"البندقية 68" السينما في زمن التغيير
65 فيلماً، من بين أفضل ما أُنتج في الأشهر الماضية، تشق طريقها الى "جزيرة السينما"، الليدو، منذ الأربعاء الفائت، لتجد عيوناً مراقبة وآذاناً صاغية ملقاة عليها من اهل الصحافة والمهنة والمشاهدين المتوافدين من كل أنحاء ايطاليا. السؤال: كيف تكون الدورة الأخيرة تحت ادارة ماركو موللر، الذي أعلن ان السينما مكّنته من الانتماء الى العالم!؟
هذا العدد فقط في التشكيلة الرسمية، أما خارجها فالمجال لا يتسع هنا لتعداد العناوين. انها مسابقة على تمثال يجسد ملك الغابة، انها سلّة عروض، انه ديكور رومنطيقي فريد للاستمتاع والعمل ولقاء صنّاع الأفلام والآمال المنبعثة من قلوبهم. كلٌّ منّا يستطيع ان يسمّي "موسترا (معرض) البندقية" كيفما يشاء، وأن ينعتها كيفما يحلو له، فالتسمية لن تغير الكثير في حجم الكيمياء الذي سيتولد بين المهرجان ومَن يأمل بمجيئه الى هنا أن يحلّق عالياً في فضاءات الفنّ السابع. ولا سيما هذه السنة، حيث الرهانات عالية جداً والأعصاب مشدودة والأنظار متجهة نحو مدير هذا المهرجان السينمائي الأبعد زمنياً، ماركو موللر، لنرى الكيفية التي سيختم بها عهده الذي استغرق ثمانية اعوام.
تمسكوا جيداً: 5208 هو عدد الأفلام التي شاهدتها لجنة الاختيار ليستقر قرار اعضائها على 65 عملاً في الأقسام الثلاثة الرئيسية: المسابقة الرسمية (22)، خارج المسابقة (19)، وقسم "أوريزونتي" / "آفاق" (24) الذي يُعتبر مختبراً لسينما الغد، المقابل الفينيسي لـ"نظرة ما" التابع لمهرجان كانّ. نصف الأفلام المرسلة الى البندقية أفلام طويلة، والنصف الثاني موزع بين متوسط الطول وقصير. برغم كلّ ما يشهده العالم من أزمات اقتصادية وسياسية وأخلاقية وبيئية، فالانتاج السينمائي الى صعود ولا يهدأ. صنّاعه مؤمنون بضرورة كشف المستور، ويتفاعلون مع شؤون الدنيا والمستجدات، التي سرعان ما تتحول نصوصاً مصورة، ولا يقفون مجرد متفرجين سلبيين لما يدور من حولهم. فمن ميدان التحرير الذي يحضر في فيلم تامر عزت "تحرير 2011" الى الإسلام المتزمت الذي يقاربه الفرنسي المولود في المغرب فيليب فوكون في جديده "الاضمحلال"، مروراً بـ"حياة بلا مبادئ" لجوني تاو الذي يهتم بانعكاس الأزمة الاقتصادية على حياة البشر، فمهرجان البندقية لا يدير ظهره الى ما يجري في عالمنا اليوم. ثم ان الأرقام التي اعلنها تدلّ على تلك الحيوية. فعدد الأفلام المرسلة هذه السنة ازداد نحو ألف فيلم مقارنة بالعام الماضي. في المقابل، بقي عدد الأفلام المختارة هو هو.
خاصية الدورة أنها الأخيرة لماركو موللر. المدير الذي أعاد الى البندقية بعضاً من الروح، ومعها أفكاره وتطلعاته وامتداداته الثقافية، التي كانت بدأت تتلاشى في عهد موريتز دو هالدن. لا بدّ من التذكير هنا بأنه جرى تمديد عهده عام 2008 لأربع سنوات جديدة. ولا نعرف اذا كان ممكناً تمديده مرة ثالثة. لكن ما من اسماء جديدة مرشحة الى الآن. والرجل، الذي لم يكن متحالفاً مع الحكومات البرلوسكونية التي تعاقبت خلال عهده بل على عكس ذلك، فرض الاحترام من كل الجهات، وجعل من موضوع بقائه أو رحيله شغل المهرجانيين الشاغل. وهؤلاء لم يتأخروا في اعطائه المكان الأبرز في لائحة مديريهم المفضلين. موللر هو ايضاً الاداري الفذّ الذي استطاع ان ينتشل المهرجان من براثن التسييس الباهت.
أياً يكن المستقبل الذي ينتظر المهرجان، مع موللر أو من دونه، فالرجل وجّه كلمة مهمة على الموقع الالكتروني للموسترا، في ما يشبه "الوصية"، قائلاً فيها ان هدف المهرجان البقاء على حاله، وانه، باختصار، يريد للصور ان تبهر المُشاهد، تجعله يحلم ويشغل تفكيره في آن واحد، مضيفاً: "(...). معاصر لا يعني بالضرورة آنيّاً (...). عندما تُفهم السينما كمصدر قوة، كمجموع من الطاقات، فهذا يخلق طريقاً جديداً في الشعور والتلقي. لهذا السبب نقول أحياناً عن مخرج فلاني وفيلمه، انهما معاصران لزمننا، ذلك انهما يتناسبان مع النحو الذي نشعر به مع معاصرينا".
تأخذ كلمة موللر شكل بيان تأسيسي عندما يقول ان السينمائيين الذين يبلورون افكاراً جديدة وغريبة ليسوا دائماً موضع ثقة، معلناً انحيازه، على طريقة أنصار "سياسة المؤلف"، الى الخلاّقين الذين يعملون دائماً على الأفكار عينها. بالنسبة إليه، سينمائيين راحلين من أمثال روبرتو روسيلليني ونيكولاس راي أكثر معاصرة لنا من بعض الذين لا يزالون ناشطين اليوم. انطلاقاً من هنا، يطرح موللر فكرة أننا لا نزال في حاجة الى هذين المخرجين كي نفهم العالم كما هو عليه في 2011. يقول: "بالنسبة الى البعض منّا (وأنا منهم)، تاريخنا الشخصي يختلط مع تاريخ الأشكال وفصول السينما. هذا الفنّ تبنّانا، نحن الذين كنا يتامى اليقين والحقائق، وقدم إلينا مكافأة عظيمة: الشعور بأننا ننتمي الى العالم".
هذا كله يندرج في سياق تحديثي سيتيح للمهرجان أن يسلك شيئاً فشيئاً درب الخروج من الترهّل الذي يعاني منه على صعيد البنى التحتية، بعدما بدا واضحاً انه مُسانَد من وزارة الثقافة. أهم هذه الأعمال: اعادة هيكلة الصالة "غراندي"، وفق طراز هندسي جديد يحافظ على جانبها "الأربعيني" لكن، وفي الحين نفسه، يتناسب مع المتطلبات التقنية للعرض. أعمال أخرى، من تحديث وتوسيع وترميم وتخصيص أماكن اقامة للطلاب وتسهيل تنقل الضيوف، في انتظار الـ"موسترا"، في السنوات المقبلة. لكن المشروع الأب، يبقى تشييد المبنى، بالقرب من القصر، والذي تحول دخول مقر البندقية بسبب الاشغال فيه، ثكنة عسكرية، الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود. بيد ان المشروع مؤجل ريثما ينوجد حل لمادة الأميانت التي تم العثور عليها في ورشة البناء.
تبقى أفلام الدورة 68، يعني أهم ما في المسألة. ما جديد البندقية هذه السنة؟ الأسماء براقة ومعروفة ومنتظرة. منهم مَن يواظب على المشاركة في المهرجان، وآخرون يحلون ضيوفاً عليه لمرة أولى. دائماً في البرنامج الرسمي، نجد 35 بلداً مشاركاً. الولايات المتحدة تأتي بأكبر عدد من الأفلام (12 فيلماً طويلاً في الأقسام الرسمية)، يليها البلد المضيف الذي يقدم ثمانية شرائط. العدد نفسه هو الأفلام الآتية من فرنسا، تتبعها المملكة المتحدة بخمسة أفلام. أما بقية البلدان، فكلّ واحد منها يشارك بفيلم أو اثنين أو ثلاثة حداً اقصى.
نجوم هذه الدورة ليسوا قلائل. هناك أولاً السينمائيون الجهابذة، أصحاب الباع الطويل في السينما. أسياد مهرجانات وسمعة عريقة: رومان بولانسكي، فيليب غاريل، ديفيد كروننبرغ، ألكسندر سوخوروف، أبيل فيرارا، جوناتان ديمي، ايرمانو أولمي، وليم فريدكين، وآخرون. نكتفي بالأسماء وبالتأكيد سنعود الى كلّ فيلم من أفلام هؤلاء على حدة. قبالتهم يقف جيلٌ أثبت قدراته، وبات يعوَّل عليه للفوز بسينما حقيقية تنبذ الاستسهال والخفة: اندريا أرنولد التي تقدم نسخة جديدة لأحد كلاسيكيات الأدب البريطاني "مرتفعات ويذرينغ" لأميلي برونتي، وكان سبق للسينما الأميركية أن أفلمت ذلك في عمل شهير لوليم وايلر (1939). مشروع يبدو من بعيد كتحدٍّ تتولاه مخرجة "حوض الأسماك" البديع. تود سولوندز، فضّاح خفايا العائلة الأميركية وصورتها اللماعة، يتجاور في هذه الدورة مع واحد من اشطر سينمائيي جيله ستيفن سادربرغ (خارج المسابقة) صاحب الافكار الغزيرة والمتنوعة، الذي شكّل ظاهرة كونه نال "السعفة الذهب" عن فيلمه الأول "جنس، أكاذيب وفيديو"، قبل أكثر من عشرين عاماً، وكان الأصغر سناً من بين كل الذين نالوا الجائزة العظيمة.
امير نادري، الايراني المجنون، المنفي طوعاً من طهران منذ سنوات، والذي يعمل خارج الاطر التقليدية (فيلمه السابق انتجه بمال مقامرين)، يعود بعد ثلاث سنوات، بـ"اقطع"، من انتاج ياباني، في افتتاح قسم "أوريزونتي". زميله ايمانويل كرياليزي، الايطالي الممتاز، من الرعيل الذي ينير عتمة السينما الايطالية ويضم ماتيو غاروني وفينشينزو مارا وباولو سورينتينو. وهناك ايضاً، وخصوصاً، البريطاني ستيف ماكوين الذي اقتحم نهائياً ميدان الكبار مع فيلمه "جوع" (أو "إضراب عن الطعام") قبل ثلاثة اعوام في مهرجان كانّ السينمائي. اذاً، المشهد من هنا يبدو ملوناً، قاسياً، مزهواً، حافلاً بالتناقضات، لكن ليس بالوضوح الذي نتأمله. ومَن يعرف مهرجان البندقية يعرف انه قائم على خليط عجيب من الـ"غلامور" وسينما طليعية صافية. فالمهرجان انطلق مساء الأول من أمس، وعلى مدار الأيام التسعة المتبقية، ستتكون الآراء النقدية حول دورة، من الصعب ادراك اي شيء عنها حتى هذه اللحظة. لكن الأكيد ان هناك بعض المفاجآت خلف الستار الجامد للأسماء والعناوين. هذا كله سيمشي دربه المعتاد تحت عين دارن أرونوفسكي، رئيساً للجنة التحكيم، الذي نال عام 2008 جائزة "الأسد الذهبي" عن فيلمه "المصارع".
حذار الهامش! هذا الهامش الذي قد يتحول متناً. فهناك على الأقل اثنان في المسابقة الرسمية كانا أثارا حماسة عند عرض أعمالهما السابقة. أولهما الاسرائيلي ايران كوليرين الذي عرفناه من خلال "زيارة الجوقة الموسيقية". وها انه يعود مع "التبديل". أما زميله في الهامش المحبب، فليس أقل من الرجل الذي أنجز "أنياب كلب": اليوناني يورغوس لانتيموس. وكيف من الممكن الا نأتي على ذكر مارجان ساترابي التي ستخوض هنا الامتحان الأكبر، وهي تستعد لعرض تجربتها الاخراجية الثانية بعد "برسيبوليس" الذي اطلقها من كانّ؟ كما ان مهرجان البندقية استطاع في دورته الحالية أن يعيد الى الواجهة الممثل الكبير آل باتشينو، ليس تمثيلاً بل اخراجاً، في "سالوميه"، وهو فيلمه الثالث.
لا نعرف، حتى الآن، ما السبب الحقيقي، خلف اختيار آخر اعمال مادونا، في تشكيلة تغلب عليها الرصانة. الفيلم، للتذكير فقط، الثاني لها بعد "حقارة وحكمة" (2008). فهل هو مجرد اهتمام بموضوع "يشدّ" (حكاية رومنطيقية بين الملك البريطاني ادوارد الثامن واميركية اسمها واليس سيمبسون)، ام حاجة الى تزيين السجادة الحمراء بعطر النجوم وصراخ المراهقات؟ من المفترض ان يُختتم هذا العرس السينمائي الذي يستغرق احد عشر يوماً واحد عشر ليلاً على ضفاف بحر الأدرياتيك، بتكريم ماركو بيلوكيو، بعد أيام قليلة على اعلان واحد من آخر معلمي العصر الذهبي للسينما الايطالية، ايتوري سكولا، البالغ الثمانين من العمر، اعتزاله السينما، خشية "أن يتحول الى واحدة من تلك النساء المسنات اللواتي يضعن احمر الشفاه ويلبسن الكعب العالي ليبقين في رفقة الشباب".
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد