أنسي الحاج: لا مفاجأة في لبنان
لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحَضَّر للبنان. كلّه صار وراءنا. بالكاد تغيّرت وجوه. الباقي صامد في مخالبه ونواياه. والوكلاء والمنفّذون جاهزون. بالكاد هناك شخص شخصان يعذّبهما التردّد، يتوجّسان من الغَطْس. الباقون محسومة لديهم. لم يعد هناك مفاجأة في ما يُحضَّر للبنان.
نكتب من وحي الجوّ العام. نكتب من باب الصحافة. كأنّنا نحكي عن شيءٍ حصل وليس قد يحصل. رائحة الإعادة تزكم الأنوف. «حزب الله» محلّ «الحركة الوطنيّة» ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، و«تيّار المستقبل» محلّ الكتائب والأحرار وحرّاس الأرز. تغيّرت الهويّات الطائفيّة لمواقع الثقل وظلّت قواعد اللعبة على حالها.
ومحلّ «المناوشات» (كأنّهم يقولون «مناغشات») بين عين الرمّانة والشياح عام 1975، «مناوشات» بين بعل محسن وباب التبّانة أو زاروبين في عين الحلوة، ثم استعراض لأحمد الأسير وصراخ لخالد ضاهر وحرق دواليب في كسروان ومعاقبات لبطرس حرب على كونه ضحيّة.
ومقتَلَةٌ في عرسال. كيف يقع الجيش في كمين؟ كيف يدخل بضعة عسكريّين إلى ساحة زاخرة بالخطر؟ وكيف نؤيّد الجيش بتلويث الهواء وخنق الأطفال ومرضى الرّبو والسلّ بدخان الحرائق؟ وكيف ينتشر فجأةً حزب الدواليب ولا يظهر مرّة حزب الشعب الواحد في تظاهرة أو اعتصام ضدّ الفساد والخيانة؟
لا جديد تحت الشمس. التقسيم حصل بدون إعلان. وإذا كنّا نحتاج إلى مَن يذكّرنا ببؤسنا السياسي فقد توافرت لنا البراهين في رأس السنة مع تنبّؤات أصحاب السيادة وصاحبات العصمة من الضاربين بالرّمل. إرهابٌ من نوع جديد. أشخاصٌ عصبيّون لا يتحمّلون مقاطعتهم. يقولون لك بعبوسِ نوستراداموس إنّ الأيّام حبلى بالأحداث وعلى فلان الانتباه إلى صحّته وإنّ الشرق الأوسط سيشهد توتّراً. زعيمهم ميشال حايك صحافي برتبة نبي. فتاهم مايك فغالي يعرف الجواب قبل سماع السؤال. سيّدتهم ليلى عبد اللطيف تقول ما لا يعني شيئاً لتعود بعد «حصوله» وتؤكّد أنّ ما «رأته» حصل. وهناك جمعيّة فَلَكيّة لها هرميّة وتُطلُّ من وراء الغيوم ولها رئيس ونائب رئيس وأعضاء ولحىً ونظّارات وبلّور ومفردات تستعصي على الحسم.
والجميع رغم هذا يرى ويعرف. وإنْ لم يحصل ما يقتلنا سنموت ضجراً على كلّ حال.
■ ■ ■
كلّما شاهدتُ عند الفجر عمّالاً وعاملات يسعون في الصقيع والحرّ إلى أشغالهم هتف قلبي: ما أطيب هذا الشعب!
في ظلام الفجر!
من أجل بضعة دولارات.
وحكّامهم يتلاعبون بالمليارات ومعارضو حكّامهم يرتعون في الدور والقصور ويراكمون المليارات.
في ظلام الفجر!
«والله يا أستاذ أنت أوّل زبون» يقول لك بائع الملابس قبل الإقفال، «والله يا أستاذ أنت أوّل راكب» يقول لك شوفور التاكسي آخر الليل.
لكنّ الأراكيل تؤركل بلا أزمة.
وما من برهان على اليأس أوضح من ثقافة الأركيلة.
■ ■ ■
لا بدّ من إرهاب فوق هذه الإرهابات. فوقها وأعمق منها.
إرهابُ الشعب بكلّ أطيافه مضروباً بإرهاب النخبة في أطهر أدمغتها.
وهو غير موجود.
بَدَل الانتفاضة الحرّة المحرِّرة يزداد الشعب عدم وجود، ويزداد احتمال تَكوّنه يوماً، استحالة.
كنّا طوائف وصرنا مذاهب وسنصبح مذاهب في المذاهب.
زعماؤنا وحكّامنا يسرقون ونحن الفقراء لله نتسوّل ونتكيّف مع الطعام المسرطن والشراب المسرطن والدواء المسرطن.
كنتُ بالأمس أقرأ في مجلّة «شؤون جنوبيّة» عن قريتين في الجنوب، بصليّا ورامية، لم يبقَ فيهما من السكّان إلّا بضعة أشخاص. عجائز وأطفال. رامية جارة عيتا الشعب 617 هكتاراً «تكاد وأنت تتجوّل في شوارعها تظنّ أنّها خالية من السكّان»، وبصليّا كان عدد سكانها 500 ولم يعد فيها سوى عشرين شخصاً.
وغيرهما في الشمال، وبعضها أُغلقت الأبواب والشبابيك في كلّ منازلها.
فيلم كاوبوي يموت فيه الجميع ولا يبقى حيّاً إلّا المخرج.
أوراقُ خريف تتراقص كالعفاريت فوق الفراغ.
من زمان وهم يُغنّون راجعون، باقون، يا أرض بلادي، الشعب العنيد...
ويا مهاجرين رْجَعوا.
ولماذا يرجعون؟
المقيمون لو استطاعوا لهربوا.
■ ■ ■
والآن تونس. ما أشبه التونسيّين بوجه صحّارة اللبنانيّين. إخوتنا من أيّام قرطاجة وأطيب منّا. لا يطالعك في وجوههم غير التمدُّن والنور.
الآن ينعرونهم في اغتيال شكري بلعيد، شهيد اليسار العربي.
أوّلاً البوعزيزي يحرق نفسه وثانياً الأمين العام لحزب الوطنيّين الديموقراطيّين الموحّد في تونس يسقط شهيد الغدر.
في كلّ تاريخ تونس لم تتجاوز الاغتيالات عدد أصابع اليد الواحدة. مجتمعٌ ناهض ومسالم ورائد كبير من روّاد الرقيّ. استشهاد شخص واحد كان كافياً لفرار رئيس الدولة ولإعلان الانتفاضات العربيّة ضدّ الأنظمة الديكتاتوريّة.
ماذا يُراد لتونس؟ مَن يتلاعب بهذا البلد الذي لم يعرف غير البشاشة والنضارة؟
من هنا، على عكس لبنان، انطلقت مفاجأة البوعزيزي الصاعقة.
وهنا، على عكس لبنان، دوّت المفاجأة الإجراميّة.
كان شكري بلعيد يلقّب الحكومة التونسيّة بأنّها «حكومة استعمار قَطَري جديد». وحين اغتيل هوجم أداء الحكومة وحُمّلت مسؤوليّة التسبّب بالجريمة، وقال مؤيّدو الحكومة والإسلاميّون إنّ مدبّري الاغتيال هم «أصحاب المصلحة في إفشال الثورة».
أيّ ثورة؟
رمي هذا الحجر في البركة التونسيّة زلزال. لا نريد تشبيهه باغتيال معروف سعد قبيل اندلاع الحرب اللبنانيّة. نتمنّى أن يكون فداءً عن تونس. فداءً وكفى.
حمى الله تونس.
--------------------------------------------------------------------------------
■ «مجاراة المحموم في هذيانه»
اقرأ «مجاراة المحموم في هذيانه» للكاتب (أفضّلها على الشاعر والأديب والروائي والناقد لأنّها أقلّ ادّعاءً وأكثر احتراماً) الكويتي نشمي مهنّا (الدار العربيّة للعلوم ناشرون). شهاداتٌ صادقة ملوَّعة، مجروحة في أحلامها ومثاليّاتها. استوقفتني فصولٌ عديدة بينها «ترجمة الألم»، حول ناديا تويني. «أيّها البلد، أنا أهديك الموت»، من إحدى قصائدها. يقول: «ناديا، أتخيّلها شابّة مارونيّة جميلة، كما قالت لي الصور. لا صورة لناديا على فراش الموت، ولا لقطة لها في أيّامها الأخيرة. ماتت طازجة كعروس مزفوفة إلى أمير الفرح. جبران كذلك مات في نضارته وعنفوان نهاره. أخوه مكرم مات بلياقة تُكابر طيش الموت فاصطدم به. أختهما أيضاً. هل كانوا ينفّذون وصايا الأمّ الشابّة الصغيرة؟
«(...) الآن لا تهمّ قراءتي لسيرة العائلة ولا اكتشافي نسب ناديا للبيت الدرزي العتيق (...) أحبّ ناديا ويكفي، وأحبّ نبوءاتها: أن نتعلّم بعيوننا كيف نغفو في الحلم، ولكن أن نعرف كيف لا نخيف الموت».
هذا الكاتب قريب، قريب جدّاً، كأنّه لم يكن إلّا بيننا.
--------------------------------------------------------------------------------
■ هوارد هيوز
نوعان من «الغرباء»: واحدٌ مرتاح في ممارسة غرائبه إلى حدّ يحمل معه الآخرين على تقليده، ممّا يكدّره ويكرّهه بنفسه، وآخر مضطرب مشوّش في ممارسة غرائبه ممّا ينفّر منه الآخرين ويزيده اغتراباً.
قصّة حياة الملياردير الأميركي هوارد هيوز (مثّل دوره في السينما ليوناردو دي كابريو واضطلعت كيت بلانشيت بدور زوجته الممثّلة كاترين هيبورن) مثالٌ لبعض عذابات أفذاذ المشاهير. زعيم الطيّارين، منتج النجوم، بطل مغامرات المال والعشق بنحو عبقريّ أخرق، راءٍ في الأعمال، موسوس نظافة حتّى الجنون، لم تبق أسطورة إلّا ألصقت بهذا الرجل الذي صنع شهرة المشاهير وكان يخاف الحشود ويهرب من المصافحة. مَثَل هوارد هيوز كان وما زال يطرح للجدل مسألة جدوى النجاح وجدوى الثراء وجدوى النبوغ. كم منّا يستطيع القول إنّه صادف مشهوراً أو متفوّقاً أو مليارديراً أو عبقريّاً هانئاً في حياته؟
إذا لم يُصَب في أحبّائه أو في صحّته أو سمعته أصيب في شخصيّته، فإذا بأشباح الميكروبات تسمّم علاقاته وتنتهي بإطاحة عقله.
ما الذي يجرح بلّور التميُّز؟ ما الذي يثقب جناح الصعود؟ ما الذي يعيد الطائر المحلّق إلى الحضيض؟
مَن أنتِ أيّتها العين؟
لماذا الكائنات مرصودة بلا رحمة؟
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد