سيرج دوبروفسكي: الفرد تائه ومعزول، وحدها قصة حياته تعطيه عناصر لتحليل التاريخ
عبر سلسلة من الروايات التي لا تعتمد إلا على حياته، كوّن سيرج دوبروفسكي اسماً كبيراً في الرواية الفرنسية المعاصرة، إذ أنه كان من اخترع كلمة "التخييل الذاتي"، التي أصبحت تشير إلى تيار كبير في الرواية المعاصرة، أعطت العديد من الأسماء الكبيرة.
حول روايته الأخيرة، أجرت مجلة "لوبوان" حواراً مع الكاتب، هنا ترجمة لمقتطفات منه.
÷ تبدأ روايتك الأخيرة "رجل عابر" بينما كنت توضّب أغراضك في شقتك النيويوركية، التي تخليت عنها كي تعود إلى باريس نهائياً. هل يمثل هذا الكتاب "جردة" أخيرة لحياتك؟
} أجل. كانت كتبي السابقة بمثابة أجزاء حياة مرتبطة بأقاصيص خاصة، تحديداً بأقاصيص نساء. اليوم وبعد أن بلغت الثالثة والثمانين من عمري، وبعد أن غادرت، ليس فقط شقتي في نيويورك التي كنت أعشقها، بل أيضاً مهنتي كمدرس، وجدت الحاجة في أن أعيد التفكير بكل ماضيي. من هنا يأتي هذا الرحيل عن أميركا، حيث عشت خمسين سنة، ليقدم رحيلي الكبير.
÷ نجدك تلعب، كما لو أن ثمة "بازل" وجودياً، بقطع حياتك المتفرقة؟
} أعشق بروست، وكتابي هذا مهدى له. لكننا لا نجد فيه "مادلين" بل فتاتاً منها. لا أعتقد بأن ثمة حدساً سيسمح بإعادة تركيب حياته. ما يأتي على بالي، هذه الأجزاء من الذاكرة، هذه الومضات المضيئة المحاطة بالظلمات. لقد راكمت، في شقتي النيويوركية الكثير من التحف والرسائل والصور. وبينما أكتب، تركت نفسي لتنقاد بأجزاء الذاكرة المتعلقة بكل واحدة من هذه الأشياء. لا أكتب يوميات حميمة، لأني لا أسجل أحداث حياتي يومياً. بعد لأي، ما افعله، هو اختراع أحداث انطلاقاً من ذكريات واقعية. في كتبي، تجد أن المادة هي مادة سيرة ذاتية بشكل دقيق، بينما الطريقة، طريقة متخيلة بشكل دقيق أيضاً.
سراب وجودي
÷ يحيلنا عنوان "رجل عابر" إلى مرجعية الطبيعة السرابية لوجودنا، لكنه يحيلنا أيضاً إلى الشرط الإنسان المبعثر، العابر دائماً بين فرنسا والولايات المتحدة، بين امرأتين ...
} كل شيء كان متشظياً بالنسبة إليّ. لقد استفدت من نظام التناوب الذي تعمل به جامعتي، فكنت أمضي سنة في نيويورك وسنة في باريس. لغتي الأم هي الفرنسية، بيد أن اللغة التي استعملها مع ابنتي الأميركيتين هي الانكليزية. هذه الحركة المستمرة شكلت لي العصاب. لدرجة أني استعملت اسمييّ: جوليان الذي هو اسمي في دائرة الأحوال الشخصية والذي احتفظت به للشؤون الإدارية، واسم سيرج، الذي يشكل أناي الأخرى، أي اسمي على الكتب. كذلك أنا أيضاً الشخص العابر بين القرن التاسع عشر والعالم المعاصر. حين أقرأ الصحف، أجد لغة فرنسية لم تكن موجودة في وقتي... لغة أمي كانت تلك اللغة التي نجدها في حوارات زولا.
÷ لقد اخترعت عبارة "التخييل الذاتي" العام 1977. هل كنت تتوقع بأن تعرف هذه العبارة هذه الشهرة؟
} أثار التعبير الإعجاب أم لا، إلا أنه تعممّ وأصبح موجوداً في القواميس. نجد أن عبارة "التخييل الذاتي" مستعملة اليوم من قبل التشكيليين والسينمائيين والمسرحيين... لقد خرجت الكلمة من الانغلاق الأدبي الضيق لتنتشر على كل لسان. بالتأكيد، هناك "تخييل ذاتي" جيد وقبيح، هناك استعراضيون، مفرطون، كل ما تريد.. لكني لا أرغب في فرض إنجيل أدبي جديد. إن كنت اخترعت هذه الكلمة وهذا المفهوم، إلا أني لم أفرض هذا النوع بالمطلق. لو ذهبنا إلى عمق الأشياء، لرأينا أن روسو قام بذلك، قام بالتخييل الذاتي حين قال في "اعترافاته" بأنه ترك نفسه لتُحمل بالكتابة والتخيل. حين نكتب أشياء معاشة، فإن الكتابة تعيد اختراعها بشكل طبيعي. من هنا توقفت عن أن أقارن بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي. السيرة الذاتية هي نوع أدبي ينتمي إلى القرن الثامن عشر. اليوم وفي العصر الما بعد حداثي، لم يعد أحد يروي عن نفسه بالطريقة عينها، أي لم يعد يبدأ بالقول "ولدت في جنيف العام 1712"... لكل عصر طريقته الخاصة في التعبير عن المعنى الذي يعطيه للحياة..
÷ بصراحة، الم يبدو روسو بذلك، رائياً، حين أكدّ بأن مشروعه (الكتابي) لن يعرف أي مقلد...
} من المؤكد بأن جزءاً مهماً من الأدب الفرنسي الحالي، ينحو وبأشكال مختلفة، إلى كتابة الذات. بيد أن ذلك لا يشكل ظاهرة فرنسية بالكامل. ففي مقابل غياب السرد الماركسي والمسيحي الكبيرين، أعتقد بأن الفرد يشعر نفسه تائهاً قليلاً، معزولاً. وحدها قصة حياته تعطيه العناصر لتحليل التاريخ. يتهم النقاد كتاب "التخييل الذاتي" بأنهم مربوط "بحل السرة". لكن، حين يكونون كتّاباً جيدين، نجد أن ثمة حضارة على المحك عبر حالاتهم الخاصة. حين كتبت رواية "حب من الذات" العام 1982، كنت عشت لتوي مغامرة مع شابة أميركية اكتشفت لتوها الحركة النسوية. إلا أن كتابي، الذي كنت أعتقد أنا نفسي بأنه ليس سوى تصفية حساب، أظهر في الواقع، التعارض بين شخص مثلي، نشأ في الثلاثينيات، حيث كان النموذج الذكوري يدعى همنغواي ومونترلان، وبين امرأة تكتشف نفسها في استقلاليتها. إذا كان الكتاب أكثر من مجرد قصة عادية.
÷ نجد اليوم أن التخييل الذاتي يصيب الكاتبات أكثر... كيف تفسر هذا الأمر؟
} في الواقع هناك اليوم كاتبات أكثر يمارسن التخييل الذاتي. للمرة الأولى، يهمّهن أن يضطلعن بأنفسهن داخل رغباتهن. ثمة حاجة عند النساء ليخلعن ثيابهن وبأن لا يكون الرجل من يفعل ذلك، كما نجد عند زولا في "نانا" وعند فلوبير في "مدام بوفاري". اعتقد بأن ما حدث هو تحرر تاريخي، وقد يصدم ذلك البعض. ثمة حاجة للحقيقة.
الحياة الخاصة
÷ إنه نوع أدبي حارق، إذ أن التخييل الذاتي يطرح مشكلة احترام حياة الآخرين الخاصة..
} الأمر حساس جداً. هناك تصادم بين الجمالية والأخلاق، وهذا بديهي. ثمة جانب لا أخلاقي في هذا النوع الأدبي. يمكننا أن نصنع لائحة كبيرة من أسماء الكتّاب الذين تعرضوا لملاحقات من جراء ذلك. حين كتبت "حب من الذات"، نصحني ناشري أن استشير محامياً نصحني بدوره أن أترك تفاصيل اقل. كان يمكن لصديقتي السابقة، التي انتابتها ثورة غضب مجنون، أن تلاحقني قضائياً، إذ على الرغم من التعديلات بقي الأمر بمثابة تعرّض للحياة الخاصة.
÷ لكن كتابتك لـ"الكتاب المقصوف"، وهو عملك الأشهر، كان له آثار درامية: إذ أن زوجتك الثانية، إليز، توفيت من جراء جرعة كحولية زائدة بينما كانت تقرأ المخطوط..
} إنها قضية مختلفة، إذ أن إليز طلبت مني أن أكتب عن علاقتنا وبأن أجعلها تقرأ كل فصل بفصله. إنه كتاب ألحت علي بأن أكتبه. لقد طاوعتها حرفياً. بدون شك، كانت هناك عملية تصفية حساب من جانبي، لأن امرأة كحولية إلى هذه الدرجة، حتى وإن كانت معشوقة، إلا أنها لا تحتمل. أرسلت لها فصلاً بعنوان "شراب" قبل شهر من عودتها المتوقعة إلى الولايات المتحدة، وقد حددت لها على الهاتف "إن أردت أن لا أنشره فلن أفعل ذلك". أجابت "سنتحدث بالأمر لاحقاً". بيد أننا لم نتحدث بذلك مطلقاً. توفيت بعد أن شربت قنينة فودكا بأكملها. كانت نسبة الكحول في دمها 7،2 غرام. كان عليّ بالطبع أن لا أرسل إليها هذا الفصل. حتى أن بيفو خلال حلقة أبوستروف سألني إن كان يحق لنا أن نقتل زوجاتنا من أجل حب الأدب. كانت فترة رهيبة من حياتي.
÷ ينتهي كتاب "رجل عابر" بالحديث عن صديقتك الجديدة، اليزابيث، وهي قارئة متحمسة لك، أصبحت زوجتك الثالثة، وتقول عنها إنه ضحت "بجسدها لمصلحة قلبها"..
} في حين أن أصبحت رجلاً منتهياً، عدت ووجدت بفضل الأدب، صديقة تصغرني عملياً بثلاثين سنة. كان يمكن لاليزابيث أن تجد كل الرجال الذين يتمتعون بصحة جيدة، إلا أنها اختارت شخصاً في نهاية الدرب. ثمة جانب مأساوي في هذا الأمر، إلا أنها أعطتني كل السعادة التي يمكن لي أن أحلم بها في عمري، إنها اتفاق قلب. بالنسبة إلى الجسد، هناك لحظة معينة، كما قال لي طبيبي، علينا أن نعرف فيها متى نضع مفتاحه تحت الباب. ثمة جانب ساخر في ذلك، حين نعرف بقية عملي الأدبي. أقيم مقارنة بينها وبين اليزابيت اخرى، وهي فتاة تشيكية، مثلت شغفي الفيزيائي، وبين زوجتي. ثمة عقاب في ذلك، وقدر رحيم أيضاً.
÷ هل تشعر بالفخر لأنك من أكثر الكتاب الأحياء الذين يتم تدريسهم بالجامعات كما أنك من أكثر الذين تقام عنهم الندوات والمحاضرات والأطروحات الجامعية؟
} علمت للتوّ بأن هناك ندوة ستقام في طهران حول التخييل الذاتي، بينما طلب مني احد المثقفين إمكانية ترجمة كتاب "ابن" إلى العربية. هناك أناس من ثقافات مختلفة يجدون في ذلك أشياء تهمهم. أعتقد بعمق أننا حين نتحدث عن أنفسنا فإننا نتحدث أيضاً عن الآخرين، لأننا غير موجودين وحدنا على هذه الأرض. لنقاد الأدب الحق في أن يفكروا كيفما شاءوا، لكني لا اقبل اتهاماتهم بأني أناني. لا أكتب فقط كي أضع مرآة أمامي، بل لأضعها أيضاً أمام القارئ.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد