إدارة أوباما تجتر «أكاذيب باول»
أخيراً، تبيّن للبيت الأبيض أن سوريا تجاوزت «الخطوط الحمر». مساعد مستشار الرئيس باراك أوباما للأمن القومي بن رودس، أعلن أن أجهزة الاستخبارات توصلت إلى أن دمشق استخدمت، عدة مرات عام 2012، غاز السارين في المواجهات، مما أدى، من جراء كل تلك الحوادث، إلى مقتل 100 إلى 150 شخصا. وبناءً عليه، قرر الرئيس ، تزويد المعارضة السورية بالسلاح.
إدارة الرئيس الأسود، تستلهم حفلة الأكاذيب الشهيرة التي أحياها وزير خارجية بوش الصغير، كولن باول، حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، ولم يمر عليها، بعد، سوى عقد واحد.
لا تزال أكاذيب باول طازجة، وقد انكشفت بالكامل في أعقاب الحرب على العراق، وبانكشافها، وتحوّلها إلى أمثولة، تمكن أوباما من هزم الجمهوريين والفوز بالمنصب الرئاسي، لكنه، اليوم، يقيم، بدوره، حفلة أكاذيب، حول الأسلحة الكيميائية السورية.
التاريخ يعيد نفسه على شكل مهزلة؛ فأين تصريحات البيت الأبيض الخجولة، كأنها تسريبات، حول الكيميائي السوري، من ذلك العرض الدرامي المشحون، والمدعوم بوسائل الايضاح، وبالصور ـ ولو المفبركة، والبلاغة، الذي قدّمه باول؟ كانت الولايات المتحدة، وقتها، لا تزال القطب الوحيد في السياسة الدولية؛ لا تأبه بمجلس الأمن الدولي، ولا تحسب حسابا لروسيا أو الصين، وتؤمن بالحرب، وتقدر، سياسيا وشعبيا واقتصاديا، على خوضها، لكنها الآن، أسدٌ مثخن بجراح استراتيجية، لا ينفع معها دواء «الأسد المتأهّب» الذي يعرف الجميع سرّه، فهو بلا أسنان.
في الوقائع التاريخية للعقد الماضي، الحافل بالتغيرات الكبرى، هُزمت القوات الأميركية في العراق، واضطرت إلى انسحاب غير مشروط، وأخذت معها، في طريق الانسحاب، قتلاها الخمسة آلاف وجرحاها المعطوبين الستين ألفا، وخسائرها المادية والمالية والسياسية والمعنوية، لتتوصل إلى طيّ صفحة التدخل العسكري المباشر في أي مكان. حتى مطاردة رجال «القاعدة» انحصرت بالطائرات من دون طيّار؛ إنها «عقدة العراق»، الجاثمة في مفاصل المؤسسة الأميركية، وعلى وعي الأميركيين. وبينما كانت «عقدة العراق»، تتشكّل، أُصيب اقتصاد الرأسماليات الغربية، بهزّة أزمة عميقة، لا تزال آثارها تتفاعل. وهي لا تحتاج إلا إلى التورّط في حرب طويلة جديدة، لكي تنفجر الأزمة مجددا وتخرج عن السيطرة، في أميركا وبلدان الرأسمالية الغربية وتوابعها.
«تلفيقات» بن رودس، حسب الروس، تعرب عن حنين لاستعادة حقبة بوش الصغير، لكن من دون القدرة على تحمّل نتائجها؛ إنها مجرّد أكذوبة صغيرة، تهدف إلى تحقيق هدف صغير: الإعلان عن تسليح المعارضة السورية، لكن ما هي ردود فعل الولايات المتحدة على تجاوز السوريين لـ «الخطوط الحمر»، فهي تشبه فذلكات مسؤول من العالم الثالث. إدارة أوباما سيكون لديها، حسب بن رودس، سلسلة من «الردود القضائية والمالية والدبلوماسية والعسكرية الأخرى المقترحة»! ولكن، ليس من بينها ما تبجح به مسؤولون أميركيون مجهّلون في تركيا، حول إقامة منطقة حظر طيران في جنوب سوريا، بالقرب من الحدود الأردنية. فرنسا تشتهي منطقةً كهذه، لكنها تستدرك، في بيان لخارجيتها، بالقول إن إنشاء مثل هذه المنطقة مرهون بقرار مجلس الأمن الدولي، حيث الفيتو الروسي الصيني. بريطانيا هي الأخرى تشتهي الحرب، وتبارك لأوباما كذبته الكيميائية، وتحرّض، كعجوز حاقدة، على التصعيد، لكن قائد الجيش البريطاني، ، يحذّر البريطانيين، في الوقت نفسه، «من الفشل في الحروب، بسبب الاقتصاد»!
كذبة الكيميائي، ليس أصغر منها سوى كذبة تسليح المعارضة السورية؛ أفكلّ هذا السلاح النوعي الحديث لدى المعارضة السورية ـ وقد كُشف عن كميات كبيرة منه في «القصير» بعد سيطرة الجيش العربي السوري عليها ـ جرى تهريبه إلى سوريا من دون علم الولايات المتحدة، وموافقتها، واشرافها؟
كانت واشنطن، ولا تزال، في صلب الجهود الاستخبارية والتسليحية والتدريبية والأمنية والعسكرية والاعلامية لعملية اسقاط النظام السوري، الجارية منذ أكثر من سنتين. وهي كانت على اطلاع كامل على تنامي قوة جبهة النصرة الإرهابية، وتحوّلها إلى عامل رئيسي في الجهد القتالي للمعارضة السورية، لكنّ الجديد أن واشنطن تريد تسييس نشاطاتها العدائية في سوريا، أولاً من أجل ضبط التفاوض مع روسيا، وثانياً من أجل ضبط حركة حليفيها المتورطين حتى النخاع مع القوى الإرهابية، تركيا وقطر.
أكذوبتان صغيرتان من أجل كذبة صغيرة ثالثة يضعها أوباما على طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لدى لقائهما المنتظَر في 28 و29 حزيران الحالي على هامش قمة الثماني الكبار؛ فلقد خسر أوباما، منذ اتفاق جون كيري ـ سيرغي لافروف، ورقتين هما التوازن العسكري الذي كان قائما بين النظام السوري والجماعات المسلحة، وتفكك المعارضة السورية، الظاهر، بصورة كاريكاتيرية، في عجزها عن تأليف وفد إلى «جنيف 2». وتسعى واشنطن إلى تعديل هذين الموقفين بحزمة من الإجراءات الميدانية والسياسية، وهي:
أولاً، تظهير موقفها السياسي كراعية قيادية للمعارضة السورية، وإعادة ترتيب آليات تزويدها بالسلاح والدعم المالي والاستخباري في إطار مركزي مباشر، يحد، في الآن نفسه، من المداخلات التركية والقَطرية، ويحجّم أو يستوعب جبهة النصرة في إطار الجيش الحر، بعد إعادة هيكلته.
ثانياً، وفي هذا السياق، تتجه واشنطن، أقلّه، إلى ترْك المعارضة التركية تشلّ السلطان العثماني المغرور، رجب أردوغان، لكنها، في قطر، حيث يمكنها أن تحسم استخباريا، تتجه إلى إقصاء الحمدين، الأمير ورئيس وزرائه، وتسليم السلطة إلى ولي العهد تميم، المنخرط كليا في الجهود الأميركية المضبوطة في سوريا.
ثالثاً، بالنظر إلى إغلاق الحدود اللبنانية بعد معركة القصير وتوابعها، ووضوح الانحياز العراقي إلى محور المقاومة، والرغبة في تلافي الاستخدام الكثيف للحدود التركية الواقعة تحت نفوذ جماعات إرهابية وسياسية متنوعة ومتعارضة، فإن الجهود الأميركية لإعادة هيكلة المعارضة السورية، سوف تتركّز على الحدود الأردنية الصافية من المؤثرات الإقليمية والإرهابية غير الموالية كليا للولايات المتحدة. وتقدم المناورات السنوية الدورية المسماة «الأسد المتأهّب»، فرصة ثمينة لترتيب اللوجستيات العسكرية على الأراضي الأردنية، في هذا التوقيت بالذات، بما في ذلك إبقاء منصات صواريخ باتريوت وطائرات الإف 16 وطواقمها على الحدود الأردنية السورية، لتظهير رسالتين: (1) التلويح برأس جسر متوافر للتحشيد اللازم لإنشاء منطقة حظر جوي في جنوب سوريا، (2) والتلويح لمحور المقاومة بأن التدخل بواسطة الحدود الأردنية، محمي أميركيا.
الأردن، إذاً، هو البديل الاستراتيجي الذي يملكه الأميركيون لتحقيق الهدفين معا: ضبط المعارضة السورية سياسيا، وزيادة فعاليتها وقدرتها على لجم عاصفة الجيش العربي السوري؛ فهل يستطيع الأردن تحمّل مثل هذا العبء؟
يقرّر الواقع الأردني، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الإجابة بالنفي عن هذا السؤال؛ (1) فالمجتمع الأردني ـ المنشق على نفسه حول الموقف من النظام السوري، انشقاقا له تأثيراته العميقة داخل الدولة وأجهزتها، يكاد يكون مجمعا، باستثناء الإخوان المسلمين والسلفيين، على رفض التدخّل الأردني أو عبر الأردن في سوريا، (2) والاقتصاد الأردني المنهَك ليس قادرا، حتى مع المساعدات، على تحمّل أعباء التدخل في سوريا ومآلاته غير المتوقعة على المستوى الأمني، (3) والدولة الأردنية التي تعرضت، خلال السنتين الأخيرتين، إلى تفكك حضورها وهيبتها، لم تعد قادرة، إلا في أضيق الحدود، على استيعاب انفجارات اجتماعية سوف تسمح بها الأوضاع المستجدة من الفوضى، (4) والفوضى هي العنوان الذي تخشاه المؤسسة الأمنية والعسكرية، باعتباره مجالا لتوطن الإرهاب والإرهابيين في البلاد. وهناك عوامل أخرى، تجعل من اعتماد الولايات المتحدة على الحليف الأردني في محاولة تغيير المعطيات السورية، بلا طائل.
ناهض حتر: الأخبار
إضافة تعليق جديد