الفضاء العربي يطرد "الدنيا": الحرب على الصورة تخرج إلى العلن
قطع قمرا "عرب سات" و"نايل سات" بثّ قناة "الدنيا" ظهر أمس. يأتي هذا القرار، بعد مضيّ أسابيع على طلب مجلس جامعة الدول العربية من إدارة القمر الصناعي "عربسات"، و"الشركة المصريّة للأقمار الصناعية ـ نايل سات"، وقف بثّ القنوات الفضائية السورية الرسمية وغير الرسمية. كما أنّه يأتي بعد يومٍ واحد على الانفجار الذي وقع في العاصمة دمشق، وأودى بحياة وزير الدفاع داوود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ومعاون نائب الرئيس السوري العماد حسن تركماني. لعبت "الدنيا" خلال الأشهر الماضية دوراً رئيسياً في الدفاع عن النظام السوري. هذا ما حوّلها إلى "الناطقة بالحقّ"، بنظر الموالين للنظام، وإلى قناة "ساقطة أخلاقياً"، من وجهة نظر المعارضة السوريّة. في هذا السياق، لا يمكن أن نفهم قرار قطع بثّها الفضائي، إلا كعقوبة سياسية، في وقت مفصليّ، أحسّ فيه الجميع بأنّ الأمور في سوريا تشهد تداعيات خطيرة، لم تعرفها منذ بداية أزمتها قبل أكثر من سنة ونصف.
وبعيداً عن التلفزيون، تابعت "الدنيا" عملها كالمعتاد على حسابها الرسمي في "تويتر". هنا احتفلت بالـ"فيتو" المزدوج الروسي الصيني، وغرّدت: "ركلة ثنائية روسية صينية تطيح أحلام الغرب، وذيولهم من العرب في التدخل بشؤون سورية". ثمّ كتبت تصف الأجواء في مجلس الأمن بعد القرار: "الإحباط يعمُّ مندوبي الدول المعادية لسورية في مجلس الأمن مجلس الأمن: وجوه ممتقعة وأخرى حيارى.. والسوريون ينتصرون دوماً". وزارة الإعلام السورية، اعتبرت أنّ قطع بث قناة "الدنيا" "هو بداية لحملة صور وأخبار كاذبة".
وتعليقاً على قطع إرسال القناة، قال مصدر في قناة "الدنيا" لوكالة "يونايتد برس إنترناشونال" إنّ القناة ستبقى "صوت الناس وصورة الحياة"، وانّها "تعاهد أبناء الشعب العربي السوري، وكل حرّ في العالم، على الاستمرار في الدفاع عن سوريا ووجودها ورايتها براً وبحراً وجواً، لأنّ سوريا لا تنهزم ولا تنكسر". وعلى الفور، نشرت "الدنيا" على "تويتر"، ومواقع التواصل الاجتماعي، رموزاً لتردّدات بديلة على قمري نايل سات وأتلانتك بيرد. تشي لغة "الدنيا" بأنّها تتعاطى مع الواقع في سوريا كأنّه حالة حرب غير معلنة. وتؤكّد أنّ القناة تتعاطى بجديّة بالغة مع دورها، بوصفها تؤدي رسالة الدفاع عن الوطن والشعب "والحياة".
وفي وقت واكبت "الجزيرة" و"العربيّة" جلسة مجلس الأمن الخاصة بسوريا، وأخباراً عاجلة تجعل المتلقّي يخال أنّ النظام السوري سيسقط خلال ساعات، كانت "الدنيا" تبثّ صوراً للرئيس السوري بشار الأسد يستقبل وزير الدفاع الجديد فهد جاسم الفريج. قطع بثّ الدنيا في هذا السياق، يشي بأنّ التجاذب الإعلامي/ السياسي دخل رسمياً منذ أمس، في مزاج خطاب حرب معلنة. ويؤكّد أيضاً، وللمرة الأولى، أنّ حملات التكذيب والتكذيب المضاد التي شهدتها الشاشة العربيّة منذ بداية الأزمة السوريّة، لم تكن تعكس حقيقة ما يجري على الأرض. بل انّها كانت تعكس "الحقيقة" التي أرادت ترويجها الأطراف السياسية المتناحرة على مستقبل الشام.
هذه ليست المرّة الأولى التي تعرّي فيها الأزمة السوريّة، المنظومة الإعلاميّة العربيّة بأكملها. ولا نعني هنا التعرية من الناحية الأخلاقيّة والسياسيّة، فذلك بحثٌ آخر. بل نعني السقوط المهني المدويّ لوسائل إعلاميّة ضخمة، يعمل فيها صحافيون عرب، من المفترض أنّهم محترفون. كلّ المعلومات الواردة على الشاشات كانت دوماً مشاريع شائعة. كنت نسمع في اللحظة ذاتها، الخبر ونقيضه، من دون الاستعانة بمصادر موثوقة، تعتبر المعيار الأول في إثبات مصداقية التقرير الصحافي (ولو في الشكل). تحوّل الخبر على شاشة "الجزيرة" و"الدنيا"، إلى وجهة نظر، لا بل إلى بيانات صريحة، تساعد المراقبين على رصد أمزجة الأنظمة السياسية، من قطر إلى السعوديّة، وصولاً إلى دمشق. فلكلّ إذاعة مقدّساتها ولغتها وخطابها، المتطابقة مع مقدّسات الأنظمة وخطاباتها. وتلك السقطة المهنيّة الكبرى في تحوّل الصحافي إلى ناطق صريح باسم فلان. وضمن هذا الإطار، لا يمكن أن نفهم موقف القمرين العربيين من قناة "الدنيا" إلا بوصفه رغبةً معلنة بكتم صوت المنطق الآخر، من خلال تقزيمه، وحذفه. فبماذا يختلف قرار قطع بثّ "الدنيا"، عن المنطق الرسميّ السوريّ القائل بأنّ كلّ وسيلة إعلاميّة تبثُّ خبراً يتنافى مع أجندتها، ليست إلا "وسيلة إعلاميّة مغرضة"؟ بهذا المعنى، وبغضّ النظر عن أداء "الدنيا" المفرط في تلميع صورة النظام السوري ـ وبشكل مضحك أحياناً ـ فإنّ قرار قطع بثّها هو مسٌّ بحريّة التعبير، إن أردنا مقاربة الأمر بشيء من السطحيّة، والبراءة. ولكن، في العمق، يشي هذا القرار بما هو أخطر من ذلك. فهو يؤكّد، للمرة الأولى بشكل ملموس، أنّ المعركة السياسيّة الحقيقيّة، لا تُخاض في شوراع دمشق وحمص، ولا حتّى في مجلس الأمن، بل على شاشة الفضائيات. المعركة معركة صورة، وصورة مضادة. والمنتصر، هو من يفوز بفرض النسخة التي يريدها هو من الصورة. حذف "الدنيا" في هذا التوقيت بالذات، يعني أنَّ النهج الرسمي العربي الرافض لبقاء النظام السوري، قرّر، الآن، كتم أيّ صوت يناقض روايته عن الأحداث في الشام. وبموازاة الاغتيالات التي وصفتها "الجزيرة" و"العربيّة" مثلاً، بالخطوات "النوعيّة"، قد نفهم، أنّ حذف "الدنيا" هو خطوة نوعيّة أخرى في المعركة ذاتها. لا ننسى أنّ "الدنيا" واظبت خلال الأشهر الماضية على تكذيب الصور والمعلومات التي كانت ترد على شاشة "الجزيرة". وبغضّ النظر عن مدى مصداقية أداء "الدنيا" وأخواتها من ناحية مهنيّة، فإنّ قرار قطع بثّ هذه القناة الموالية للنظام، يعني أنّ هناك من قرّر ملء الفضاء العربي بصورة واحدة ـ مشكوك في صدقيّتها أيضاً ـ ومن دون أي تشويش يذكر. ويمكن أن ننتظر قرارات مماثلة تطال "التلفزيون الرسمي السوري" أيضاً. أمّا الحقيقة التي سيكتبها التاريخ عما يجري في سوريا الآن، فليست تلك التي ستدور في شوارع المدن السوريّة، بل هي تلك التي سيفرضها الطرف المنتصر في هذه الحرب الإعلاميّة، فرضاً. تفتيت سوريا، وهلاك شعبها، ليسا من أولويّات الكاميرا، بخلاف كلّ الادعاءات.
سناء الخوي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد