طه حسين العقلاني التنويري هل كان يُخادع المسلمين؟
يصعب على الباحث أن يستأنف الحديث مجدداً عن عميد الأدب العربي طه حسين، كأن الصلة انقطعت معه بانصرام أجل طويل على وفاته، كما يحصل عادة في انقطاع الكلام عن حالة أو ظاهرة عابرة تمضي الى غير رجعة، أو تنحلّ من دون أن تترك اثرأً، أو بقية في النفوس أو العقول. فالرجل سليل الخالدين، ومن العسير اختزاله أو اختزال منزلته الأدبية والفكرية في ما دوّنه فحسب، من مؤلفات ودراسات ريادية غزيرة ومتنوعة ذاعت بين القراء، وتداولها النقاد بالقبول او الرفض. وهذه المنزلة لا يمكن الإحاطة بها لمجرد التذكير بما تراكم بين أيدينا من محصوله الأدبي والفكري الضخم. فاسم طه حسين يتجاوز ما كتبه، ويقترب من كونه أمثولة ثقافية بارزة في حياة العرب المعاصرين. وإذا كان لم يكترث في حياته باحتذاء غيره من أعلام الثقافة والسياسة المشهورين، الذين يضمون تحت اجنحتهم لفيفاً من المريدين، ينتمون إليهم مباشرة، وينشرون آراءهم على الملأ، فإن أجيالاً من الأدباء والمفكرين العرب اقتفوا خطاه، ورفعوا لواء فكره التنويري، من دون أن يقلدوه، لأن الرجل عصي على التقليد، بسبب وحدانية تجربته ومعاناته. بيد أن تجديد الحديث عنه اليوم يضعنا في قلب الإشكالية التي عانى منها طه حسين في زمانه. إشكالية ما برحت ماثلة في أذهاننا، وإلى أجل غير مسمى. عالقة على الدوام بين الثنائيات التي نتلجلج بين خيوطها المتواشجة، ونصارع للتملص من أحابيلها وعقدها. ثنائية القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، والدين والدنيا. ثنائية اتخذت عند طه حسين بُعداً رمزياً بين البحر والصحراء، على حدّ ما تخيّل المفكر المصري علي مبروك. أما البحر فيمثّل التنوير المنبعث من ضفة البحر المتوسط، ودولة الحداثة المتأوربة التي انبهر بها طه حسين، لكنها أخلّت بوعودها معه، بأن مارست دورها الكولونيالي على أرض مصر، وهو دور يتعارض مع إرثها التنويري الذي ينادي بحرية الانسان والشعوب. بينما تمثل المخيال السلفي، في ظل هذا الاختلال الذي صبّ في طاحونته، بصورة الصحراء التي تحاول اليوم إعادة إنتاج ذاتها، وإنتاج رموزها وطقوسها وسلوكها وأزيائها، على شكل تديّن بدائي نكوصي.
مخالب الظلامية
المشهد العربي الثقافي والسياسي اليوم شديد القتامة، وقد بات للقوى الظلامية براثن ومخالب أصلب وأقوى بكثير مما كان عليه الوضع في عصر طه حسين، ثلاثينيات القرن الماضي. فتلك القوى الدينية التي وقفت في وجهه عهدذاك، وهاجمته هجوماً صاعقاً، ورمته بالإلحاد والكفر والعمالة للأجنبي وتقويض الثقافة العربية الإسلامية، بقيت ملتزمة حدود المناظرات والمعارك الكلامية، أي حدود العنف الرمزي، ولم تستخدم، كما هو سائد اليوم، أدوات القتل والاغتيال والنفي. وطه حسين طوال مسيرته ظل مصدر تشكيك وتوجّس من قِبل كثير من مناوئيه، ولقي عنتاً منهم وضيقاً، واتُهم بأنه خدع المسلمين ومكر بهم، و«لغّم» أصول الدين الإسلامي المعروفة من داخله. وقد ردّ الداعية أنور الجندي على فكرة راجت في أوساط الناس بأن طه حسين بدّل آراءه في سنواته الأخيرة، وتراجع عما كتبه سابقاً. ردّ بالقول إن طه حسين غيّر أساليبه ووسائله في سبيل الوصول إلى قلب القارئ المسلم. ومن أجل هذه الغاية تخلى عن اسلوب التهجم المباشر على الإسلام، فأظهر قبولاً به، فكان كتابه «على هامش السيرة» تكفيراً عن «الشعر الجاهلي» وكتابه «الشيخان» تكفيراً عن «مستقبل الثقافة»، ليدس السم في ثنايا كلامه. والواقع ان الرجل الذي ترعرع في بيئة استفحلت فيها الأمية، وشاعت في أرجائها الترّهات الدينية، كان مضطراً الى المناورة والمداورة والتقية لبلوغ مأربه. وبالرجوع إلى مذكرات سكرتيره محمد الدسوقي، الذي لازمه في سنوات حياته الأخيرة، يتبين لنا، اذا صدق ما يرويه الكاتب عن طه حسين، ان الرجل كان يُظهر أحياناً عكس ما يستبطن من آراء بالأدباء والسياسيين والحكام في زمانه. ولست أزعم قياساً على ذلك، أن طه حسين يكيد الإسلام، أو يقدح به علانية أو سراً، أو أنه يستهزئ بتعاليمه، او يقدّم مثالبه على محاسنه. بل إنه يحاول بطريقته الملتوية ربما، أن يزعزع المسلمات العقلية المتوارثة، واليقينيات الدينية الشعبية والتقليدية، وأن ينظر إلى الموضوعات التي بين يديه نظرة مجرّدة من الأهواء، أو منزّهة عن الأوهام والأباطيل والفرضيات. وهذه الطريقة هي دأب مفكرين عرب معاصرين، مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وفؤاد زكريا وحسن حنفي وسواهم، ممن نقرأ بين سطورهم ما دقّ وخفي من ظاهر كلامهم، في ظل ظروف مماثلة لظروف طه حسين وبيئته، بل هي أشد وطأة عليهم. وفي هذا المقام لا ينكر طه حسين الدين، وإنما يضعه في حيّز الشعور الفردي وينافح عنه، ما دام الدين في مفهومه خبرة إيمانية شخصية، تنفصل عن أي مرجعية خارجية مفروضة عليه.
خميرة ثقافية
طه حسين كان شخصية إشكالية بما تحمل هذه الكلمة من انقسام على النفس بين وعي نخبوي طليعي، ووجدان وطني مصري يوغل في وطنيته تاريخياً وثقافياً وتراثياً وإسلامياً، على ما يذهب إليه عبد الرزاق عيد في أطروحته عن طه حسين. وهذه الإشكالية هي أحد تجليات شخصيته الخصبة والفائقة الحيوية. إشكالية عقلانية تقوم على مفارقة تراوح بين تبنيه عقلانية طليعية، وإيمانه بإرث تنويري ديموقراطي يُخضع كل الأفكار إلى مبضع النقد والتعليل والتشريح، من جهة، وبين شروط عصره التاريخية الاجتماعية التي تجبره على التكيّف معها، بكل ما تنطوي عليه من فشو التيارات الرجعية والمعتقدات الشعبية الخرافية والأسطورية، من جهة أخرى. وعليه فإن الادّعاء بأن انبهاره بالغرب بلغ حدّ الذوبان، ومحو خصوصيته الحضارية التي ألمّ بفلسفتها وأدبها نثراً وشعراً غير دقيق. إنما شكّلت كتاباته بمجملها خميرة تفاعل ثقافي بين الحضارتين الشرقية والغربية. بل إن هذا العلماني، الذي لم يقبله المتديّنون لعلمانيته، ولم يقبله العلمانيون لتديّنه، حسب عبارة عيد، إنما كان يصبو لا إلى علمانية فرنسا الملحدة التي تنحو إلى إعدام الحياة الدينية في الفضاء العام، بل الى تبني القيم التي بلورتها الثورة الفرنسية التي أفضت فيما بعد إلى مسارها العلماني. وعلى رأسها قيم المساواة بين البشر، وتعظيم شأن العقل، والإذعان لمتطلبات المنهجية المجردة من كل عاطفة أو هوى، ورفض المسلمات الإيمانية القبلية، كما جاء في مندرجات المذهب الديكارتي، وفرض المعايير الموضوعية والعقلية القابلة للنقد والتمحيص. لذلك فرّق فيصل دراج في دراسته عن طه حسين بين علمانية الغرب التي اشتُقت من صعود العلم ومعطيات المجتمع الصناعي. وعلمانيته القائمة على ضرورة طلب الحرية والتقدم اللذين يحتاجهما مجتمعه الراكد، ليكون قادراً على مواجهة تداعيات التقدم الأوروبي السريع واللحاق به.
إصلاح شمولي
من الدروس المستفادة من حياة طه حسين وفكره، أنه لم يكتف بموقعه الأدبي، بل أخذ بتصور فكري شمولي لإصلاح النفس والمجتمع والتعبير عنهما. ولم يقتصر على مجال من دون آخر، فكانت دعوته إلى اقتفاء المنهج العقلي طريقاً متشعّب الاتجاهات، عرّج منه على التربية والتعليم، كما على الأدب والحياة الاجتماعية والسياسية. فسعى الى إصلاح التعليم في مصر ومجانيته، وتحسين أوضاع المعلمين، وإنقاذ التعليم الجامعي من مظاهر البيروقراطية، ودعا إلى استقلالية الجامعة، والى حرية البحث العلمي،. وفي الأدب كان مجدداً، وحدّد المعايير الأسلوبية التي تقوم على تخليص الأدب من شوائبه، لا سيما تعلق النقاد بشخصية الشاعر أو الكاتب واستقصاء مزاجه وفرديته، عوض الحديث عن علاقة الأدب بتصوير الحياة والمجتمع. ووقف ضد التصنع في الكتابة، وتكلّف الكُتّاب العبارات المكدودة التي تشق عليهم وعلى القارئ معاً. وحرص على مراعاة اختلاف الأذواق من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر. لأن الذوق الأدبي يجب أن يلائم الناس ويعبّر عن حياتهم. ومن الإسراف كما يقول: أن نستعذب لغات الأجيال الماضية وأساليبها لنصف بها أشياء لم يعرفوها، وضروباً من الحس والشعور لم يحسوها، ولم يشعروا بها. وحاول طه حسين أن يدافع عن الأفكار الليبرالية ضد الهيمنة الدينية وضد السلطة الثيوقراطية والحكم المطلق. وآمن باختلاط الجنسين، وأنكر فريضة الحجاب على المرأة لأنه مقيد لحريتها الفطرية، وأعلى من شأن الرقص والغناء والتمثيل والموسيقى، بحسبان هذه الفنون من مرتبة المُثل العليا والمبادئ السامية.
وإذا كان من المألوف في سياق الحديث عنه، وضع كتابه «في الشعر الجاهلي» في بؤرة الضوء، فقد أُشبع الكتاب درساً وتمحيصاً، وأراق حبراً كثيراً، وما عاد بمضمونه أمراً يهمنا، بقدر ما تعنينا الظروف التي أحاطت به، والمواقف المتشنجة التي اتُخذت حياله، والتي نراها في أيامنا تتجدد، وتستعيد دورها وزخمها، وتسدّ منافذ الحرية بالفتاوى المستنسخة التي تكفر الأصوات المجاهرة بمخالفة الشائع والمتداول من الأفكار. أما كتابه «الأيام»، وهو الآخر من أولويات إرث طه حسين، فأرى أن الكتاب شكّل في حينه فرصة سانحة لا للحديث فحسب عن حياته الشخصية برغم تميّزها وثرائها، بقدر ما كانت انعكاساً لحياة الجماعة، ونقداً لاذعاّ للتربية الدينية التقليدية المغلقة. لكن السيرة الذاتية في النص العربي اليوم كما الرواية، تقدّمت عن «الأيام» خطوات واسعة نحو خلع الأبواب الموصدة، واختراق المضمر، والمسكوت عنه في الحياة والنفس.
هل تصدّع المشروع التنويري العقلاني العربي الذي حمل رايته طه حسين؟ يمكن الإجابة بنعم حزينة ومؤسفة في ظل الاستنفار الإيديولوجي الديني الطائفي والمذهبي على مسرح الأحداث، وغياب أفق المستقبل، وراء ظلال العصبيات وأشباحها، والهويات الجارحة والمأزومة، ونُذر النهايات الدامية.
أحمد زين الدين
طـه حسـين.. الهجـوم المعرفـي التشـكيكي
طه حسين الأمس.. هو طه حسين اليوم.. لم يتغير سِفْر النظرية الحسينية ولا قيد أنملة، ولكن تغيرت الحال وتغيرت إنتاجية الثقافات واختلف النسق الفكري كثيراً بين الأمس واليوم، ومع كل هذا بقي طه حسين حتى الآن علماً من أعلام التنوير الفكري، وبقي جدله قائماً مهما تعددت منافذ الجدل في استراتيجيات الحداثة الأدبية ونزوعها الى مغايرات المناهج البحثية القديمة .
ذهب الأمس برؤاه واستخلاصاته ومناقبه، وبقي اليوم جسرا بين هذا وذاك في جدلية الحياة الثقافية المستمرة في حداثتها اليومية واستنتاجاتها الجديدة، بينما طه حسين يخلّف وراءه ثروة فكرية وأدبية لا تزال حيّة وماثلة وشاخصة في المتن الأدبي العربي العام.
في تقصي الأثر الأدبي والثقافي العام لتجربة طه حسين (1889 ـ 1973) المعرفية الشاملة ثمة محطات بارزة في مسيرة هذا العميد لا تشيخ مهما كانت المستحقات التاريخية التي تبلور نتائج جديدة عن تاريخية الآداب والفنون والأفكار والثقافة بشكلها العام، وما توصل اليه طه حسين في فترته الذهبية من استنتاجات مهمة في تحريه المتعدد عن استحقاقات زمنية برموز وأسماء أدباء وشعراء وظواهر شعرية وفكرية في مراحل مختلفة من تاريخية الأدب العربي يعد بمجمله بانتقالة مهمة في تفسير وتأويل الأثر الثقافي المتروك، بل وحتى جزء من الأثر الديني ذاته الذي أخضعه طه حسين تحت منظار المبدأ الديكارتي الحدسي والظني. وهو ما لفت الأنظار اليه لكونه تجرأ على الدخول في المقدس بطريقة الشك، وهو ما لم يفعله أحد من مجايليه فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
كان طه حسين قريبا من التاريخ البعيد. ربما كان الرجل يحرث بعمق في الشعر الجاهلي وأدبه بشكل عام. ربما كانت له آراء غير قابلة لأن تُتَبنى بسهولة ما دام منهجة قائما على الشك ولا غيره، فهو المتنور الألمعي المتقدم على عصره بمراحل كما يريد معجبوه. والباحث؛ بشك دائما؛ عن جمرة الحقيقة بين ثنايا التاريخ وسجلات الآداب والعلوم المتعددة التي تلقفها دارساً، منقباً، باحثا ً، مستنيراً بثقافة موسوعية ومدرعاً بحصيلة معرفية رافقته منذ نشأته الدينية والأدبية الأولى، ولعل الشيخ مجمد عبده هو من أتقنه علمية التحرر من القيود الثقيلة القديمة وبصّره في الكيفية التي تمكنه من أن يقود وعياً جديدا في المحيط العربي والثورة على القديم الراسخ مما تركه الأقدمون من نصوص قارّة أو شيوع تقاليد ثابتة تؤخر عمليات الإصلاح الاجتماعي والثقافي العام.
موسوعية طه حسين وراءها شيوخ متنورون واساتذة معرفة ومصلحون اجتماعيون ومفكرون غربيون وجهابذة لغات ورجال دين منفتحون تبسطوا في المعرفة الدينية وتركوا في قراءاتها بصمات معرفية جديدة في تلقي الأثر الديني وأدبياته، كما تركوا لمسات شخصية كانت تنذر المتعصبين والعصابيين المصابين بفوبيا الدين، بأن ثمة من يستعين بالمنطق والسلوك والتفسير والاجتهاد بل وحتى الشك، ليصل الى نتائج ليست بالضرورة ترضي هذا الطرف أو ذاك؛ ممن تمسكوا بثوابت نصية وقرروا ألا يغادروها بل زادوا من صنمية الكثير من النصوص تحت شعارات وملفات معروفة. لذلك نجد طه حسين منذ بواكيره الأولى أخذ على عاتقه أن يكون ضمن الرعيل المتنور الذي تعلم كيف يقرأ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي وكيف يُخضع الأثر الأدبي، والشعري منه على وجه الخصوص، لعمليات كيميائية لاستخلاص متونه الصحيحة وإحالته على مرجعياته الأساسية تاريخيا في أقل تقدير. ومن ثم لاستقرائه بمنهجية معروفة. سواء اتفق معه من يريد الإتفاق أم لم يتفق من آثر أن يبقى في الخط المحرّم من الثقافة القارّة. لهذا كان على طه حسين أن يواجه طبقات من التعصب الديني والأدبي ممن تشكلوا في فترات سابقة وعدّوا ثوابت الأدب والشعر والدين لا يطالها طائل ولا يرقى الشك اليها. وعليه أن يواجه سيولاً من الاتهامات المباشرة كترويجه للثقافة الغربية وتشكيكيه ببعض مفاصل الكتاب المقدس بإنكاره وجود النبي ابراهيم على سبيل المثال وشكه في نسب النبي محمد وغيرهما!
الصراع
ولا بأس أن نشير الى منابت طه حسين العلمية كي نبقى في صورة الرجل الدؤوب الذي يتقصى العلوم والمعارف والثقافات واللغات، وهو ما يعني ان طه حسين كان موسوعة متكاملة من العلوم والآداب؛ ففي الجامعة المصرية تتلمذ على يد كل من أحمد زكي في دروس الحضارة الإسلامية، وتتلمذ على يد أحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة، وكان أستاذه في التاريخ والجغرافيا المستشرق جويدي. اما في الفلك فتتلمذ على كرنك نللينو وفي اللغات السامية القديمة على يد المستشرق ليتمان، وفي الفلسفة الإسلامية على يد سانتلانا وفي تاريخ الحضارة الشرقية القديمة درس على يد ميلوني، وفي الفلسفة على يد ماسينيون وفي الأدب الفرنسي على يد كليمانت. ودرس في جامعة باريس التاريخ اليوناني على غلوتسس والتاريخ الروماني على بلوك والتاريخ الحديث على سيغنوبوس وعلم الاجتماع على اميل دوركايم، وقد أشرف هذا ومعه بوغليه على اطروحته عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية بمشاركة من بلوك وكازانوفا.. فهل هناك أرفع من هذه الحصيلة المعرفية والذخيرة الثقافية التي جمعت العلوم والآداب والفنون والحضارات في كف واحدة؟
ثقافة الآخر
استيعابه ثقافة عصره وألمعيته في احتواء التراث العربي ومخزوناته الثرية، إضافة الى كونه مطلعاً بشكل واف على جدليات الحضارات الغربية القديمة والمعاصرة، جعل منه عالماً جدلياً له حجته ومنطقه ونظريته الظنية أمام حلقات ثقافية كان يسوؤها مثل هذا الانفتاح المعرفي الشامل والجدل المنفتح على ثقافة الآخر. وهو ما أخِذ عليه في كل مراحل حياته الكتابية لا سيما في منتصف العشرينيات من القرن الماضي حينما أصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي توصل اليه بعد مزيج من الشك والاستقصاء الى إنكار الشعر الجاهلي وعدّه منحولا وانه كُتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين. وهو الأمر الذي خلق له مناوئين في المنهج والفكر فتصدى له أعلام كبار كمصطفى الرافعي وأحيل على القضاء وكتبت عنه الصحافة المصرية كثيراً، وبدا أن منهجه التشكيكي غير قادر تماماً على أن يكون هو المنهج والنظرية والأسلوب وعدّه البعض ورطة علمية ومنهجية في ثقافة طه حسين وأنه امتثل لثقافة الغرب في تكوينه الظني والحدسي لا سيما عند استاذه مرغليوث وغيره ممن تماشوا مع خط ديكارت في الظن والتشكيك قبل قبول النتيجة او الاستخلاص البحثي. بمعنى أن فرضيته في موضوعة الشعر الجاهلي وتقصياته في الفكر الإسلامي عامة ودعوته الى فصل اللغة العربية عن محورها القرآني لم تقم على أسس علمية منهجية، بل هي ورطة مدفوعة الأجر بانتهاجها المادية الغربية وتماهيه مع الأوْربَة كدليل متين الى انتهاج سياسة علمية في تحليل الآثار الفكريـة والأدبية.
الكثير من إثارات طه حسين تقدم وتقادم الزمن عليها. وربما عدّت من أخطائه الشنيعة، فالتمرد على لغة القرآن لم يكن له سبيل للانتشار بطريقة طه حسين القائمة على فصل اللغة العربية (الإسلامية) عن اللغة العربية اليومية هو ما أوقعه في إشكالات مع رهط من المتعصبين ومتفلسفي الفكر الإسلامي وبالتالي أوقعه تحت ضغط محيط يومي يتقيد باللغة القرآنية ولا يحيد عنها، ثم اأن تقبيحه للأدب العربي ومنجزاته التاريخية في السرد والشعر والخطابة أفصح عن تأثر بل انتماء الى الآخر بطريقة لا مواربة فيها. فهو القائل: (لا أختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع. وهو في الواقع فرق ما بين العقل السامي والعقل الآري. فالأدب العربي سطحي ويقتنع بالظاهر. والأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل..). وقد لا يكون هذا الرأي مستشريا اليوم لأسباب كثيرة، لكنها تبقى وجهة نظر قيلت في زمنها، فالأكاديميات العربية وجامعاتها تدرس الأدب الجاهلي من حيث هو ادب عربي خالص سبق ظهور الإسلام بمسميات شعرائه الكبار، ولم يعد أحد اليوم ينكر أيام العرب وأسواق العرب والأقوام البائدة واصالة الأدب العربي والشعر الجاهلي الذي لم يصنعه رواة العصور الإسلامية المتأخرة، وامرؤ القيس وعنترة بن شداد والبحتري كما تنكر لهذا طه حسين في جدله الشكّاك الذي أخذ من وقته كثيراَ. كما لم يعد أحد يصدق أن الإسلام ظهر في امة راقية ذكية لا تحتاج الى الكثير من الفصاحة القرآنية وليست جاهلة وبدوية تعبد الأصنام وتمشي وراء حدسها وكانت تحتاج الى مخلّص بقامة النبي محمد، وبالتالي فإن لغة القرآن هي التي جاءت على سبعة أحرف قريشية النسب والزمان والمكان، وفي الوقت ذاته تقدمت العلوم كثيرا وكانت الكثير من المكتشفات الأثرية أفصحت عن معلومات جديدة وخطىً قديمة سلكت هذا الدرب أو ذاك وتركت وقائعها في هذا وذاك من المكان والزمان. مثلما لم يعد أحد يصدق الآن أن بعثة النبي محمد وحياته كانت اسطورة وضعها علماء اليهود والنصارى والأحبار، وان قصة ابراهيم واسماعيل وهجرتهما الى مكة أسطورة هي أيضا ً بوضعٍ من اليهود، وان اللغة العربية متخلفة قياساَ الى لغات العالم الأخرى.
تتبع خصوم طه حسين حركاته وسكناته وأحصوا عليه سطوره وحروفه وما وراءها من شكوك، وكان هو يملي الكتاب تلو الكتاب والظن إثر الظن بطريقته التشكيكية المعهودة حتى قال عنه العقاد انه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير... وهو حراك ما انفك من المواجهة بين طرفي معادلة غير منسقة قطبها الواحد طه حسين وأقطابها في المعسكر المضاد كثيرون يرفضون الحوار والتجديد والجدل والوثيقة الممكنة، حتى وصفه أعداؤه بأنه لم يكن عربيا ولا عروبيا، مثيراً فتنة كبيرة بين المحافظين المسلكيين أصحاب الطرابيش وبين قطبه الوحيد الذي ظل ممسكاً بزمام المبادأة والتصحيح بقدر مهم من الهجوم المعرفي التشكيكي دائماً، فهو المبصر الوحيد الذي لا تدافع عنه عصور العميان بوصف نزار قباني.
وارد بدر السالم
طه حسين مرّ من هنا..صرخة البصير في ميدان التحرير
ربما كان أهم إنجاز للثورات العربية أنها دفعت بأسئلة «الغرف المغلقة» إلى الفضاء العام. الأسئلة الخجولة التي كان مكانها الوحيد بين أغلفة الكتب، وأحياناً قاعات الدرس المغلقة، وندوات المثقفين ونقاشاتهم، كان الاقتراب منها عملاً محفوفاً بالمخاطر. كان المثقف يطرح سؤاله في خجل، يتحرك حتى الأسلاك الشائكة، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوزها. المحاولات القليلة للخروج عن النص كان مصير أصحابها إما النفي (نصر أبوزيد..)، التهميش، أو القتل أحياناً كما جرى مع فرج فودة ونجيب محفوظ (الذي فشلت محاولة اغتياله)، أو الفصل من الجامعة، كما جرى مرات عديدة مع طه حسين.. وآخرين!
أسئلة حول الدين والسياسة، والشريعة ومفهومها، الحدود، وأساطير التدين، والقداسة التي يضفيها البعض حول الشخصيات الدينية البشرية، وغيرها، احتلت مساحة واسعة في النقاش العام، تخطت حدود «الكتب» لتصبح مجالاً للحديث في برامج التلفزيون، وعربات المترو، بل وفي المناقشات العائلية أحياناً.
في ندوة أقيمت مؤخراً بالقاهرة بعنوان «المجال العام والدين»، انقسم الحضور في القاعة إلى فئتين، الأولى: تنتمي إلى الإسلام السياسي، أستاذهم عبد الوهاب المسيري، معظمهم أعضاء في حزب «مصر القوية» لصاحبه عبد المنعم أبو الفتوح، يتحدثون عن الهوية والعلمانية الجزئية ويطعّمون خطابهم بالحديث عن ميشيل فوكو والسلطة والانعتاق «المستحيل» من أسرها، كثير منهم رفض الدستور بسبب مواد الحصانة على المؤسسة العسكرية، لا لاختلافهم حول مواد «الشريعة» التي تعتبر لبنة في بناء دولة الفقيه السني، هؤلاء في نهاية الأمر يتحدثون عن هوية متوهمة..الفريق الثاني مجموعة شباب يقدمون أنفسهم قبل أن يبدأوا في التعقيب والنقاش بأنهم ينتمون إلى تيار «علمانيون» لا يتحسسون كلامهم، لا يبحثون أثناء الحديث عن مصطلحات متقعرة يتحدثون بجرأة ويطرحون الأسئلة التي لم يطرحها كبار مفكري النهضة، بداية من طه حسين وحتى نصر ابوزيد..خطابهم واضح: «ليست المشكلة فيما يقدمه شيوخ الفضائيات من خطاب معاد للإنسانية.... مشكلتهم الحقيقية مع «النص»، هكذا يعلنون بكل جرأة.. يفككون خطابات علاها الصدأ لسنوات، ويطرحون من الأسئلة ما لم يكن ممكناً طرحه من قبل طوال سنوات التلفيق بين الدين والحداثة.. وهذه النقاشات كان من المستحيل أن تخرج من قبل إلى العلن بتلك الصورة، بل إن تيار «علمانيون» بدأ في النزول الى الشارع ليترك أفكاره على الحوائط في رسومات «جرافيتي»..ويبدأ أصحابه نقاشات جادة في كل مكان تقريباً.
قبل الثورة، عندما كانت تيارات الإسلام السياسي خارج السلطة، ترك لهم مبارك فيما يشبه الصفقة، منابر المساجد، لينشروا أفكارهم، ويكفروا من يشاؤون، ترك لهم مجالاً كبيراً في الشارع لينشروا أفكارهم.. مقابل محاصرة الشارع وتقويض أحلامه في العدالة الاجتماعية، لم يعد مناسباً بعد وصول التيارات الدينية للسلطة أن تستمر هيمنتهم على المنابر، لتسمع التيارات المخالفة لهم تكفيرهم، ولذا لم يكن غريباً أن يحاصر شيخ مثل المحلاوي في مسجده بالإسكندرية عندما كفر المعارضين لمرسي، ولم يعد غريباً أن يتم إنزال شيخ من على منبره في خطبه الجمعة لأنه يكفر معارضي الدستور، ويتحدث عن الجنة والنار وكأنه يمتلك مفاتيحهما.
ربما لا يتوقع طه حسين نفسه أن الثمار التي غرسها مع غيره من مفكري النهضة (الحقيقية لا نهضة الإخوان) سوف تؤتي ثمارها، بعيداً عن أغلفة الكتب بل على أرض الواقع. ليصبح «الإسلام هو الحل» بالتجربة العملية مجرد شعار فضفاض لا يعني شيئاً.
إذن لم يغب طه حسين عن المشهد، لا يزال حاضراً لأنه في الوقت الذي كانت الثقافة المصرية منشغلة بسؤال الماضي، جاء ليشغلها بسؤال المستقبل. كان شعاره الدائم: «أنا قلق دائماً، مقلق دائماً، ساخط دائماً، مثير لسخط من حولي». هكذا جاء «الضرير» متحدياً عاهته: «ليقود خطانا إلى النور» كما يقول عبد المعطي حجازي في قصيدة له.
ولو أن المجتمع الذي نعيش فيه كان مجتمعاً صحياً لكان لأفكار العميد أن تأخذ الآن مكانها فوق أرفف المكتبات، في متحف الأفكار، نعود إليها متأملين سؤالاً قديماً تجاوزناه. ولكن ذلك لم يحدث. بقيت أفكار صاحب «في الشعر الجاهلي» دليلاً على عجز المجتمع.. وظل حلم طه حسين بـ: «مصر جديدة تظللها المعرفة ويداعبها الرخاء» حلماً بعيد المنال. طرح العميد على المجتمع أسئلة علاها الغبار: أسئلة الهوية، الارتباط بالحداثة، علمنة المجتمع، التعددية، الإصلاح الديني والسياسي.. وغيرها، ولم يكن المجتمع من قبل قادراً على تجاوزها، كلما عبرنا عتبة أوقفنا جدار.
الحرية رهانه
في عام 1934 عندما صدر قرار فصل طه حسين من الجامعة كتب لزوجته: «إننا لا نحيا لكي نكون سعداء».. أبدت دهشتها من العبارة..وبعد سنوات من تأمل حياتهما معاً أدركت كم كان هو من ذلك النوع النادر من الرجال الذي يعيش «ليمنح الفرح للآخرين ويعلمهم الشجاعة ويعطيهم الآمان». كتب لها ذات مرة «إنك تعرفين هذا النوع من الرضى الذي يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب». ويمكن أن نلخص هذه الرسالة في كلمات قلائل.. هي ربما الكلمات التي هتفت بها الثورات العربية في ميادين التحرير المختلفة: العيش والحرية والكرامة.
الحرية.. هي كل شيء بالنسبة للعميد.. ولكن الحرية مخيفة لكثيرين. أن تفهم وتطالب بحريتك يعني أن تسحب الوجود من سلطة تحب العمل في الظلام.. «الحرية شرط أساسي لنشأة التاريخ الأدبي في لغتنا العربية، وأنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف...»، كما قال أثناء مناقشة أزمة كتابه «في الشعر الجاهلي». العميد لم يعمل في الظلام، لقد أراد أن يحرر العقل من الجمود والرتابة، كان الدفاع عن العقل معركته الرئيسية... والتعليم والحرية هما أدواته لتحرير العقل. بالنسبة له كانت «الرقابة مكروهة مهما يكن الموضوع الذي تراقبه. ولن يكون الأدب حراً إلا إذا كان القلم حراً في كل ما يطرق من موضوعات». والتعليم وحده هو رهان طه حسين لتحرير العقل.. وخاصة أن المدارس من وجهة نظره: «قد أغلقت أبوابها ونوافذها إغلاقاً محكماً، فحيل بينها وبين الهواء الطلق. وحيل بينها وبين الضوء الذي يبعث القوة والحركة والحياة».. إذ يأخذ الطلبة من الكتب المقررة عليهم..»استظهاراً يستعينون به على أداء الامتحان. حتى إذا فرغوا من هذا الامتحان انصرفوا عما حفظوا أو انصرف عنهم ما حفظوا: لم ينتفعوا منه بقليل ولا كثير. ولم يتعلموا منه نقداً ولا بحثاً، ولم يفيدوا منه ذوقاً ولا شيئاً يشبه الذوق».
الحلول التي يقدمها العميد واضحة، ويمكن اعتبارها حلاً لكل زمان: «أن تلجأ وزارة المعارف إلى طائفة من الفنيين الذين يدرسون الأدب العربي في ذوق.. ويقرأون اللغة في فهم وفقه..ويتخذون منهما ومن العناية بهما لذة ومتعة، لا وسيلة إلى العيش وقبض الراتب آخر الشهر». ليست المناهج وحدها هي الحل..وإنما طريقة التدريس: «البحث العلمي الصحيح قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار والشك على أقل تقدير..»، وهذا هو الأسلوب الذي استخدمه في بحثه سواء في كتابه «في الشعر الجاهلي» أو «مستقبل الثقافة في مصر»..، حتى في روايته الشهيرة «دعاء الكروان» التي يراها فيصل دراج مدينة العميد الفاضلة التي تمجّد قدرة الإنسان الشغوف بالمعرفة على التحرّر.
بين البنا والعميد
ربما كانت عبارته الشهيرة «التعليم كالماء والهواء» هي الباقية، هي الأشهر، ولكنها ليست كل ما ترك لنا. لم يكن فقط التركيز على التعليم ما قبل الجامعي، وإنما كان همه أيضاً «جامعة دينها العلم».. لأن «العلم حر بطبيعته». يقول في محاضرة له ألقاها عام 1941: «كنا أحراراً مع أساتذتنا، فنحضر إلى دروسهم، ونسمع منهم، وأؤكد لكم أننا كنا نعذبهم كما كانوا يعذبوننا، كنا نناقشهم ونطيل عليهم، وأذكر أن بعض أساتذتنا عندما كنت أناقشه يرفع يديه إلي السماء ويقول «الله حكم بيني وبينك يوم القيامة». ويضيف: لم نكن أحراراً في مناقشاتنا فحسب، وإنما كنا أحراراً فيما نتحدث فيه إلى أساتذتنا، فنقول كل ما يخطر ببالنا، وكثيراً مما نقول سخفاً كثيراً، وكان أساتذتنا يقولون سخفاً كثيراً أيضاً...».
وعن معنى الجامعة يضيف: «إن امتازت الجامعة لدي بشيء فإنما تمتاز بأنها لا تحب السكون والركود وإنما هي في حركة دائمة وتجديد مستمر، فالذين يلتمسون المحافظة والإبقاء على القديم يمكنهم أن يطلبوه في غير الجامعة، والذين يلتمسون التطور والانتقال بالحياة العقلية يجب أن يتخذوا هذا في الجامعة». الأساتذة أحرار من وجهة نظر العميد فيما يختارون من مواد، وأحرار في اختيار طريقة الدرس، والطلبة أحرار أمام الجامعة، بشرط أن يتحملوا تبعاتهم، فالأهم أن يكون: «الإقبال على العلم والدرس ناشئاً عن الحب والرغبة لا الخضوع والطاعة فليس في ذلك خير، وإنما نطالب بالخضوع والطاعة والنظام في الأشياء العسكرية»..
وبعد هذه الحرية..توجد حرية النظام: «ولو كنت اشرع للجامعة نظمها لغيرت كثيراً، ومعنى هذا أن القوانين يجب أن تقوم على فكرة تيسير العلم وتمكين الأستاذ من أن يعيش ويعلم كما ينبغي، وتمكين الطالب من أن يعيش ويتعلم كما ينبغي أيضاً». ربما كان كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» دستوراً ثقافياً اقترب فيه، بعقلانية وشجاعة، من كثير من الأسئلة الممنوعة التي تعيد اكتشاف التاريخ العربي الإسلامي بعيداً عن الأسطرة والبلاغة والتمجيد الذاتي الفارغ، مطالباً بالتحرر من الغيبيات والتربية العقلية العقيمة... وكان الكتاب يرفض توظيف الثقافة لخدمة الإيدولوجيا، وتأسيس الدولة على مفهوم ديني للهوية. وهذا ما أربك الجميع وقتها.
وكان من المرتبكين حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي كتب مناقشاًٍ العميد في رسالة طويلة تبين منهج «الجماعة» إزاء قضية التعليم. البنا لا يريد تعليم اللغات قبل المرحلة الثانوية، لأن تدريس اللغات من وجهة نظره في التعليم ما قبل الثانوي: «يقول به حضرات رجال المعارف المختصين ودراسة النفس..حتى يمكن أن يجيد الشخص لغته الأم». ويطالب البنا بالفصل في التعليم بين الطلبة والطالبات في المراحل كافة، يؤكد على ضرورة ألا يتخرج الطالب من الجامعة إلا حافظاً للقرآن كله....».. مشروع البنا المقترح هو مشروع جماعة الإخوان الآن، ربما كان أكثر تضيقاً الآن عما مضى. أي أننا أمام رؤيتين، رؤية تنادي بالحرية وأخرى تسلبها..!
أما الديموقراطية فقد احتلت مكاناً كبيراً في فكر العميد، كانت هي القضية الجوهرية في لحظتنا الراهنة أيضاً. يقول العميد: «الذي يشهد تاريخ البشرية وينظر للمجتمعات وتطورها يرى أنه كان هناك دائماً اقتران بين الدين والاستبداد والفلسفة والديموقراطية، فالحاكم المستبد يلجأ للدين أما الحكم الديموقراطي الذي يؤمن بالتغير والتعدد فإنه يلجأ للفلسفة». أسئلة العميد هي أسئلتنا للأسف حتى الآن. ولكن تتصدر الواجهة وتبحث عن إجابات في الواقع بعيداً عن الكتب.
محمد شعير
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد