غسان الرفاعي: قراءات جانحة
-1-
أصدر صحفي إيطالي يدعى (أوريست ديل بونو) رواية شيطانية في مطلع حياته، أظهر كراهيته فيها لمدينة ميلانو، لأنها (تخلو من اللصوص والقتلة والفاسقين).
وهؤلاء- كما يجزم أوريست- هم الذين يحققون الازدهار في أوروبا المعاصرة، عنوان الرواية (لا أعيش ولا أموت) وهو مسروق من فكرة مأثورة لـ (جورج لوكاش) المفكر الماركسي: (ألا تعيش وألا تموت، فهذا أخطر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان!).
ولكن الصحفي الإيطالي (أوريست) وبعد عشرين عاماً من اليأس والإخفاق طلع علينا برواية جديدة أسماها: (لا شيء غير الحياة!) يبشرنا فيها أن مدينة ميلانو قد دخلت الحداثة من الباب العريض وأنها أصبحت (منتجعاً للصوص والقتلة والفاسقين).
فكرتان في روايته الجديدة تستأثران بإعجابي:
الأولى: تصنيفه الناس على أساس رائحة النتانة، يكتب وكأنه يهذي: (حينما أعبر السوق الذي يوصلني إلى عملي في صحيفة «الستانبا» أشم رائحة نساء، وكأنها رائحة باطن القدم، أو النفتلين، أو الطين المبتل، وأشم رائحة رجال، وكأنها رائحة لحم متفسخ أو كاوتشوك، أو رائحة زيت مغلي، ولكنني أعرف أن النبل الحقيقي يتصاعد من هذه النتانة.
ولكنني حينما أجتمع مع قادة البلد الذين يتوافدون إلى رئاسة التحرير, أشم رائحة الياسمين, والليلك والنسرين, ولكنني أعرف أن الخسة تتصاعد من هذا الأريج) والثانية, اعترافه بأنه لم يعد له إلا صديقان يثق بهما: الهاتف الذي يصله بالناس الذين يعرفهم, والكلب الذي يصله بالناس الذين لا يعرفهم. يكتب وكأنه قد أصيب بنوبة صرع: «وجوه الأصدقاء والمعارف أقنعة تحجب حقيقتهم. فحذار أن تغرز عينيك في أعينهم مجابهة, والكلمات التي تتدحرج من شفاههم أفخاخ لاصطيادك, فحذار أن تتورط لا تحادثهم إلا عبر الهاتف إذا كنت بحاجة إليهم...» ثم يكتب: «خير العلاقات وليدة الصدفة, وسريعة الزوال, وكلبي الصغير يؤمنها لي عن طريق التحرش البريء وشم الرائحة ما أوحش مدينة يتحكم فيها دليلان للخروج من صقيع الوحدة: هاتف وأنف كلب».
هذا صحفي أخرق يستجرنا إلى البغضاء والانعزال, وقد يكون من واجبنا أن نلصق على جبينه «خطر على الأمن!» وأن نرسم على خديه «جمجمة وعظمتين» للتحذير من الاقتراب منه, ولكن لا بد من إهداء مؤلفاته الكاملة إلى «الرجعيين الجدد» في أوروبا الذين يتحدثون عن «رائحة التوابل» التي تتصاعد من أحياء المهاجرين المغاربة في باريس, ويحذرون من الأفخاخ التي ينصبها لهم « المتطرفون الشرقيون» ألم يقل زعيمهم (هولبيك), الكاتب العنصري الذي أثار زوبعة من الغضب بعد نشر روايته «المنصة» التي يعلن فيها أنه كلما سمع بأن الجنود الاسرائيلين قتلوا طفلاً فلسطينياً أو بقروا بطن امرأة حامل فلسطينية شعر بالنشوة وهتف: « لقد نقص عددهم واحداً والحمد لله, وهذا فأل خير..». وألم يقل حديثاً في تهكم أسود: « تجنبوا الاقتراب من الأحياء التي تعبق برائحة الكزبرة والكمون, إنها دليل على وجودهم, وفي المترو إذا شممت رائحة الكزبرة والكمون اقفز من العربة, وخذ عربة أخرى!».
-2-
في قصص الحب العربية شخصان متطفلان مريبان لا علاقة لهما بالحب، ولكنهما أساسيان فيه: «العزول والواشي». إنهما يحتلان موقعين بارزين في قصيدة الغزل وأغنية الحب أكثر أهمية، بعض الأحيان، من بطلي قصة الحب، ينحصر دور العزول في إظهار ألمه «المجاني» كلما نمي إليه أن اثنين يتحابان، فيملأ الدنيا نحيباً، مع أنه ليس طرفاً في القضية ولا يطمح إلى أن يحل محل العاشقين، كل ما في الأمر أنه «مأزوم» لأنه لا يطيق أن تتبرعم قصة حب «وراء ظهره»، ولا يتورع عن إلحاق الأذى الموجع بالعاشقين أو بنفسه، دون الحصول على أي منفعة شخصية. أما الواشي فهو أكثر خسة، إذ ينصب نفسه «مخبراً عاطفياً» بالمجان، ينقل آخر الأخبار عن تطور العلاقة بين العاشقين، وينشرها على الملأ بعد إضافة تفاصيل وتلفيقات من نسج خياله، ولا يرتاح إلا إذا ساءت العلاقة بين العاشقين، ولا يعود إليه توازنه الداخلي إلا بعد أن يتم الفراق النهائي بينهما، لكن قصص الحب العربية تكاد تخلو فيما يزعم باسكال بروكنر من شخصية «الغريم» وهو الذي ينافس العاشق على المعشوقة، ويتحين الفرص للتخلص منه، في مبارزة أو مجابهة أو معركة.
ينقل «باسكال بروكنر» هذه العلاقة الغامضة المتوترة بين العاشقين والعزول والغريم إلى المسرح السياسي، فيقدم لنا «فانتازيا فكرية» يحاول من خلالها أو يسخر من الديمقراطية الليبرالية الغربية، بل من النشاط السياسي في كل مكان وزمان، فهناك قصة حب بين الحاكم والشعب لا تختلف في صعودها وهبوطها، في توهجها وبرودتها، عن قصة حب عادية بين رجل وامرأة، يكتب «باسكال بروكنر»: «قد يكون الحاكم العاشق سادياً أو مازوشياً أو عنيناً، ولكن المعشوق- الشعب، يتمنع، ويكر، ويفر، ويقبل ويدبر، قد يذوب وجداً وقد يصعر خده، ولكن ردود أفعاله تتبلور في تناغم أو تعاند مع شخصية العاشق، في البدء يكون وفياً ثم تراوده فكرة الخيانة، ولا يتردد في الاستماع إلى إغراءات المنافسين، ويستنجد «بروكنر» بالمتطفلين المريبين الشائعين في قصص الحب العربية، ويفضل التحدث عنهما بلغة الجمع لا الفرد، والعزال هم رؤساء الأحزاب الناشطة على الساحة والوشاة هم الإعلاميون الذي ينتقلون من الحاكم- العاشق إلى الشعب- المعشوق، يلفقون وينافقون دون توقف، والغريم هو المنافس الذي ينجح في الانتخابات وينقض على العاشق ويطرده ويحل محله» والأمر المشترك بين هذه الشخصيات كلها هو إدمانها على الشكوى، ويرى «بروكنر» أن الشكوى هي أضعف أشكال التمرد والثورة: الحاكم- العاشق يشكو من أنه غير مفهوم ومظلوم، والشعب المعشوق يشكو من أنه محروم من حقوقه، والعزال يشكون من عدم التعامل معهم بجدية، والوشاة يشكون من أنهم لا يمنحون الحرية الكاملة لإشباع حبهم للنميمة والتجريح، أما الغريم فإنه يشكو من أنه لم يحصل على الصلاحيات الضرورية لإسعاد شعبه- المعشوق فور انتصاره على الحاكم- العاشق. ويستشهد «بروكنر» بقول مأثور للروائي المغضوب عليه «سيلين» «نعم.. الكل مذنبون باستثنائي..».
وفي النهاية سأل أحدهم هذا السؤال:
- وأين موقع الكاتب من قصة الحب هذه؟
وصمت «بروكنر»، ثم قال وهو لا يخفي خجله:
- موقع ذي القرنين.
«والطريف أن الكاتب المغربي «الطاهر بن جلون» لم يشأ أن يكتفي بقراءة نص «بروكنر» الفانتازي بل علق عليه فكتب: نحن العرب نهتم كثيراً في قصص العشق بين الحاكم- العاشق والشعب- المعشوق بالعوازل والواشين أي بالمعارضة ورجال الإعلام ولهذا نستبعدهم بالتي هي أحسن، فإن تصلبوا أدخلناهم السجون حفاظاً على سلامتهم.
-3-
كان «هنري ميللر» وقد تجاوز الحدود الفاصلة بين العفة والاحتشام يصف الكتابة بأنها عملية اغتصاب وقد بقيت كتبه حتى فترة وجيزة، ترص في الرفوف الخلفية من المكاتب، على أساس أنها تخدش الحياء إلى أن سقط عنها التحريم وأصبحت تباع على الأرصفة كتب في نهاية روايته الجانحة الربيع الأسود: تتمايس الألفاظ كالفتيات الطاهرات الخجولات في الحدائق والشوارع، بانتظار الكاتب المبدع الذي يعرف كيف يغتصبهن، ولكن المأساة المعاصرة كما كتب كاتب عربي جانح هو الآخر: إن الكتاب في وطننا هم الذين يتمايسون في انتظار أن تغتصبهم السلطة، وإلا افترستهم البطالة..
غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد