إرنست همنغواي: هل كانت "الأف. بي. أي" السبب في إقدامه على الانتحار
استعادت الأوساط الأدبية العالمية في 2 تموز الحالي ذكرى مرور خمسين سنة على انتحار الكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي، حيث أقيمت له أكثر من احتفالية في أكثر من مكان. الذكرى "الأليمة" كانت مناسبة لإعادة إلقاء الضوء على كاتب وسم الأدب المعاصر، بأسلوبه الذي يجد العديد من النقاد أنه أثر في أجيال كثيرة أتت من بعده، لا في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم، إذ يكفي أن نتذكر ما قاله الكاتب جيروم شارين في كتابه "صورة الفنان بثياب المحارب الجريح" لنقع على أهمية هذا الأسلوب الذي تجذر عند من أتى من بعده. يقول شارين: "من باريس إلى كي ويست، ومن مدريد إلى كوبا، كان هذا الرجل الذي يحب الصيد يُعزم موته طيلة حياته (...). ما من كاتب أتى بعد همنغواي لم يتعلم منه. لقد غير أسلوبنا، طريقتنا في تفحص أرخبيل الكلمات والفضاءات البيضاء اللامتناهية التي تحيط بها". ذكرى الانتحار والرحيل، كانت أيضا مناسبة لإعادة إصدار بعض كتبه القديمة بطبعات جديدة، كما ترجمة بعض النصوص مثلما حدث في العاصمة الفرنسية مع كتاب "باريس هي عيد"، كما نشر كتاب – ألبوم، يتضمن العديد من الصور غير المعروفة أو التي تنشر للمرة الأولى للكاتب، وقد قدمت له حفيدته مارييل همنغواي التي لم تتعرف إليه مطلقا. لكن بين هذا وذاك، ثمة "مفاجأة" لا بدّ أن تثير انتباهنا وهي في المقالة التي نشرها صديق الكاتب وكاتب سيرته أرون إدوارد هوتشنر في صحيفة "نيويورك تايمز"، يوم 2 تموز الحالي، اعتبر فيها أن مراقبة رجال "الأف. بي. أي" اللصيقة لهمنغواي هي ما دفعته إلى الانتحار. من هذه النقطة الأخيرة، نستعيد، بداية، مقالة هوتشنر في "النيويورك تايمز"، قبل أن ننتقل إلى بعض الجواب الأخرى، التي عرفتها الاحتفاءات بهذه الذكرى. قبيل الانتحار في صباح الثاني من تموز من العام 1961، استلّ كاتب "الشيخ العجوز والبحر" – وكان في الواحدة والستين من عمره – بندقية الصيد المفضلة لديه ليطلق رصاصة في رأسه. يومها قيل إن فعلته هذه مردها إلى بعض الاضطرابات "الثنائية القطب": شعوره بأنه فقد الوحي الذي يدفعه إلى الكتابة، الكآبة التي عاناها بسبب مشكلاته المادية كما إلى بعض المشكلات الصحية بالإضافة إلى مشكلاته الزوجية. اليوم، يخالف أرون إدوارد هوتشنر – الذي كان صديق همنغواي الكبير والحميم خلال السنين الأربع عشرة الأخيرة من حياته - هذه الفرضيات ويعيد طرح الأسئلة عليها، عبر رسالة نشرها في الصحيفة الأميركية ويذكر فيها بأن همنغواي عاد إلى كوبا عام 1959 كي يكتب مقالة طلبتها منه مجلة "لايف". إلا أن "الأف. بي. أي" شكت يومها في تعامله مع النظام الكوبي فأخضعته لمراقبة دقيقة ولصيقة وهذا ما يدل عليه الملف الذي نشر عام 1983 والذي يقع في 127 صفحة. حتى أن الملف هذا يشير إلى أن أحد العملاء الفيديراليين، وهو ج. إدغار هوفر، وجد متعة خاصة في توليه هذا التحقيق. يتذكر هوتشنر في رسالته الشهور التي سبقت انتحار همنغواي، ويتحدث عن كآبة همنغواي الطافحة حين زاره في منزله في إيداهو، يقول على لسان الكاتب: "أعيش أقسى أنواع الجحيم، إنهم يتنصتون علي في كل مكان. لهذا أستعمل سيارة ديوك، إذ ان سيارتي مليئة بأجهزة التنصت. كل شيء كان مراقبا. من المستحيل أن أتصل بالهاتف. رسائلي تصلني مفتوحة". هذه المراقبة اللصيقة، عادت لترافق همنغواي خلال وجوده في مستشفى سانت ماري، في ولاية مينيسوتا، الذي دخل إليه الكاتب عام 1960 لتلقي العلاج النفسي بالصدمات الكهربائية. ويعترف هوتشنر في رسالته هذه بأنه لم يقدر يومها "الرعب" الذي كان يعيشه همنغواي من رجال الأف. بي. أي. لهذا "أحاول اليوم أن أقارن بين ذاك الخوف وما بين التحقيق الفيدرالي. أعتقد فعلا انه كان يشعر بالقلق من المراقبة وقد ساهم هذا الأمر في ازدياد كآبته ما دفعه إلى الانتحار". باريس في عيد صحيح أن كوبا كانت البلاد المفضلة عند همنغواي، إذ لم يتوقف عن العودة إليها، بل هي أيضا التي أوحت له برائعته "الشيخ العجوز والبحر"، إلا أن لباريس نكهة مميزة عند الكاتب، فهي المدينة التي شهدت أولى خطواته الأدبية وبخاصة أن باريس في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كانت المدينة التي سكنها العديد من الكتاب الأميركيين. حول هذه العلاقة مع المدينة كتب همنغواي كتابا بعنوان "باريس هي عيد" (وفق الترجمة الفرنسية)، ولمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله، أعادت دار "غاليمار" إصدار الكتاب بترجمة جديدة، وهو ككتاب يقدم لمحة معمقة عن هذا الجيل الأميركي الذي رأى في باريس عاصمة للثقافة العالمية. ثمة "سيرة"، إذا جاز القول، لهذا الكتاب تستحق أن تروى. ففي شهر تشرين الثاني من عام 1956، زار همنغواي باريس بعد غيبة طويلة عنها، قادما إليها من اسبانيا. وكما عادته، نزل في فندق "الريتز" الشهير، وفور وصوله أعطاه المسؤول عن الحقائب حقيبتين كانتا موضوعتين في قسم الأمانات منذ العام 1928. كان همنغواي قد ترك هاتين الحقيبتين هناك قبل ثلاثين سنة، ونسى أمرهما كليا. وحين فتحهما وجد فيهما دفتري ملاحظات وبعض الوثائق الأخرى التي تعود إلى إقامته الأولى في العاصمة الفرنسية خلال العشرينيات. هذه الوثائق والملاحظات أتاحت له في ما بعد أن يعيد صوغ كتابه "باريس هي عيد"، ليأتي كتابا "عن الزمن الضائع" عن زمن "هذا الجيل التائه". ترد عبارة "الجيل التائه" في الفصل الثالث من الكتاب لنتعرف أكثر كيف أن الكاتبة الأميركية جيرترود ستاين (التي كانت واحدة من أبرز الوجوه الثقافية في تلك الحقبة) اكتشفت هذه العبارة لتطلقها على جيل كامل من الكتّاب. من هنا يشكل "باريس هي عيد" القطعة الأساسية التي تسمح للقارئ باكتشاف باريس همنغواي التي يقول عنها: "هكذا كانت باريس شبابنا، في الزمن الذي كنا فيه فقراء جدا لكن سعداء جدا". هذه الجملة الأخيرة، تشكل الجملة الأخيرة في الكتاب، ومن يعرف أحياء باريس لا بدّ أنه قرأ هذه الجملة على لافتة معدنية موجودة في شارع "كاردينال – لوموان، رقم 74" (في الدائرة الخامسة) حيث وضعت تكريما لهذا الكاتب الأميركي كما لكلّ هذا الجيل الذي عاش هناك قبل الحرب العالمية الثانية. صحيح أنه كتاب عن باريس، لكن في الواقع، لا بد لنا أن نجد العديد من المراجع الباريسية في غالبية أعمال همنغواي. هذا "الموتيف" الباريسي عنده، مصنوع من "الخبريات" واللقاءات والأمكنة، وفي أغلب الأحيان، نجده سببا في سعادة ما. ففي "تلال أفريقيا الخضراء" نرى الصياد، وهو في قلب رحلة صيد في الصحراء، يتذكر "روعة ينابيع المياه في ساحة الأوبسرفاتوار"، بينما في "ثلوج كليمانجارو"، وبينما كان هاري يحتضر، نراه يتذكر جبل "سانت – جنفياف". كذلك نرى الكولونيل كانتويل، في كتاب همنغواي عن مدينة "البندقية" (فينيتسيا) وهو جالس في فندق "غريتي" كيف يروي للصبية الشابة عن المعركة التي خاضها لتحرير باريس (من الاحتلال النازي)، الخ... ثمة العديد من الصور أيضا التي تظهر همنغواي وهو يتجول في باريس حاملا خريطة المدينة بيده، أكان يومها مراسلا حربيا أم عائدا إليها من أجل الصيد. هذه الخرائطية الباريسية، موجودة في العديد من كتبه السردية أو في مراسلاته العديدة، إذ كما هو معروف عن الكاتب، رغبته الكبيرة في تحديد الأمكنة (مثلما نجد في رواياته وأقاصيصه). في أي حال، ثمة "مثلث" باريسي نجده في كتابه هذا الذي يغطي فترة أشهر قليلة قضاها هناك عام 1922 برفقة زوجته. هذا المثلث يتراوح بين مكان الإقامة والعمل (القراءة والكتابة)، ومكان التبادل (النقاشات مع الآخرين) ومكان ممارسة الرياضة (قاعة الملاكمة أساسا)، الذي يمتد بين الأوديون، السان جرمان والمونبارناس. وفي هذا المثلث سرعان ما وجد عاداته: التردد إلى المكتبات، المقاهي، المطاعم، محترفات الرسامين... في أي حال، نكتشف في هذا الكتاب، مدينة باريس من وجهة نظر خاصة تعود إلى كاتبها، وكأنها بمعنى ما، تقف على الطرف الآخر من كوبا. كانت باريس مرحلة الشباب والتعلم والبدايات وبداية المسار الأدبي، أما اسبانيا فكانت اكتشاف الالتزام السياسي، أما كوبا فهي هذه البلاد الذي عجنت همنغواي ومنحته "الهدوء" والعزلة للكتابة، كانت المكان الذي كتب فيه كل رواياته الكبيرة. لقد عاشها بكل تفاصيلها، من هنا، نجد أن الكوبيين لا يزالون لغاية اليوم يفردون مساحة لهذا الكاتب الذي أحبهم وأحبوه. حتى أن بعض شركات السياحة، قررت لمناسبة هذه الذكرى، أن تقيم رحلة يتبع فيها السائح الأمكنة والمسارات التي كان يرتادها همنغواي هناك. بعيدا عن الكليشيهات من الكتب الجديدة الصادرة عن الكاتب الأميركي الراحل، والتي استقبلتها الصحافة بكثير من الحماسة، كتاب "همنغواي. الحياة والمكان الآخر" (منشورات ميشال لافون، العنوان بالفرنسية هو Hemingway. La vie et ailleurs ويذكرنا بعنوان كونديرا La vie est ailleurs (الحياة في مكان آخر) حيث تكتب فيه حفيدة الكاتب، مارييل همنغواي، تحية لجدها الذي لم تعرفه، إذ توفي قبل أن تولد، لكن الجميل في هذا الكتاب وجود أكثر من 300 صورة، غالبيتها تنشر للمرة الأولى. أيّ أنها تعود إلى أرشيف العائلة لتستل منه بعض الصور التي لم نعرفها قبلا عن الكاتب (ننشر بعضا منها مع هذه المقالة) حيث تقدم لنا "سيرة حياة" عبر الصورة، وكأننا بذلك نكتشفه من جديد.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد