
تعصف بالمجتمع المعاصر – حسب زعم المشاركين في الندوة- صدمات الكترونية تفقده توازنه وتسلمه إلى أمواج من الاضطرابات والتفجرات والانقلابات السياسية والاجتماعية والثقافية، وقد يتعذر بعدها الرجوع إلى الهدوء والسلام في فترة وجيزة. إن الثورة المعلوماتية التي نحياها اليوم هي الأخطر والأوجع، إن أسياد العالم -كما قال أحد المشاركين- لن يكونوا الطغاة ولا العسكر ولا أباطرة المال والمافيا، وإنما العقول الالكترونية البشعة: ستقوم أوتوسترادات الإعلام بهدم كل شيء يقف في طريقها: الحدود، القوميات، الهويات، الثقافات، ولن نكترث بما تخلفه وراءها من مآس وكوارث اجتماعية أو فردية، ولن يفيد في شيء مقاومتها أو محاولة التصدي لها..
-6-
أكثر الأفكار طرافة في الندوة هي المطالبة بديمقراطية البدو الرحل، وتقوم على أن عالم اليوم ينبغي أن يلغي الحدود بين الدول وأن يسمح باختراق الحدود الجغرافية بشرياً واقتصادياً، وقد يتطلب الأمر أن يستنسب المواطن الذي ينتمي إلى وحدة جغرافية، الهجرة إلى وحدة جغرافية أخرى، كالبدو الرحل قديماً.
يقول (جاك أتالي) صاحب هذه الفكرة: (إن العودة إلى شريعة البدو الرحل لا تعني العودة إلى البربرية، وإنما التقدم إلى الأمام، وإذا كان هذا ممكناً في أوروبا بعد سقوط جدار برلين بسبب التماثل والتقارب بين الحضارات، فقد يبدو صعب التحقيق بين الشمال والجنوب). وكالعادة دس بعض السم في الدسم فأعلن في خبث (أنه لا يوجد إلا حاجزان أمام البداوة المعاصرة: الإسلام أولاً وإفريقيا السوداء ثانياً وكلاهما يصران على البقاء داخل غيتو محاط بالأسلاك الشائكة)، وهل نتهم بالمزاح الهازل إذا طلبنا أن يستفاد من تجربة البدو الرحل، ولماذا لا يسمح للمواطن العربي أن ينتقل من بلد إلى آخر بشكل مستمر دون حواجز ولا قيود، بعد إلغاء كل مراكز المراقبة والتنكيل الجغرافي؟
-7-
ولعل الموضوع الذي احتدم حوله النقاش، هو إصرار معظم المشاركين في الندوة على أن (المثقف الشمولي) الذي كان ينصب نفسه مرشداً وموجهاً للمجتمع قد تغمده الله برحمته، وأن المجتمع ما عاد بحاجة إليه، بعد أن أصبحت الأمور تدار تلقائياً دون حاجة إلى توجيه، وفي المقابل ازدادت الحاجة إلى الاقتصادي والتقني الذي يبرع في ميدانه.
يقول المفكر (بول تييبو): (الشيء الجديد في مجتمعنا هو الاعتماد على التسيير الذاتي دون الاستعانة بكهنة التوجيه، الإنسان المعاصر يغتذي حضارياً من عدة مصادر مجانية، المعلوماتية توفر له كل شيء بشكل مذهل، ولم يعد بحاجة إلى /اميل زولا/ أو /تولستوي/ ليقتدي بسلوكهما، وإنما هو بحاجة إلى مصلح التلفزيون ومنظف البلاليع، وقد يبدو هذا الكلام فظاً وموجعاً، لكنه يصور واقعاً يومياً، ما عاد من الممكن تجاهله (ويضيف تييبو): (المفارقة أن أحداً لا يحاسب منظف البلاليع على مواقفه السياسية أو الثقافية، ولكن الجميع يحاسبون المثقف ويجعلونه مسؤولاً عن أقواله، فإن كان صريحاً عاقبوه وإن استخدم الثورية اتهم بأنه مراوغ رخيص..)
-8-
ثم إن الثنائية بين المحافظة والتجديد ثنائية ملتبسة بعض الأحيان، وقد تكون متداخلة: الرجعي عنيد ومشاكس لأنه يرفض التجديد وأنه سجين الروتين، وهو لهذا السبب كسول ولا يريد أن يبدل شيئاً من عاداته وتقاليده، في حين أن الثائر هو خالق للمشكلات وحريص على زرع الشقاق والخلل عن طريق العنف.
يقول /ميشيل هوليبرك/ الذي منح جائزة (غونكور) هذا العام: (ليس لدى المحافظ بطل أو شهيد، وإذا لم يستطع أن ينقذ إنساناً فإنه لا يخلف وراءه ضحايا، إنه لا يدعي اجتراح المعجزات، لذلك فهو مسالم قليل الخطر..)
-9-
وكانت الصدمة الكبرى هي تهشيم وهم التمثيل الشعبي في أشكاله المختلفة، الرجعية والتقدمية، من أحزاب ونقابات وتنظيمات مهنية ومجالس نيابية ولجان شعبية، والاستعاضة عنها كلها بالاحتكام المباشر عن طريق الحاسوب أو الليف البصري الذي تفرزه التقنيات المعلوماتية الحديثة. يقول /جان برتولس/: أكبر خطر يتهدد الديمقراطية الحق هي التنظيمات الكاريكاتورية التي تدعي التمثيل الشعبي وأعتى الطغاة الفسودين هم القائمون والمشرفون على هذه التنظيمات من رؤساء نقابات وأمناء عامين للأحزاب ونواب ملتزمين، والحقيقة أنه لم يعد هناك حاجة لطبقة عازلة تقوم بين الفرد وقيادة الهرم الحاكم، إذ بمقدور كل فرد أن يبدي رأيه مباشرة وهو وراء الحاسوب أو في منزله. ولنصرف كل هذا الجيش الهرم المترهل من ممثلي الشعب الذين لا يتقنون إلا مهنة واحدة هي الإثراء غير المشروع وتكريس الامتيازات والاحتيال على القوانين التي يصدرونها..)
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد