غسان الرفاعي: مفاجأة «الكوميديا الإنسانية»
حينما علمت أن (وليام سارويان)، الكاتب الأرمني الأمريكي الذي اكتشفته في مطلع حياتي، وترجمت له معظم قصصه القصيرة، يعاني سكرات الموت في مستشفى (كاشان) في باريس، تملكني حزن شديد.
وقررت زيارته والتحدث إليه، لشعوري بأنني مدين له ويتوجب علي أن أرد جميله، كنت أتابع سيرة حياته وأعرف أدق التفاصيل عن مراهقته وشبابه وكهولته، في حين لم يكن يعرف شيئاً عني ولم يكن يعلم أنني ترجمت الكثير من آثاره إلى اللغة العربية.
وقد أضفت هذه العلاقة «العبثية» سحراً خاصاً على اللقاء، هو مزيج من الفرح العابث، والكآبة الثقيلة المحرجة.
كانت في ذهني صورة واضحة عنه، جمعتها مما كتبه عنه أصدقاؤه ونقاده: رأس كبير مكسو بشعر فاحم السواد يخفي جبهته الضيقة، وشاربان ضخمان يلتهمان شفتيه، ورقبة قصيرة تكاد أن تلغي المسافة بين الرأس والكتفين وجسم مكتنز يتوسطه بطن ناتئ ومتكور، وساقان دقيقتان قصيرتان لا تلتقيان بالجثة البدنية الملغومة.
وقد أصبت بخيبة أمل وضيق حينما سمح لي بدخول غرفته، بعد مناقشة ساخنة ولجوجة مع امرأة هائلة التقاطيع، يبدو أنها صديقته أو زوجته، كان جالساً في فراشه وقد استند إلى وسادة سوداء، وكشف عن صدره المشروط حتى أسفل بطنه، لقد اختفى شعره الكث وظهرت صلعته المتوهجة، وبدا فمه فاغراً كحفرة بعد أن أزيل الشاربان، وتقلص جسمه حتى ليخيل إليك أنك أمام ولد صغير لم يكتمل نموه بعد.
قال بصوت واهن، وكأنه يسحب كلماته من كهف لا قرار له، وهو يلهث من دون انقطاع:
إذاً أنت من سورية، وقد ترجمت قصصي إلى العربية، ترى هل أعجب بها ناسكم أم مزقوها؟
وانتابني شيء من الهلع والخجل، شعرت وكأنني لص قد قبض عليه بالجرم المشهود، كيف أترجم قصصه وأنا لم أحصل على إذن منه، ولم أكتب إليه طوال هذه الفترة لاستئذانه، ولم يخطر على بالي أن أزوره إلا بعد أن أقعده المرض، ووصل أو كاد إلى نهايته؟.
وبلغني صوته المتقطع الخفيض:
لعلك من هؤلاء الكتاب الصحفيين المولعين بتسجيل آخر كلمات العظماء قبل أن يلفظوا أنفاسهم؟ ابشر! سأمنحك سبقاً صحفياً مثيراً ستتناقله وكالات الأنباء، سجل يا صديق! ستكون آخر كلمة لي قبل أن يقبض ملك الموت على روحي هي «طز» سأقولها بملء الفم والرئتين، حينما أشعر بدنو أجلي، سأستدعي الأطباء والممرضات، وسأطلب منهم أن يأتوني بسطل من الماء الفاتر المشبع بالملح، وسأغطس قدمي فيه، وإذ أتأكد من أن روحي ستغادرني، لا أدري إلى أين، سأصرخ بكل قوتي: «طز».
وتحاشيت أن تلتقي نظراتنا، كان يخجلني أن يكتشف دموعاً بدأت تهطل من عيني، أممكن أن هذا العملاق سيختفي بكل هذه البساطة؟ وأن يملك القدرة على السخرية؟
واستجمع شيئاً من حيويته الذابلة، بعد أن عرفت بنفسي، وطفق يتحدث عن بعض ذكرياته وكأنه يناجي نفسه. كان الموت يقفز من عينيه الداكنتين ولكنه على ما يبدو، كان مصمماً على أن يستثمر كل دقيقة قبل الرحيل. حاولت المرأة الهائلة أن تمنعه من الكلام، غير أنه نهرها بقسوة.
قال وهو ينظر إلى النافذة المغلقة:
كان لي ابن عم اسمه (مكرديج)، يعمل في تصليح السيارات في مدينة حلب وثق الناس به بسبب استقامته وكفاءته، ولم تمض فترة وجيزة حتى اشترى الكاراج الذي كان يعمل فيه، وتزوج امرأة جميلة كان الجميع يحلم بالزواج منها، وذات يوم أصابه مس من الجنون، تولد عنده اليقين أن مهمته الحقيقية هي إصلاح الناس لا السيارات، حاول أقرباؤه وأصدقاؤه أن يعيدوه إلى الصواب، مؤكدين له أن إصلاح الناس ليس من اختصاصه، وأن عليه أن يلتفت إلى عمله، وإلا حلت به الكارثة، ولكنه ازداد عناداً وتصلباً. كان يطوف على أفراد الجالية الأرمنية في حلب، داعياً إلى الفضيلة والإصلاح، إلى أن انتهى به الأمر إلى بيع الكاراج وتطليق زوجته، والهجرة إلى بريفان عاصمة أرمينيا السوفييتية، وهناك مات شحاذاً منبوذاً، صدقني، نحن جميعاً من عائلة (سارويان) مصابون بمس من الجنون، ألا ينطبق هذا علي أيضاً؟ لو أنني فتحت دكان حلاقة، كما كان يريد لي والدي، أما كان ذلك أحسن من مزاولة الكتابة؟.
وتوردت وجنتاه، استوى في جلسته وقال:
تزوجت ثلاث مرات وما أزال عازباً، أتدري لماذا طلقت زوجاتي الثلاث؟
بسبب غرفة الاستقبال! يبدو أننا اكتسبنا عادة تقديس هذه الغرفة منكم أنتم الشرقيون، إننا نختارها أحسن غرفة في المنزل وأكثرها وجاهة، ونضع فيها كل الأشياء الثمينة التي نعتز بها، في انتظار الزوار الذين غالباً لا يأتون، ولكن الأمريكان لا يقيمون وزناً لهذه الغرفة ويفضلون عليها المطبخ أو «غرفة الطعام» وقد رفضت زوجاتي الثلاث، وكلهن أمريكيات، الاعتراف بالمكانة الخاصة لغرفة الاستقبال، وكن كلما تخاصمن أو تشاجرن لسبب من الأسباب، يهجمن على الغرفة ويحطمن كل ما فيها من أثاث ومعروضات ولوحات وخزفيات، وكان علي أن أختار بين الزوجة وغرفة الاستقبال، ودوماً كنت أنحاز إلى الغرفة!
وانفتحت شهيته للكلام، على الرغم من تحذيرات السيدة الهائلة التي لم تتوقف عن تقطيب حاجبيها قال: لا يسجل المؤرخون إلا الحياة العامة لصانعي التاريخ، وقلما يتحدثون عن حيواتهم الخاصة، فهذه كما يزعمون «ملكية محروسة»، وليس من الأخلاق الكشف عن أسرارها وخفاياها، ولا يركز المؤرخون إلا على الحدث الذي يرتبط بأسماء صانعي التاريخ، وقلما يأتون على ذكر الناس «الغفل» الذين شاركوا في صنع الحدث، فهؤلاء –كما يقال- «كومبارس أو أصفار أو أسماء» تظهر على المسرح لتختفي وتعود إلى النسيان، وحتى حينما يكثر الحديث عن «عصر الجماهير» فإن الأضواء تسلط على «الزعيم الجماهيري» لا على الجماهير ذاتها، بل لعل عبادة الفرد لم تصل إلى التأليه الأقصى إلا في عصر سيادة الجماهير، فكان من إفرازاتها (ستالين) و (ماوتسي تونغ) و(كيم ايل سونج).
صدقني الأديب أكثر صدقاً من المؤرخ يسهب المؤرخ في الحديث عن القائد الذي قاد المعركة أو أصدر الأوامر، في حين يعيش الأديب مع الجنود الذين خاضوا المعركة ونفذوا الأوامر، يصف مشاعرهم وهمومهم وهواجسهم ومن هذا المنطلق يبقى الروائي ألصق بنبض الحياة، وأقدر على فهم الحدث التاريخي من الداخل لا من الخارج.
«أنا منحاز للرواية ضد التاريخ، متعصب لـ (ديستوفسكي) و (شكسبير) ضد (ميشلان) و(توينبي)».
وقبل أن يسدل عينيه تعباً وإرهاقاً، قال:
أصبحت أمريكياً بالصدفة وكان من الممكن أن أكون تركياً أو سورياً أو كورياً، ولكنني أشعر بالإثم: نحن، الأمريكيين، ارتكبنا جريمتين: تصفية الهنود الحمر، أكرم الشعوب وأكثرها موهبة، واسترقاق الزنوج، أكثر الناس رقة وعفوية.
حدث هذا اللقاء مع (سارويان) في 23 آذار 1980، وتوفي الكاتب الكبير في مستشفى كاشان في 27 نيسان من العام ذاته. مجلة الأدب الحديث التي تصدر في نيويورك، خصصت عددها لشهر أيلول لـ (وليام سارويان).
تضمن العدد مجموعة من المقالات النقدية عن أدب (سارويان) وحياته العاصفة، من بينها مقال عن «آخر أيام سارويان في باريس» بقلم الناقدة (اليزابيت تالابوه) فيه تسجيل للمقابلة التي أجراها الكاتب معي قبل وفاته.
ولم تكن الناقدة (اليزابيت تالا بوه) إلا السيدة هائلة التقاطيع التي أجرت معي مناقشة لجوجة قبل السماح لي برؤية الكاتب والتحدث معه.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد