تركيا من خلف الأبواب
كم هي ثاقبة تلك الملاحظة اللماحة التي أطلقها أحد المفكرين يوماً ما، من أن الجغرافيا هي تاريخ ثابت، بينما التاريخ هو جغرافيا متحركة.
وهذه الملاحظة تبدو دقيقة أينما ألقينا النظر على جغرافيا الكرة الارضية، وحيثما تنقلنا بين العصور التاريخية المتعاقبة.
وعلى هذا الأساس، فقد مثلت الحدود الشرقية الشمالية للوطن العربي، حيث يقع التماس السوري - التركي، والحدود الغربية الشمالية للوطن العربي، حيث يقع التماس بين المغرب واسبانيا، المنفذين الاستراتيجيين التاريخيين بين أوروبا من جهة، والعالم العربي من جهة ثانية، حيث يمكن من خلالهما مراقبة حركة التاريخ في الفضاء في تضاريس الجغرافيا، في تفاعل متواصل عبر التاريخ، ذهابا وايابا، في العصور القديمة كما في يومنا هذا.
وعلى سبيل المثال، فقد شهد المعبر الغربي الشمالي، في المضيق البحري الواقع بين المغرب واسبانيا (والذي حمل في ما بعد اسم جبل طارق، نسبة الى طارق بين زياد) الاندفاعة التاريخية الجارفة التي اندفعت فيها حركة بركان الفتوحات العربية، نحو الجزيرة الايبيرية (اسبانيا والبرتغال اليوم) لتؤسس للعرب وجودا تاريخياً حاسماً في الأندلس، التي تحولت الى مرجل للتفاعل الحضاري والثقافي ثمانية قرون متصلة.
كذلك، فقد شهد في ما بعد الممر الشرقي الشمالي أكثر من حركة، ذهابا وإيابا، اندفعت إلينا فيها من أوروبا جحافل الحملات الصليبية، التي تحكمت في مصير المنطقة قرنين كاملين من الزمن، كما اندفعت في ما بعد، من الممر نفسه، في حركة مضادة، (وفي تزامن غريب مع نهاية العصر العربي في الاندلس) اندفاعة الامبراطورية العثمانية، بعد اشتداد عودها وضمها الى إطارها أقاليم الوطن العربي، تمارس نفوذا في المناطق الاوروبية (البلقان وجوارها) طوال قرون اربعة، حتى مطلع القرن العشرين.
لكن يبدو ان نتائج الحرب العالمية الاولى، قد وضعت حدا لهذا الحراك المتدافع عبر القرون، غربا وشرقا.
اذا انتقلنا الى المرحلة الراهنة، فبإمكاننا ان نلاحظ، انه ما ان تراجعت الاندفاعة التركية اليائسة نحو الانضمام الى أوروبا، وتسلم الاسلاميون الحكم في تركيا الاتاتوركية، بعد عمليات كر وفر متعددة، حتى تحول الاندفاع التركي، من الاندفاع من الجنوب الى الشمال، الى الاندفاع من الشمال الى الجنوب، في حركة لم يتردد كثير من المحللين الاستراتيجيين في الشرق والغرب، من تسميتها بشهية لدى الاتراك للعودة الى شكل جديد من اشكال عصر الامبراطورية العثمانية، حين كانت المنطقة العربية موقع نفوذ تركي هام وثابت.
ان بالامكان مراقبة نتائج تلك الشهوة التركية المتجددة، في حدثين متلاحقين متكاملين:
1- التصرف التركي إزاء اسرائيل في تفاصيل القضية الفلسطينية.
2- التصرف التركي في التفاصيل السكانية والسياسية والعسكرية للأزمة السورية المحتدمة.
في الموضوع الاول، فإن الشعبية التي اكتسبها رجب طيب اردغان لدى الجماهير العربية، اثر مواجهته للرئيس الاسرائيلي، وأحداث الاسطول التركي المتوجه لكسر حصار غزة، قد تمخض في النهاية عن تدخل اميركي رئاسي أدى الى اكتفاء الاتراك بقبول اعتذار لفظي من نتنياهو.
ومع ان اردوغان عاد فربط بين تطبيع كامل للعلاقات مع اسرائيل، وبين فك الحصار على غزة، غير ان ذلك - على أهميته - يؤكد ان تركيا غير مستعدة للذهاب بعيدا في مواجهة اسرائيل في أساسيات القضية الفلسطينية.
أما في المسألة الثانية، فقد كشفت تركيا في تفاصيل تصرفاتها على حدودها مع الشمال السوري، ان الحكم على التصرفات التركية هو بالفعل - وليس بالقول - رغبة في استعادة شيء ما من العصر العثماني، في وقت يمكن للأزمة ان تتدهور فيه فتؤدي الى تفكك الوحدة الجغرافية السورية. ويلفت النظر في ذلك الرعاية التركية لعملية تدمير منظم لكل نواحي الازدهار في عاصمة سوريا الشمالية، حلب، الامر الذي فسره البعض بأنه تنفيس عن حقد تركي تاريخي، على ازدهار حاضرة حلب.
على أي حال، فإن الاوضاع الحالية على الممرين الاستراتيجيين للوطن العربي: الغربي - الشمالي، والشرقي الشمالي، تبدو وكأن الاستسلام الكامل للانظمة العربية الراهنة، للنفوذ الامبراطوري الاميركي، قد جعل هذين الممرين، وأي ممرات اخرى، في منطقة النفوذ الدولية للامبراطورية الاميركية. لكن لذلك قصصا أخرى.
إلياس سحاب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد