«صديقي الأخير» لجود سعيد.. الألفة في زمن الدم
يبتعد المخرج السوري جود سعيد في تجربته السينمائية الثانية عن التفكير بالسينما على طريقة رواد هذا الفن في بلاده، ففي سيناريو فيلمه الجديد «صديقي الأخير- كتبه بالشراكة مع الفارس الذهبي» تتخلص اللغة السينمائية من نمطيتها المعهودة وكوادرها المكررة في أفلام القطاع العام، نحو رواية بصرية خالصة، فالحكاية التي يبرمها كل من «سعيد والذهبي» بين رجل ميت «الطبيب خالد - عبد المنعم عمايري» و«محقق - يوسف - عبد الطيف عبد الحميد» شكلت بنية قوية لحبكة الفيلم - «افتتح عروضه في الخامس من حزيران الجاري في صالات كندي دمشق وطرطوس واللاذقية»، فالقصة هنا تأخذ شرعيتها من شريط فيديو تركه «الطبيب خالد» بُعيد انتحاره ليلة رأس السنة؛ راوياً فيه حكايته «لصديقه الأخير»، لنكتشف أن هذا الطبيب قام بقتل زوجته الفرنسية «إميلي - عائشة بن أحمد» بعد يأسه من علاج مرضها العضال، مما يقوده في النهاية إلى مصيره الأخير منتحراً بطلقة مسدس في رأسه؛ حبكة مشوّقة يخطها الفيلم على امتداد ساعتين من الزمن، وذلك وفق إطلالات متنوعة على مجتمع العاصمة السورية قبيل 15 آذار 2011، لكن المباغت هنا هو الدخول إلى كواليس المؤسسة الأمنية، ولا سيما ما يكتنف هذه المؤسسة من علاقات مافياوية وفساد بالجملة، ليصطدم «المحقق يوسف» بها، بعد أن يكتشف أثناء بحثه الجنائي شبكة من تحالفات رجال الأعمال وصفقاتهم المشبوهة، فينجح هؤلاء في نهاية المطاف بكفّ يدهِ عن التحقيق في القضية، وإبعاده نهائياً عن الخدمة.
يمضي الفيلم - «إنتاج مشترك بين مؤسسة السينما وشركة فردوس دراما»- قُدماً في تمرير لحظات عالية من الألفة الشعبية السائدة ما قبل الأزمة، وذلك عبر شخصيات الحي الذي تقطن فيه شخصية الفيلم الرئيسية، من هنا نتعرف إلى شخصيات ملقاة في عراء الحارة الشعبية، تعيش تعاستها بخير على هامش يوميات مدينة تغفو على صفيحٍ ساخن، شخصيات تبدو أقل حضوراً إزاء شخصيتي «المحقق والطبيب»، لكنها مؤثرة وفاعلة في تطوير الحدث، وشكلت متكئاً لصاحب «مرةً أُخرى» للنفاذ إلى ذهنية سكان مدينة بحجم دمشق؛ شخصيات ترفض الظلم والإهانة، لكنها تذعن لواقعها، تُذعن لقبضة السلطة الأمنية، تواربها، لكنها هنا لا تبوس يدها وتدعو عليها بالكسر، بل تقف في وجهها صارخة بنخاعها الشوكي في مشهد قتل عشيقة أخو البطل»، أدت الدور الفنانة لورا أبو أسعد»، فيما تدمج كاميرا «سعيد» مصائر هذه الشخصيات بمشاهد من مباراة كرة قدم للمنتخب السوري مع فريق السعودية، لتغدو الخسارة في الملعب بحجم الخيبة الجماعية، التي ترخي بظلالها حتى على الطفلين «جبارة وماريا»، اللذين يصران على تأهل منتخب بلادهما إلى نهائيات كأس العالم بالبرازيل. من هنا تتأهل المأساة السورية مع بداية ثورة الياسمين في تونس، وهروب بن علي ومقتل بن لادن؛ نحو علاقة يبرمها سيناريو «صديقي الأخير» بين المحقق و«ماريا» الطفلة المتبناة ابنة الطبيب المنتحر وزوجته الميتة على طريقة القتل الرحيم، موضوع كان سيطرح جدلاً واسعاً لولا مصادرة العنف العبثي الدائر على الأرض السورية على لحظة التلقي، فالجمهور في مكانٍ آخر اليوم، إلا أن «سعيد» يفلت في آخر مشاهد الفيلم من هذا المأزق عبر مشهد مفاجئ، متوجاً خاتمته عبر علاقة «المحقق يوسف» بالطفلة «ماريا» حين يقرران الترجل من سيارة الدولة المعطلة ذات الموديل السبعيني، ليتابعا الطريق نحو قرية المحقق مشياً على الأقدام؛ إشارةً لجيل أبناء يأخذ بيد آبائه مخلصاً إياهم من ربقة السجون والمعتقلات الجماعية، نحو سماء طفولية ترفض الظلم بالفطرة؛ وذلك عبر أداء لافت للفنان عبد اللطيف عبد الحميد الذي قدمه جود سعيد بعيداً عن صفته كمخرج سينمائي، لنراه هنا ممثلاً فريد الأداء لشخصية ضابط أمن يلعب الغميضة مع طفلة مات والداها على الطريقة الأميركية!
سامر محمد إسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد