فاتح جاموس يقدم جردة حساب سورية: كيف تشكّل المستنقع؟
الآن، بعد ما يقرب سنتين ونصف سنة على اندلاع الأزمة السورية، يجب علينا أن نتوقف للقيام بجردة حساب لهذه الأشهر الطويلة الدامية، والمرشحة للاستمرار من دون أفق.
الثمن باهظ جداً، ونرصد، أولاً، نتائج الكارثة السورية، كالآتي:
1ــ مقتل أكثر من مئة وخمسين ألفاً، وإصابة ضعف هذا الرقم بإصابات خطرة ستترك آثاراً تدميرية في أكثر من ميدان. وكل التقديرات تشير إلى أنّ الرقم أعلى من ذلك؛ فالجميع لا يذكر الأرقام بدقة بسبب الحاجات التعبوية.
2ــ تشريد ما يقارب ستة ملايين، تركوا مدنهم وبيوتهم قسراً، مع كل الدمار المخيف والمفترض أنه أصاب ممتلكاتهم، منهم أكثر من أربعة ملايين داخل الوطن السوري يبحثون عن الأمان من مكان إلى آخر، والباقون في دول الجوار ليسوا أحسن حالاً، وتمارس عليهم شتى أشكال الابتزاز، وملايين أخرى يحاولون الهجرة واللجوء بأشكال مختلفة من دون فائدة.
3ــ غياب مطلق للأمان على كامل الجغرافيا السورية، وخصوصاً في المواقع القتالية، وهي تشمل نحو نصف الوطن. كل الأقليات الطائفية في خطر، ولا أحد يستطيع التقدير أين سيكون القتال والموت والدمار والهجرة بعد ساعة واحدة. وقد دمّر غياب الأمان، الدورة الاقتصادية، إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، وجعل أهم الموارد الاستراتيجية خارج المركزة وخارج نطاق الحسابات الاقتصادية الأساسية، جعلها في يد الفوضى (مثال الوضع المأساوي لمنطقة الجزيرة السورية: نفطاً وقمحاً وقطناً ومياهاً).
4ـــ انزياح عميق في الوعي الوطني لمصلحة التدخل الخارجي.
5ــ تقدم العصبيات المتخلفة، وخاصة الطائفية.
6ــ انقسام شعبي ومجتمعي إلى ثلاث كتل، اثنتان منها إلى جانب طرف من طرفي الصراع العنيف، وكتلة ثالثة تتزايد على حساب الأخريين، وهي الأغلبية التي رفضت الاستقطاب، وتريد الخروج السلمي والآمن من الأزمة.
7ــ انقسام عميق، مخيف وغير عقلاني على مستوى النخب السورية، السياسية والثقافية والفكرية، بل حتى الفعاليات الاجتماعية والشعبية. انقسام داخل الصف الحزبي والإطار التحالفي الواحد، داخل الخط الفكري الواحد من الماركسيين، القوميين، العلمانيين، الإسلاميين... إلخ. انقسام على الوضع القائم في سوريا، في الصف الواحد تجد كل أصناف النخبة، وربما وجب اعتبار هذه الواقعة مؤشراً بالغ الخطورة على مديات التفتت المجتمعي.
8 ــ تدخل خارجي لا مثيل له في تاريخ سوريا، مباشر وغير مباشر، سياسي، دبلوماسي، عسكري، اقتصادي ومالي، إعلامي، واستقطاب شديد في علاقة الخارج بالداخل إلى درجة الارتهان الشديد للخارج في أهم التطورات وحركتها، وكذلك الخروج من الأزمة، ووصل الأمر حد وجود مرتزقة بأعداد هائلة.
9ــ سعي هائل من قبل صف المعارضة المسلحة (بالتغاضي عن خلافاته) والصف الخارجي الذي يدعمه من أجل تدمير الدولة بتدمير أهم مؤسساتها، أي الجيش، وكذلك مجموع المؤسسات الخدمية الأساسية. وهذا يدفع أكثر فأكثر نحو تعميق الانقسام الوطني، والاتجاه نحو الانزلاق إلى أشكال أكثر اتساعاً من الحرب الأهلية الطائفية.
10ــ ومن الأشهر الأولى جاءت العقوبات والحصار الاقتصادي باسم الضغط على النظام، لكنها خنقت فقط الكتلة الشعبية الواسعة والفقيرة. وأخيراً استمر اللعب الخارجي بالدورة الاقتصادية السورية بقسمها إلى دورتين كبيرتين، واحدة في مناطق المعارضة المسلحة برفع العقوبات والحصار عنها، بالاتصال الخطر والمفتوح على الوضع التركي المنحاز، والثانية في مناطق استمرار وجود السلطة والدولة بالمحافظة على العقوبات واللعب بعلاقة الليرة ــ دولار. ومع الأداء الحكومي الضعيف في هذه الأزمة المعيشية الإضافية الخانقة، يصبح الوضع مفتوحاً في حال استمراره على فوضى مخيفة.
هل هي ثورة؟
ليست، بالطبع، ثورة اجتماعية ــ طبقية، أو ثورة عدالة اجتماعية في أي مستوى، لا راديكالي شيوعي، ولا اشتراكي قومي، ولا ثورة فقراء المجتمع السوري بلا تعيين. فلم أقرأ أي نص بذلك المعنى، وإذا حذفنا كل اللغو المضاف على تعبير «الثورة» السورية، كالكرامة السورية الإنسانية، أو ثورة المهمشين، أو ثورة المقموعين من النظام...إلخ، سنجد أنفسنا، منهجياً، في إطار الحوار في ما يمكن أن يكون «ثورة ديموقراطية»، فهل هي كذلك؟
1ــ لم يبق الحراك الشعبي الواسع، والسلمي بداية، طويلاً حتى استقر على محور طائفي، ولم تفد بشيء عملية اشتراك بعض النخب بانتمائها المتنوع في ذلك الحراك. فبقي قاصراً على جزء من طائفة، واستقرت دوافعه الرئيسية على الشحن الطائفي، ليترك بذلك حقلاً طائفياً وآخر مضاداً، ولتمتنع بقية طائفة الأكثرية والفئات والأقليات من الاشتراك الشعبي، حذراً من تلك السمة، حذراً من العنف الذي بدأ يتقدم سريعاً بحماية بعض البيئات الحاضنة في الحراك ورفضاً له، حذراً من دور بعض أطراف الخارج (تركيا بنحو خاص والخليجيين والصف الأميركي)، ورفضاً لذلك الدور، وليس خوفاً من النظام؛ إذ كانت المدن السورية قد تجاوزت عتبة الرهاب في مواجهته. كتلة الحراك الاجتماعية غير متوازنة ديموغرافياً بالمعنى الوطني، ذات طابع طائفي، غير قادرة على جذب كتلة متنوعة، متعددة الانتماء الوطني، هي كتلة غير ثورية من منظور الثورة الديموقراطية، وغير قادرة أبداً على احتضان ثورة ديموقراطية، ولكنها قادرة على احتضان قوى دينية وطائفية، غير سلمية، عنيفة وغير ديموقراطية، وهذا ما حصل، وهو قائم الآن.
2ـــ في الواقع الطبقي ــ السياسي ــ التاريخي، يمكن، بصورة استثنائية جداً، أن تحصل ثورة ديموقراطية من دون أي طرف أو فئة بورجوازية، وذلك بتطابق الثورتين الاجتماعية والديموقراطية بقيادة البروليتاريا، وباعتبار أننا لسنا إطلاقاً وللأسف الشديد بصدد هذا الاحتمال في سوريا، وهكذا فمن الصعب أن تحصل ثورة ديموقراطية، من دون اصطفاف جزء من الفئات البورجوازية في جانب «الثورة». في موجة صراع الإخوان المسلمين مع النظام (سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته) وبحسب تحليلات حزبنا، حزب العمل الشيوعي، كانت البورجوازية التقليدية، السوق التقليدي، في صف الإخوان. الآن كل الفئات البورجوازية في صف النظام، وخاصة الحلبية والدمشقية. والذي ليس منها في صف النظام، فهو ليس مع المعارضة المسلحة ولا مع وسائلها أو استراتيجيتها. هذا لا يجعل النظام، بأي شكل، ديموقراطياً، بل يجعله، من منظور تاريخي، في سوية أرقى من ذلك المنظور الطبقي الاجتماعي للمعارضة المسلحة وجماعة «الثورة»؛ فأي ثورة ديموقراطية إذن هي في سوريا؟!
3ـــ تقدم العنف سريعاً، وتراجعت أشكال الحراك السلمية، كان ذلك شيئاً عضوياً أصيلاً في التاريخ السوري القريب، في جبل الزاوية حيث كانت حركة الإخوان والطليعة الإخوانية المقاتلة، قوية، وقبل أقل من شهرين ونصف شهر من عمر الحراك، انطلق عنف شامل، وحصلت مجزرة بدم بارد. وتقدمت أخلاق العنف في الردّ على النظام بدلاً من الإصرار على الردود السلمية والأخلاقية. وانتقل التسويغ السياسي والفكري والأخلاقي إلى جهة العنف الثوري كدفاع عن النفس، ومرت بعد ذلك فترة تزيد على السنتين ليصبح العنف الأعمى سيد الموقف، فأي ثورة ديموقراطية وسلمية هي؟!
4ــ ليس صحيحاً أبداً أن النخب السورية المعارضة اليسارية والديموقراطية بكامل طيفها قد تأخرت في الانخراط في صفوف الحراك، أو أنها لم تبذل أي جهد من أجل قيادته. بالعكس، عملت بكل طاقتها وزيادة، بل ومن البداية ظهرت على السطح، خارجياً وداخلياً، أكثر من نظيرتها الدينية المعروفة. ومع ذلك فشلت تلك النخب ليس فقط في قيادة الحراك بل حتى في خلق تأثير بسيط فيه، لا من المنظور الاستراتيجي ولا السياسي، ولا الوسائل لفرض الأشكال السلمية بدل العنف، ولا وقف التعاطي مع الخارج للتدخل. هكذا اشتغلت العناصر الرئيسية والسمات التاريخية السورية، وأعطت الحركة الدينية الإرهابية والتكفيرية قوة السيطرة والقيادة.
5ــ أي ثورة يمكن التكلم عليها، وحليفها الخارجي الدولي هو الصف الأميركي، تركيا والخليجيون والأوروبيون، والكيان الصهيوني، جنباً إلى جنب مع الصف الوهابي الجهادي المرتزق؟ هل يمكن التغاضي عن هذا العامل؟ هل يمكن ذلك الصف الاستعماري الرجعي التكفيري، أن يكون في خندق أي ثورة؟
6ــ أتساءل عن وجود أي قيمة ثورية، بل أي قيمة أخلاقية بعد تلك التكاليف الهائلة في الحدث السوري؟ إذا كان علينا أن ندين النظام أخلاقياً ـ ونحن نفعل ـ لأنه لا يوقف العنف، فأي أخلاق عند قوى «الثورة»، التي لا توقف العنف فوراً من جهتها، وتجمد أي فعل يسمح للنظام أو يبرر له هدر أي نقطة دم واحدة؟
7ــ نخب «الثورة»، وخصوصاً بعض اليساريين (ذوي الخبرة في الثورات التاريخية!) يقولون بضرورة متابعة الفعل الثوري بوسائل العنف الثورية، إنه ثمن لا بد من دفعه ضد النظام حتى إسقاطه وانتصار الثورة، أين نحن حتى الآن من الثورات والأثمان التي دفعتها الشعوب، الجزائر ثورة المليون شهيد، الثورة الفيتنامية، السوفييتية؟ مقارنات مؤسفة وخبرة تاريخية ضحلة؛ فهل يعتقد أحد حقاً أن هناك إمكانية لاستمرار ثورة من دون انتصار أو هزيمة بعد مرور أكثر من سنتين ونصف سنة على اندلاعها، هل هناك فرصة في إطار الشروط التاريخية المعاصرة والوضع الدولي لمثل ذلك؟
8 ــ الاشتراك الشعبي الواسع، الاستعداد الكبير للموت، عدد القتلى الكبير، هل يمكن أن تكون مؤشرات ثورية؟ نعم يمكن أن تكون كذلك، لكن يجب أن يستمر الاشتراك الشعبي واسعاً، وأن يضم كتلة شعبية متوازنة سكانياً ووطنياً. كل هذا تراجع في سوريا وأخذ طابعاً طائفياً وغير متوازن، بل توقف كحراك شعبي واسع أو ضيق، تحول الموضوع، أساساً، إلى مقاتلين ورفد مقاتلين. ومن جهة النظام هناك كتلة اجتماعية تدعمه ليست أبداً أصغر من الكتلة الأخرى، وتحركت ككتلة جمهور شعبي على الأرض مرات كثيرة، بل هي متوازنة وطنياً أكثر من الكتلة الأخرى. ومن حيث الاستعداد للموت، فإن موالاة النظام وأنصاره وصفه الاجتماعي ليس أبداً أقل شجاعة أو أقل استعداداً للموت من الفريق الآخر. ودفع هذا الصف ثمناً كبيراً، ولا يزال؛ فهذه ليس ميزة لصف «الثورة» فقط، مع أن بعض أهم هذه الميزات قد تراجعت أو توقفت.
9ــ لكن، أليس هناك أي شيء أو عنصر أو واقعة وأثر ثوري في كل ما حدث؟ ما هذا التجني؟ ألم يفرض الحراك ومجمل تطورات الحدث السوري على النظام أن يعيد حساباته، وأن يقدم العديد من التنازلات؟
نعم، يمكن القول إن النظام السوري أجبر على ذلك وقام بالعديد من الخطوات، التي لا ترتقي، بمجملها، أبداً إلى مستوى يتجاوز وعي إعادة إنتاج الذات، وذلك على الرغم من أن النظام، بمجمل سلوكه وخطواته الفعلية، وبشكل خاص الخطاب المتعلق بمبادرته للخروج من الأزمة، قد تجاوز كلياً المعارضة المسلحة والحراك، وأبدى استعداداً للحوار والتوافق على منظومة قانونية سياسية دستورية لتجاوز المرحلة الانتقالية، ولم يقابله الصفّ الآخر حتى الآن إلا باستمرار استراتيجية العنف وكسر العظم، ما جعل النظام يتشدد أيضاً في استراتيجيته الأساسية (العنف وكسر العظم).
العامل الخارجي
1ــ سيكون المرء أعمى إذا لم يدرك دور النظام السوري، الأساسي، في التسبب بالأحداث الدراماتيكية السورية، وإذا لم يدرك، خصوصاً، دور العوامل والشروط الداخلية السورية في تلك الأحداث. النظام السوري من طراز خاص في استثنائيته وديكتاتوريته واحتكاره السلطة ووسائط الحكم المعتمدة أساساً على الوسائل الأمنية والعنف، كل ذلك راكم الكثير من التفاصيل والأزمات الصغيرة والاحتقان. إن ظهور سمة مذهبية ـ ولو جزئية ـ للنظام استغلها الإخوان المسلمين وطليعتهم، والاتجاهات الجهادية لاحقاً والعمل من خلالها على الشحن الطائفي المتزايد، ثم تأتي سلة القضايا الاقتصادية والمعيشية. وكذلك احتكار المسألة الوطنية ومنع العمل فيها إلا تحت مظلة النظام، حتى حدود استغلالها من أجل احتكار السلطة السياسية باسمها، مع الادعاء أنه الوحيد المؤتمن على ذلك! كل تلك التراكمات انفجرت دفعة واحدة مع ما سمي موجة «الربيع العربي»، وشكلت أرضية ملائمة للتدخل الخارجي.
2ــ وسيكون المرء أعمى إذا لم يدرك أهمية الفعل والطاقة الجيوسياسية السورية، التي تكونت تاريخياً مع الوعي القومي في سوريا، والتناقضات والصراعات التي تشكلت مع الكيان الصهيوني ومع حلفائه في الغرب. كانت العيون الخارجية مفتوحة ومتنبهة دائماً على سوريا، وعلى الحدّ الوطني والقومي العام الذي سيّجها بالتغاضي عن الأنظمة والسلطات التي حكمتها، والتي كانت تزيد أو تضعف تلك الطاقة الجيوسياسية. وجعل الوضع فكرة وحقيقة المؤامرة قائمة دائماً تجاه سوريا كحلقة مكتملة (وطن، دولة وسيادة وشعب وجغرافيا، وتاريخ سياسي خاص) لأخذها في سياقات أخرى وتدمير طاقتها وإجراء تغيير جذري على التناقضات والصراعات الرئيسية التي تحكم طابعها الوطني والقومي. وكذلك هي متعلقة بأي نظام لديه حد من الاستقلالية تجاه الخارج والحساسية تجاه التدخل بشؤونه الداخلية. وبلا أي شك، كان النظام السوري على درجة عالية من الاستقلالية في الحقل القومي والوطني والسياسات الخارجية، وامتلك حساسية معروفة تجاه التدخل الخارجي بشؤونه، على الرغم من كامل طابعه ونهجه وممارساته الديكتاتورية والقمعية، وعلى الرغم من احتكاره للمسألة الوطنية، مع أنه لم يكن فيها راديكالياً كما تفترضُ، بل طرح الحلول التفاوضية والسلمية مع الكيان الصهيوني والغرب. مع ذلك وحتى الآن لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه أي تفريط استراتيجي. كل ذلك أدى إلى قرار أميركي بإطاحة النظام السوري، وخاصة بعد احتلال العراق.
3 ــ وهناك حقائق مؤكدة تفضح الاستراتيجية الأميركية التدخلية في المنطقة، والاستعداد الكثيف والطويل الأمد من أجل ذلك، على شكل اهتمام كبير بالشباب، ودورات إعداد متنوعة الاختصاصات (إعلام، اتصالات، داتا، تمكين المرأة، حقوق الإنسان). ليس هذا فحسب، بل تقديم مساعدات كبيرة، تحت عناوين مختلفة، لفعاليات ومؤسسات معارضة، ومواقع إلكترونية تهتم بالدراسات الميدانية لتفاصيل الحياة السورية، وخصوصاً المكونات السورية وتناقضاتها، كذلك الاهتمام المتعدد الأشكال بعدد كبير من المثقفين السوريين (إغواءً وتدليلاً)، ومن الواضح أن هذا قد أعطى أكله قبل انطلاق الحراك وبعده.
4ــ صار واضحاً بعد انتصار الثورة المصرية أن هناك تفاهماً وتعاوناً استراتيجياً لتتقدم الموجة الإسلامية في المنطقة، وأن للنظام التركي دوراً خاصاً ومهماً في ذلك التفاهم ورعايته في كامل منطقة الشرق الأوسط، مع التركيز على الساحة السورية لتكون حلقة ضعيفة قابلة للكسر. وللعثمانية الجديدة (الإسلامية) مصلحة كبيرة في ذلك، وبالفعل كانت تركيا تستعدّ، سياسياً مع أردوغان، وفكرياً مع وزير خارجيته، لأداء الدور المناط بها إقليمياً.
5 ــ بدا الصف الأميركي ــ التركي ــ الخليجي ــ الأوروبي كأنه قد تدخل سلفاً في سوريا، وليس فقط بحالة الاستعداد للتدخل، كان انحيازه في الموقف السياسي سريعاً ومكشوفاً، كذلك كان الدعم اللوجيستي، واضحاً. وراح الدور التركي يرسم مصيراً صعباً خطراً وواضحاً للساحة السورية برمتها (الدولة والنظام) وعبر الحدود التركية تدفقت أنهار دعم المعارضة المسلحة، وكذلك أرتال التطوع الجهادية، ثم من الأردن، ولبنان، وأرجح أنه لولا الدور التركي التدخلي المتفق عليه والمدعوم من كامل الصف الأميركي، لكانت هناك استحالة بوصول الوضع السوري إلى ما وصل إليه.
6ــ لم يبق الأمر في حدود الدعم اللوجستي المفتوح، بل تجاوز ذلك إلى التدخل العسكري المباشر من قبل الكيان الصهيوني، والتوافق التعبوي والعملياتي من جهة المعارضة المسلحة، وسعيها إلى الإفادة من القصف الصهيوني للمواقع العسكرية السورية والتنسيق معه. كذلك قام النظام التركي بعملية احتلال فعلية لشريط حدودي طويل، ظهرت فيه وحدات عسكرية تركية، ونقاط عسكرية ثابتة، بالإضافة إلى قيادة المقاتلين تركمان وغيرهم في العديد من المعارك، ووجود ضباط استشاريين في صفوفهم.
7ــ ثم انتشرت كل أشكال الدعوات لتشجيع التدخل في سوريا، بشكل خاص الدعوات الإسلامية الجهادية وعمليات التمويل المفتوحة للمرتزقة من كل انحاء العالم، وعمليات التواطؤ الأوروبية والأميركية، كما اللعب على قضية الإرهاب والعنف، وتركيبة المعارضة السورية المسلحة، وتسرب السلاح إلى الإرهابيين، ومحاولات صناعة ما سمّوه قوى عسكرية وجيش وطني آخر (!) معتدل.
8 ــ بعد الاحتلال الأميركي للعراق، بدأت التفاعلات الواسعة والصريحة، ثم الخلافات في وسط النخبة السورية على مسألة العامل الخارجي:
ــ استطاعت المؤامرات والخطط الخارجية النفاذ بقوة واتساع شديدين داخل سوريا. أولاً بسبب تراكم الاحتقان الداخلي وهو من مسؤولية سياسات النظام، ثمّ عبر الانقسام الوطني الواسع والعميق حول التدخل الخارجي، أي وجود قوى اجتماعية ونخب سياسية غدت جاهزة من أجل ذلك. وسمحت، عبر خياراتها الثقافية والفكرية والسياسية والتحالفية الخاطئة والمدمرة، لتلك الخطط والمؤامرات بأن تتحول إلى فعل ذاتي مباشر.
ــ لن نناقش هنا (الوعي ــ المزحة) المتعلق بفكرة مساواة أي تدخل خارجي بآخر، وتهافت الوعي في فصل العداوات والتناقضات والصراعات الكبرى وتأثيرها الحاسم على أي صراع يدور في فلكها، واستخدام كل البؤس الميكيافيلي القديم والجديد في خدمة عملية الوصول إلى تحقيق مهمة وأولوية بعينها، وهي، هنا، إسقاط النظام، بل سنشير مؤكدين أن العامل الخارجي، وخصوصاً مستوى الاستقطاب بين طرفي الصراع العنيف: «الصف الأميركي» و«الصف الروسي ــ الإيراني ــ البريكسي» وبالتغاضي عن الأحكام المعيارية، وأيها يقف في صف المصالح التاريخية العليا للشعب السوري (وهو، بحسب قناعتي، الصف الروسي و... إلخ)، وأيها يقف في الصف المعادي (وبحسب قناعتي المطلقة الواعية والغريزية هو الصف الأميركي) فإن العامل الخارجي أصبح العامل الرئيسي في منع الحسم العسكري وبالتالي، فهو العامل الرئيسي في إعادة انتاج أهم شروط التوازن وعدم الحسم والاستنقاع (عسكرياً، سياسياً، دبلوماسياً ودولياً، اقتصادياً... إلخ).
ـــ لكن بقي الانقسام الوطني هو العامل الحاسم. بقيت تناقضاته، عناصره ووقائعه هي المحددة، وهي المنتجة للسياق العام واحتمالات التطور. وفي ذلك الإطار تحول العامل الخارجي إلى مادة للانقسام والتناقض والصراع الوطني الداخلي.
فاتح جاموس
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد