استقلالية الفتاة السورية بين الأهل والمجتمع
يوحي المشهد العام أن الفتيات السوريات يستطعن الاستقرار بعيدا عن الأهل دون التعرض للنبذ الاجتماعي أو رفض الأسرة, يأتي هذا الإيحاء من كون أغلبنا له جارة أو صديقة أو قريبة, أو حتى ابنة مغتربة, من فتاة تفرض عليها الدراسة إلى أخرى يفرض عليها العمل, إلى ثالثة ترغب بحياة ( سيدة حرة مستقلة), لكن ماذا لو ابتعدنا قليلا عن السطح نحو الأعماق, هل سنجد الصورة جميلة خالية من المعاناة؟ هل سنجد أهالي متقبلين حقا لفكرة وجود بناتهم بعيدات و( وحيدات)؟ هل سنجد مجتمعا يرحم أو مجتمعا لايرحم؟ لندع أصحاب التجربة يجيبون عن كل تلك الأسئلة بأنفسهم:
تقول أريج- القادمة من السلمية إلى دمشق بقصد الدراسة- يتبع أهلي معي سياسة مصروف الأسبوع, ما يضطرني للسفر أسبوعيا لأخذ مصروف الأسبوع الجديد, أظن أنهم يقومون بذلك خوفا من بقائي في دمشق أيام العطلة, إذ كيف سيبررون للجيران والأقرباء ذلك؟ هذه السنة الثانية لي في دمشق , لا أعرف فيها سوى الكلية والمدينة الجامعية والكراج.
ويبدو أن أهل أريج لم يتفردوا بتلك السياسة فها هي سها تسرد نفس المعاناة: هذه السياسة أفقدتني نكهة قضاء العطلة مع أهلي, أشعر أنني ذاهبة إلى بنك أو مكتب حوالات لأقبض فلوسي وأرحل, أما الان وبعد أن بدأت العمل اختلف الموضوع جذريا, تصوري أنني مازالت أسافر أسبوعيا لكنني أذهب دون شعور بسلطة خارجية تجبرني على السفر.
تهزأ نسرين من سلطة المال هذه وتعتبرها غطاء يستر به الأهل عورة الضغط الاجتماعي الجاثم على قلوبهم, فهي تعمل منذ سنتين لكن ملاحقة أهلها لها لم تتغير أبدا وتعتبر نسرين هذا دليلا على أن مشكلة أهلها ليست في المصروف بل في ( رهاب السمعة الحسنة), كما تسميه وتقول: عندما أتخيل نفسي مكان أبي الذي ستلاحقه أسئلة الجيران والأقرباء أشعر أن ليس أمامه سوى أن يتصل بي- كما يفعل دائما- ويقول : ليس هناك داع لأن تشتغلي, الله (بيعين).
تحاول خلود- خريجة علم الاجتماع- أن تحلل الموضوع اجتماعيا فتقول: المسألة ليست في أهلي وأهلك, هناك حصار وسجل حياة مسبق يولد مع كل فتاة في مجتمعنا, فمن بيت الأهل إلى بيت الزوج, يصعب على الأهل تخيل ابنتهم تحلق خارج هذا السرب, كما يصعب على بعض الفتيات- وأنا واحدة منهن- تقبل هذا النموذج المسبق الصنع للحياة, فالفتاة تحتاج لمساحة استقلالية معنوية ومادية, بالنسبة لي بقيت لمدة سنتين مستقرة في دمشق أعمل ودون زواج, عانيت ما عانيت إلى أن تزوجت ونفضت غبار الشبهات عن الرمز المقدس- (سمعتي).
تبدو الصورة أكثر سوداوية مع رشا التي رضخت لسلطة المجتمع والأهل- كما تقول عن نفسها- فهي كانت تطمح منذ قدومها إلى دمشق لمساحة استقلالية تعيشها بعد التخرج, لكن الضغط الممارس عليها اضطرها أن تحتفل بتخرجها وزواجها في يوم واحد.
لكن ما السر في هذا النزوع إلى تجربة الاستقلالية- كما يحلو للفتيات تسميتها- ألا يشي ذلك بمشاريع غير مشروعة عند الأهل أو الزوج؟
تنفي أمل ذلك, فالشبهة المرافقة لتجربة الاستقلالية- حسب أمل- مردها شبهة مسبقة ملصقة بالفتاة في مجتمعنا فهي متهمة حتى تثبت العكس,أما أمل التي عاشت بمفردها ثلاث سنوات تقول:ما اكتسبته من تلك المرحلة لا يضاهيه شيء, أن تستقلي يعني أن تكتسبي الإحساس بالمسؤولية والقدرة على اتخاذ القرار ومواجهة الأزمات, أشياء لا أظن أنني سأحصل عليها عند أهلي أو زوجي.
إذا بالرجوع إلى كلام ( الصبايا) فالمشكلة تكمن في الأهل, فماذا يقول هؤلاء؟ أسأل أم عامر عن سبب منعها ابنتها من الدراسة خارج المحافظة فتقول: هذه ( فذلكات) جيل جديد, لماذا الغربة والمصاريف والحكي طالع نازل ويوجد جامعة في محافظتنا, البنت مهما فعلت آخرتها لبيتها وزوجها.
أما أبو ربيع فيقول: أنا محاصر, أعرف أن من حق ابنتي أن تتصرف كما تريد وأن تجربة الحياة بعيدا عنا مفيدة, لكن ماذا سأقول للناس: ابنتي تعمل في محافظة أخرى؟ سيقولون: لماذا لا تعمل هنا؟ المجتمع لايرحم ياعمي.
أما أبو جابر فيقول: نحن في السويداء وابنتي في دمشق, تقول إنها ستسافر خارج البلد, ليس عندي مشكلة, ماذا سيقدم لي المجتمع سواء رضي عن ابنتي أم لا؟ عصرنا لايحتمل رؤية تقليدية للأمور, الجيل الشاب يجب أن يخرج ويتعارك مع الحياة ويعيش تجربته الشخصية كي يكون قادرا على تحمل المسؤولية ومواكبة عجلة التغيير, من غير المعقول أن أطلب من ابنتي في القرن الواحد والعشرين أن تعود للعيش بين احضاني منتظرة قدوم عريس يأخذها بين أحضانه.
عبير ناعسة
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد