ليـس دفاعـاً عـن المتنبـي
عندما يُذكر المتنبي يخطر فوراً فخره وتُذكر تناقضاته فهو يهجو من مدحهم شأنه مع كافور وهو يضع نفسه فوق الخلق لكنه يتوسل سجانه بـ«مالك رقي» واضعاً نفسه العالية الأنوف موضع العبيد، وهو يشتهي السلطة ويطلب لنفسه ولاية ويقول إن فؤاده فؤاد ملك وإن كان لسانه لسان شاعر. كل هذا مستهجن، وقد يستفز إلى كره الرجل وإلى التهوين من شعره ما دام يحمل كل هذه المفارقات والتناقضات. بيننا وبين المتنبي قرون متطاولة فلا معنى لأن نحامي عنه ولأن نتبنى قضيته بل لا معنى لمحاكمته أصلاً. أغلب الظن اننا نحاكم المتنبي من موقع عصر هو غير عصره. انه عصرنا الذي ينكر أصلاً ان يرتزق الشاعر من المديح وأن يمدح امرأً بغير ما فيه، بل ان يكون المديح مثالاً جاهزاً نسقطه على كل ممدوح، فالمديح قالب وإذا برع الشاعر فيه فلن يكون سوى متمرس محترف ومتمكنٍ من صنعته، وهذه لا تناسب فكرتنا عن الفنان أو الشاعر فهو لا ينسج على منوال ولا يتوخى قالباً جاهزاً. ثم اننا من موقع عصرنا نعتبر الشعر إلهاماً أكثر منه حرفة. المديح وهو صنعة الشاعر القديم منكور في عصرنا، فماذا يبقى لشعراء الماضي وكبارهم كبار في المديح ومرتزقون من المديح. غير أننا ونحن نتحدث عن تناقضات المتنبي نلتفت إلى صفة غير موفورة في كل الشعراء الذين سبقوه. لسنا نستطيع ان ندّعي على أبي تمام أو البحتري بهذه الدعوى فليس أي منهما متناقضاً. بل نحن قلما نلتفت لشخصيهما وقلما نطابقهما على شعرهما وقلما نعنى برسم المسافة بين الشخص وبين شعره، فهذان وكثير غيرهما من الشعراء لم يكونا صاحبي تناقضات، لأنهما صاحبا حرفة ليس إلا، حرفة قيمتها في التمكّن منها والتطلع فيها. ليس شخصاهما ماثلين في الشعر ولسنا نستخرجهما من هذا الشعر، بل لا يعنينا في الحقيقة أن نعاين مقدار التطابق ومقدار الانفصال. فهما، وسواهما كثير، شاعرا مديح وشاعرا بلاط، وهما من الحاشية، صنعتهما أن يمدحا ولا جناح عليهما إذا هما ارتزقا بالشعر أو تلوّنا بحسب المالك وحسب السلطة. نحن هكذا لا نبتعد عن عصرهما ولا نحاكمهما من غيره ولا نأخذهما بدعاوى عصرنا.
ليس الأمر هكذا مع المتنبي، فنحن نحاسبه على حرفته ونحاسبه على مسلكه ونحاسبه على تناقضاته، وليس ذلك إلا لأن المتنبي غيرهما. بل هو فريد بالنسبة لهما وإذا كان لنا ان نرجع إلى عصر المتنبي، فالمتنبي أكثر منهما تشرّباً لعصره وأكثر منهما انتباهاً لزمنه ولتاريخه. لنقل إن الشعراء الذين سبقوا المتنبي كانوا أيضاً ابناء عصرهم وتاريخهم. لقد عاشوا في دول راسخة، كان فيها بلاطات وفيها حاشية وفيها وظائف للشعراء أهمها تمجيد الملوك والتسابق إلى مدحهم. لم يكن هذا تماماً عصر المتنبي فهو عصر تفتت للدولة إلى دويلات. كثرت البلاطات وكثر الأمراء وبعض هؤلاء لم يولد أميراً وإنما كان قائداً أو مملوكاً أو موظفاً وتسلق بسيفه وجهده وطموحه وعصاميته إلى السلطة. ثم أن العصر عصر ثورات والعنف متأرث فيه وهو عنف وصل إلى درجات من الدموية والاستهانة بالمقدسات. هذه الثورات إذا التفتنا إلى ايديولوجيتها هي ثورة على الاصطلاح وعلى العرف وعلى المقدس أحياناً، بل هي دعوات إلى باطن وإلى تأويل وإلى لون جديد من التدين ومن العقيدة. ثم إن العصر بسبب من الشيعة والمتصوفة هو عصر الأئمة الذين تصلهم بالعزة الإلهية وشيجة متصلة، وهم لذلك مدوّنون في اللوح المحفوظ وجرى بذكرهم القلم الرباني وهم ميزان الكون وبوصلته وثقلاه. بل إن دعاوى تأله وتجسيد إلهي قامت. وإذا رددنا المتنبي إلى عصره وإلى ثقافة عصره وإلى زمنه وتاريخ زمنه. أمكننا أن نحاكمه من داخل عصره وأمكننا ان نفهم تناقضاته ومفارقاته.
يأخذون على المتنبي أنه يغالي في فخره وأنه القائل:
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي
إذا عدنا إلى نظرية الإمام أو القطب الصوفي، وإذا عدنا إلى مدائح الأئمة والأقطاب استطعنا ان نفهم أن المتنبي إذ يتمثل الإمام أو القطب وإذ يبني على مثالهما، وإذ يفخر وهما ماثلان أمامه في فخره فلا يبني على المحال ولا يضع نفسه في مكان غير معروف. إذا قارنا مثلاً القصيدة التي تنسب إلى الفرزدق في مدح الإمام زين العابدين وجدنا المتنبي يطلب لنفسه أو يدّعي لنفسه ما هو أقلّ منها. والأمر ذاته إذا علمنا أن أحد زعماء القرامطة، ولسنا نشك في أن العنف القرمطي أوحى للمتنبي، زعم أنه سيعود من بعد موته. سمّى المعري شعر المتنبي معجز أحمد وكان يضعه بذلك حيث وضع نفسه. اما اشتهاء السلطة فعصر المتنبي الذي أتاح لعصاميين ذوي أصل متواضع ان يتسنموا السلطة هو عصر يتيح لأناس في نبوغ المتنبي وفي عبقريته ان يحلموا بولاية أو إمارة ولا جناح عليهم في ذلك. إلا أن اشتباك المتنبي بالسلطة وطموحه إليها انما يدلان على اشتباك بتاريخه وزمنه، فهذا الرجل الذي سلم الناس له بالشعر ولم يتعب حتى يصير الشاعر الأول لم يكن شاعراً فحسب بل كان أيضاً طالب إمارة أو ولاية، أي انه شاء ان يجذر نفسه في عصره وزمانه. شاء أن يحمل تاجي الشعر والملك. الملك كان يعني أن لا يكتفي بالقول بل أن يفعل في محيطه وزمانه. هذا الزمان الذي هجاه وتوعّد ملوكه الذين كبيرهم أحق بضرب الرأس من وثن. ثم ألسنا نعود إلى عنف المتنبي لنرى ان الشاعر الرائي، والمتنبي شاعر راء، كان لا يطمح لا إلى ان يكون له يد في هدم هذا العالم السخيف فحسب، وإنما أن تكون له يد في تشييده وإقامته. نتجنب أن نتحدث عن المتنبي كثوري، رغم ان هذا الكلام ليس غريباً وله أكثر من سابقة لكننا في شعر المتنبي الملحمي كقصيدته عن الحدث الحمراء نشعر بأن أحلام المتنبي كانت في المعترك، فالحروب هي التي كانت وما تزال تبني وتهدم، ولم يشهد المتنبي حروباً كبيرة، لكن الحرب التي وصفها هو الذي ابتدعها وهو الذي حوّلها إلى فعل كوني ودوامة بناء وهدم. لقد صنع حربه كما صنع أميره كما صنع نفسه.
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد