مصر: وكيل نيابة يحكم بجلد مواطن وتكفير ضابط
كان محمد عيد (30 عاماً) عائدا إلى قريته التابعة لمركز قطاي في محافظة المنيا (241 كيلومتراً جنوب القاهرة) مستقلاً سيارة أجرة قادته من قرية مجاورة، بعد مشاركته في أحد الأفراح الشعبية التي ينتشر فيها عادةً شرب البيرة.
محمد عيد، الذي يعمل موظفاً في نقابة الموسيقيين في المنيا، استوقفه «كمين» شرطة تقليدي. أحد الضباط ارتاب في أمره، واستشعر أنه في حالة سكر، فألقى القبض عليه، وأحاله على قسم الشرطة في مدينة مطاي، باعتبار أن القانون المصري يعاقب من تظهر عليه علامات السكر في الطريق العام.
قضى عيد ساعات عدة محبوساً في قسم الشرطة، وصباح أمس الأول تم تحويله، كما هو معتاد إلى النيابة للتحقيق.
مثل هذه الحوادث لا تستغرق عادة إلا دقائق، بعدها يأمر وكيل النيابة الذي يقوم بالتحقيق إما بحبسه على ذمة التحقيق لمدة لا تزيد عن أربعة أيام، أو يخلي سبيله بضمان محل إقامته.
لكن وكيل النيابة حسين عيد (24 عاماً) لم يفعل هذا أو ذاك، بل اتخذ منحى غير مسبوق في تاريخ رجال النيابات في مصر، فبعد ثلاث ساعات كاملة من التحقيق أصدر القرار التالي: «يكلف أحد السادة الضباط توقيع حد شرب الخمر على المتهم، وهو ثمانين جلدة وفقا لما جاء في الآيتين رقم 90 و91 من سورة المائدة، وما ورد في الشرع من اعتبار حد شرب الخمر ثمانين جلدة».
ولم يكتف وكيل النيابة بهذا القرار، بل أضاف عليه «وفي حالة تنفيذ ذلك يخضع المأمور المكلف بذلك لنص الآيات 44، 45 ،47 من سورة المائدة في كتاب الله عز وجل». وتنهي الآيات المذكورة بقوله: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، أي أن وكيل النيابة أصدر حكمين: الأول على المتهم بالجلد، والثاني على ضابط الشرطة إذا رفض تنفيذ الحكم... بالكفر.
حكم الجلد لم ينفذ، ووكيل النيابة تم وقفه عن العمل، وأحيل إلى التفتيش القضائي للتحقيق معه، لكن الدلالات المروعة للقصة أكثر من أن تقف حدودها عند ذلك.
أحمد شبيب، وهو محامي ومسؤول مركز حقوقي في المنيا، يكمل القصة قائلا: «المثير في قرار وكيل النيابة الغريب، أن حدث بينه وبين مدير النيابة (رئيسه المباشر) خلاف حول القرار، وعلى إثر ذلك، قام وكيل النيابة بتسليم القرار إلى أحد ضباط الشرطة، وأمره بأن يتوجه إلى مأمور قسم شرطة مطاي، لكن الأخير استغرب، أولاً، لأنه ليس جهة تنفيذ أحكام، ولأن وكيل النيابة ليس جهة إصدار أحكام. لكن القرار اسقط في يده، ولم يكن أمامه سوى أن يتصل بمدير أمن المنيا، الذي اتصل بدوره بالمحامي العام لنيابات المنيا، والذي أصدر قرار شفوياً وفورياً بعدم تنفيذ العقوبة».
ربما كان الأمر سيقف عند هذه الحدود، لكن نشطاء «فايسبوك» نشروا على حساباتهم الشخصية، صورة من قرار وكيل النيابة، فوجود النائب العام المستشار طلعت عبد الله - الصادر بحقه حكم قضائي ببطلان تعيينه في منصبه - نفسه جعله مضطرا إلى التدخل، والإعلان من خلال المتحدث باسمه إحالة وكيل النيابة إلى هيئة التفتيش القضائي، وإن كان السبب ليس للتحقيق معه وإنما «لمعرفة النص القانوني الذي استند إليه لاتخاذ قراره».
شبيب الذي أصبح الآن محامياً عن المواطن الذي كاد أن يجلد، يقول إنه لا يوجد أي نص قانوني يتيح لوكيل النيابة إصدار هذا القرار، خاصة أن النيابة العامة سلطة ادعاء وتحقيق، وليست سلطة إصدار أحكام بالأساس، مؤكدا أنه لا يوجد أي نص في قانون العقوبات أو تعليمات شفوية من النيابة تجيز أو تبرر ما حدث.
ورأى ان هذا القرار لا يطابق صحيح القانون وأن وكيل النيابة اغتصب من خلاله سلطة القاضي. وأشار إلى ان وكيل النيابة لم يرتكب أخطاء قانونية فحسب، بل أخطاء شرعية، لأنه لا يوجد نص قرآني يحدد عقوبة شارب الخمر بثمانين جلدة، هذا إذا ثبتت التهمة بالأساس على المواطن.
هل بدت ميول متشددة على وكيل النيابة من قبل؟
حداثة عمره وعمله، وتخرجه للتو من كلية الحقوق، بالإضافة إلى كونه، بحكم القوانين المنظمة للعمل القضائي، يعمل خارج مسقط رأسه، جعل الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لكن المحامي الحقوقي يؤكد أن «لديه ميولاً سلفية قطعاً... هذا واضح، لكنها حتى ميول سلفية قائمة على تفسير خاطئ ومسيء لآيات القرآن».
ولكن أين القانون في كل هذا بالأساس؟
القضية أثارت، حالة سخط، وغضبا قانونيا وحقوقيا متوقعا، ذلك أن هناك سابقة وقعت في الثمانينيات، حينما أصدر قاض حكما مماثلا بجلد أحد المتهمين. وبالرغم من أن القرار هذا أيضا لم ينفذ، إلا أنه خرج في مناخ انتعش فيه التطرف الديني في مصر وتسلل إلى الكثير من الفئات، وتحول إلى عنف مسلح، وهو أمر يخشى أن يتكرر ثانية، خاصة أن واقعة المنيا الأخيرة جاءت بعد أيام من تظاهرات حاشدة نظمها «الإخوان المسلمون» ضد القضاء، وطالبوا فيها بما سموه بـ«تطهير القضاة».
وقال مدير «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» جمال عيد أن القرار الوحيد المناسب للواقعة هو عزل وكيل النيابة من منصبه فورا، لا أن يخضع لتحقيقات لا أحد يعلم مصيرها.
واضاف عيد ان العزل يستند إلى أن وكيل النيابة خرق القانون، وأصدر قراراً لا علاقة له بأي نصوص قانونية، بل غَلَّبَ آراءه ومعتقداته الشخصية على القانون، وجاءت نتيجة ذلك سلبية وبشكل مباشر على حقوق وحريات أحد المواطنين.
الشبكة العربية نفسها قالت في بيان لها أمس: «إن الواقعة وإن كانت تمثل سلوكا فرديا من وكيل نيابة ، فإن الأخير اعتمد على الدستور الجديد - الذي مرره «الإخوان» وسط رفض من القوى المدنية - الذي يسمح بالاعتماد على نصوص الدستور كمصدر مباشر للعقوبات، وهو ما يسمح لأعضاء السلطة القضائية بالتوسع في فهم وتفسير هذه النصوص كما يشاؤون مطبقين عقوبات لم يتم تشريعها من خلال المجالس التشريعية، وإنما يستقونها من نصوص الشريعة بشكل مباشر، لأن الدستور ينص على كونها مصدرا للتشريع وبالتالي فهي مصدر للتجريم والعقاب».
محمد هشام عبيه
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد