كارلوس فوينتس: رهان الأدب الكبير هو أن نجعل من العابر شيئاً خالداً
كنا أشرنا، غداة رحيله، إلى غياب الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتس، الذي عرف مع حفنة من أترابه، كيف يحمل أدب أميركا اللاتينية عالياً، ليسمعنا عبره صوتاً متفرداً، يعتبر من أبرز الأصوات الأدبية في العالم. نقدم هنا، ترجمة لمقتطفات من حوار كانت أجرته معه مجلة "لير" الفرنسية، العام 2009، بعد الاحتفال الضخم الذي أقيم في المكسيك احتفاء بعيد ميلاده الثمانين. أجوبة تدخلنا عميقا في ثنايا تفكير هذا الكاتب الذي لم يتوقف، من رواية إلى أخرى، عن تشييد عالم خاص، جعله واحدا ن أبرز أبناء جيله.
* احتفت الحكومة المكسيكية بعيد ميلادك الثمانين، في تشرين الثاني 2008: حصلت على "تقدير وطني"، إذ صدرت أعمالك في طبعة خاصة، للذكرى، أضف إلى ذلك العديد من الجوائز و"الامتيازات"، التي تأتي بعد وسام الشرف الذي منحك إياه فرانسوا ميتران العام 1992... ما الذي ينقصك اليوم؟ جائزة نوبل للآداب؟
ـ بصدق، لا أفكر ثانية بجائزة نوبل! لا أفكر بأي امتياز، لا أفكر سوى بالعمل، أفكر بكتابي المقبل. هذا الشيء الوحيد الذي يهمني، لا الجوائز ولا النجاح. علينا أن نشطب ذلك كله. حين أنشر كتاباً، لا اقرأ النقد عنه، بل أبدأ بكتاب جديد، أعمل على مشروع آخر، وهذا ما يجعلني سعيدا. وإلا لأحسست بالضياع، بالكآبة. أشعر بألم ما وهذا ما يثير زوجتي حنقا. أفضل أن أستمر بالعمل، لا أي شيء آخر.
* كل هذه التشريفات، ألم تعنِ لك شيئا؟
ـ أبداً، لن أقول إنها لا تعني لي شيئا. حين اقترحوا عليّ هذه التشريفات من أجل عيد مولدي، وافقت على مبدأ التكريم، الذي جرى في مكسيكو، في قصر شابولتيبيك. كذلك وافقت على إلقاء محاضرة عامة في قاعة المحاضرات الوطنية. لكن بعد ذلك، لم أرغب في أن يتحدثوا عني. رغبت في أن يتحدث الستون كاتبا الذين تم استدعاؤهم عن الرواية والفلسفة والسينما والسياسة، الخ... أي ليس عني، أبداً. كان المنع باتا. كانت فكرتي بالضبط أن نبرّز النجم الحقيقي الذي أعطى المكسيك حضورها: الثقافة. نتناسى أحيانا، كم أن هذا البلد يعاني من العديد من المشكلات. اشكر كل هؤلاء الأصدقاء الذين جاءوا لتشريفي، لا لكي يقدموا لي التحية بل لكي يذكّروا بهذا الواقع الثقافي في المكسيك.
* بعيداً عن عيد مولدك: هناك الذكرى الخمسون لصدور روايتك الأولى "المنطقة الأشف"، الذي كان كتابا غير مسبوق في بلادك. ما الذي جعل هذا الكتاب يشكل قطيعة مع "الأدب المكسيكي" على قول معاصرك باكو اينياسو تايبو الثاني؟
ـ قبل هذه الكتاب، كان الأدب موسوماً بتقليد كبير من الكتابة عن القرى، كما عن الثورة المكسيكية. فالموضوعات التي تمت معالجتها كانت تدور في القرى والمدن الصغيرة والريف كما عن أحداث 1910. هذا "الشريان الأدبي" وصل لأقصاه مع "غداً العاصفة" لأوغستان يانيز العام 1947 ومع "بيدرو بارامو" لخوان رولفو العام 1955. بعد هاتين الروايتين، التحفتين، كان من المستحيل إضافة أي كلمة: لقد قيل كل شيء. من يستطيع أن يتحدث بطريقة أفضل بعد خوان رولوفو؟ من يمكنه أن يتحدث عن الكنيسة وعن القرى مثلما فعل يانيز؟ بيد أنه، وبالرغم من كلّ شيء، لم يكن أحد بعد قد تحدث عن مكسيكو، هذه المدينة التي كان يبلغ تعداد سكانها 5 ملايين نسمة في العام 1950. قلت لنفسي إن ثمة موضوعا كبيرا في هذه المدينة، يقدم إلينا التناقضات المرعبة الموجودة بين الطبقات الاجتماعية، والتي تمثل كل تاريخ المكسيك المتراكم، أي الذي يشكل في النهاية رأس البلاد. كنت في الخامسة والعشرين من عمري حين قررت أن أكتب هذه الرواية المدينية لحقبة ما بعد الثورة وانعكساتها على المجتمع.
* وكيف تمكنت في النهاية من كتابة هذه "المنطقة الأشف"؟
ـ ربما لأني كنت أملك نظرة خارجية: كان والدي ديبلوماسياً، ونشأت خارج البلد ورأيت المكسيك دائما وفق منظور معين، كأنها فضاء متخيل. كنت أعود إليها في الإجازات، عند جدتيَّ، وأنا مدين لهما بالكثير لأنهما كانت أفضل "حكواتيتين" في العالم. كل صيف، كانت ترويان لي أقاصيص الماضي: الأولى تتذكر أصولها الألمانية وزوجها المصرفي في فيراكروز، والأخرى تتذكر مجيئها من الكاناري وتخبرني عن جدّ جدي الذي كان هندياً من الياكي من مقاطعة سونورا. أخبرتاني بكلّ هذه القصص حول أصولنا، أجدادنا، وقد سمح لي ذلك بأن أبقى على تماس مع اللغة الاسبانية. هذا الميراث المرتبط بابتعادي عن المكان سمح لي برؤية جديدة للمكسيك، رؤية غير مسبوقة في تلك الحقبة. إنها تجربة أدبية كباقي التجارب...
* من هم الكتّاب المكسيكيون الذين يجددون اليوم في هذه التجربة؟ هل هناك اليوم جيل جديد بمستوى خوان رولفو وأوكتافيو باث وكارلوس فوينتس؟
ـ لا يصنع الأدب شخص واحد ولا حتى مجموعة من الأشخاص، ولا حتى جيل. الأدب عبارة عن تتابع، عن جمعية، نقبل من خلالها التراث، نحمل إليه الإبداع. هذا التوتر، بالضبط، بين التراث والإبداع هو ما يشكل الأدب. ما من كاتب بدون أحد قبله، بدون أحد بعده. هناك بعدنا خورخي فولبي، اينياسو باديا، بيدرو أنخل بالو، كريستينا ريفيرا غارسيا. هؤلاء الكتاب يشكلون، في الوقت عينه، القطيعة مع من سبقهم، مثلما يشكلون الاستمرارية، أي أنهم في هذا التوتر ما بين التراث والإبداع أي في الأدب.
* "الرواية، المتخيل، يجتاحان الواقع كي يدافعا عنه بطريقة أفضل"، كما قلت ذات يوم. ما المقصود بذلك؟
ـ هذا يعني أنه لو لم ينوجد يوما ديكنز لما وجدت مدينة لندن، كي أعطي مثالا متطرفاً بعض الشيء. يبني الكاتب عبر المتخيل واقع الأمكنة والكائنات. لم ينوجد دون كيشوت يوماً، لكنه أكثر واقعية من الشرطي الواقف عند ناصية الشارع، وما من شخص أقوى منه في الأدب المكتوب بالاسبانية. إن القدرة على تخيل شخصيات تبقى وتتم قراءتهم على مر العصور، مثل دون كيشوت، أو لوي لامبير (شخصية بلزاك) أو السيد بيكويك (عند ديكنز) فهذا هو المجد الحقيقي، إنه رهان الأدب الكبير: أن نجعل من العابر شيئا خالدا، لأننا على تماس دائم مع كل ما هو عابر. لندن ديكنز لا علاقة لها بلندن اليوم، لكن بدون لندن ديكنز لم تكن لندن اليوم موجودة.
* بخصوص دون كيشوت، هل صحيح أنك تعيد قراءته كل عام؟
ـ كلّ سنة! وإلا لا أستطيع الكتابة بالاسبانية. أصبح أبكم!
* "لا شيء يقتل الرجل أكثر من أن يتوجب عليه تمثيل بلاده": حين ذكرت هذه الجملة لجاك فاشيه، السوريالي الفرنسي، هل كان الدبلوماسي من يتكلم أم الكاتب؟
ـ أحب جداً هذه الجملة. كنت سفير المكسيك في فرنسا لمدة سنتين بين 1975 و1977، وانتبهت إلى أنني كنت أمثل بلادي بشكل مكثف، ونتيجة ذلك، لم أكن أكتب يومها.
* ألا تمثل بلادك من خلال ما تكتبه؟
ـ كلا، لا أريد أن أمثل بلادي مطلقاً ولا بأي شكل من الأشكال! أرفض ذلك. إنه بلد متنوع، غني جدا، متناقض. لا يمكن لرجل واحد أن يفعل ذلك. لكل واحد طريقته الخاصة. إنه بلد مليء بالاختلاف، ناهيك عن وجود عدم المساواة الاجتماعية، مع ماضيه الماقبل اسباني والكولونيالي الحاضر بقوة.. من يمكن له أن يخاطر بتمثيله؟ إننا نقترب منه عبر رواياتنا. رواياتنا ليست إلا محاولة لتأطير الواقع المكسيكي، محاولة تقريبية، من دون أن تكون لدينا النيّة بتمثيل هذه البلاد...
* كيف ترى إلى العلاقة بين الأدب والسياسة: هل هما في طور امتزاجهما ببعضهما البعض؟
ـ بالتأكيد، يمتزج الأدب دائماً بالسياسة، أحيانا بشكل سليم، وتارة بشكل سيئ.. أعتقد أن الأدب يقف على قاعدة واقعية عبر اللغة وعبر الخيال. هنا تكمن شخصية الكاتب: ماذا نفعل بهذه اللغة، بهذه الكلمات، بهذا الخيال؟ ما إن تحصل على ذلك، أي على هذه القاعدة للإبداع الأدبي، يمكن للكاتب أن يقول بالطبع: أنا مواطن أيضا، وأريد أن أنتخب فلان، أو أريد أن أتبنى هذه الإيديولوجيا. لقد كان بابلو نيرودا شاعرا كبيرا. من هنا أكان ستالينياً أم شيوعياً فهذا أمر ثانوي، هذا خياره كمواطن. وعلى الطرف الآخر من ذلك، هناك سيلين، الذي كان معادياً للسامية، شخص مرعب، لكن أنظر إلى الكتب المدهشة والرائعة التي كتبها! أسوأ شيء أن يخضع المرء للإيديولوجيا بشكل سطحي. العديد من الكتّاب السوفيات قاموا بذلك وقد كتبوا كتباً تافهة.
* في كتابك "سعادة العائلات" تكتب قائلا: "تجعل الإيدولوجيا من الحمقى والأذكياء رفاقا". أو أيضا: "الفنان كائن على حدة. ما من حساب يقدمه إلا لفنه"...
ـ لا تنسى إنها أقوال جاءت على لسان شخصياتي!
* لكن هناك بالتأكيد جانب من كارلوس فوينتس في ما تجعلهم يقولونه، أليس كذلك؟
ـ لا مفر من هذا. أفكر بالتأكيد بفلوبير حين قال: "مدام بوفاري، هي أنا". الكاتب هو من يبدع الشخصية، إلا أنه يبقى على مسافة منها. كل شيء يكمن هنا، في هذه المسافة التي يمكن لها أن تتموضع بين إبداع الكاتب وبين الكاتب نفسه. كتبت مؤخرا رواية بصيغة أنا المتكلم "الإرادة والثروة": وهذا أمر نادراً ما قمت به، وقد شعرت بحرية قصوى، أي بقيت أنا نفسي وفي الوقت عينه كنت مختلفا. ومع ذلك لم يكن كتاب سيرة ذاتية، بل هذه السيرة نجدها في كتاب "ديانا أو القناصة المستوحدة".
* هل كان كتابك هذا الذي يتحدث عن غرامك مع جان سيبيرغ، صعباً على الكتابة؟
ـ أجل، صعب جداً، لكنه أتاح لي أن اطرد المشكلة حين أذللت نفسي. رغبت أن أكتبه بهذه الطريقة، بعيدا عن أي لغة خشبية. خرجت منه مهزوما، بيد أنه لم يكن أمامي أي مخرج آخر سوى أن أروي فشلي في هذا الحب عبر هذه التفاصيل الحياتية، التي لا معنى لها إلا بأن تقودنا إلى السيطرة على الآخر ومن ثم خسارة هذه السيطرة. كانت جان سيبيرغ امرأة كئيبة، هشة جدا، حتى وإن بدت قوية أحيانا. تخيلوا فتاة في السادسة عشرة من عمرها خرجت من قريتها الصغيرة لتصل إلى الساحة الباريسية لتعلب دور جان دارك. لم تكن مستعدة لذلك...
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد