الثأر المتبادل بين أميركا وبن لادن
ليس أكثر تماثلاً والتقاءً من مشهد الاميركيين يرقصون ابتهاجاً امام البيت الابيض بعد مقتل بن لادن، ومشهد الفلسطينيين وهم يوزعون الحلوى عقب انهيار برجي نيويورك وسقوط ثلاثة آلاف ضحية أبرياء شاء القدر تواجدهم في البرجين تلك الساعة المشؤومة.
ثمة خلفية ايديولوجية واحدة تجثم وراء المشهدين، مفصحة عن إشكال تاريخي كبير لا زال يفصل بين رؤيتين حضاريتين ويحول دون تواصلهما والتقائهما. رؤية عصابية استعلائية تمثلت في الغرب بعد سقوط المعسكر الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة في ايديولوجيات «نهاية التاريخ» و«صراع الحضارات» التي دأب من خلالها مفكرون إستراتيجيون غربيون من امثال فوكوياما وهانتنغتون الى إرجاع تفوق الغرب على الشعوب العربية والاسلامية الى فوارق حضارية بنيوية بينه وبين هذه الشعوب، المحكومة بتخلف أبدي يمنعها من التقدم والاندماج في الحضارة العالمية الغربية المنشأ والهوية، ويؤسس لثقافتها «المبررة للإرهاب، الرافضة للحداثة، الكارهة للآخر، المنحازة للموت والدمار».
ورؤية أخرى لا تقل عصابية وتطرفاً واستعلاءً، ترى الى الآخر، «الحضارة الغربية» باعتبارها شراً يهدد الهوية والأصالة، والارتداد في ردة فعل، الى ثقافات ماضوية لا تتلاءم مع توجهات العصر ومساره العقلاني الحداثي، ولا تنجي العالمين العربي والاسلامي من محنة فواتهما الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
رؤيتان مختلفتان متناقضتان في الظاهر، تراهن كل منهما على إقصاء الأخرى وإدراجها في خانة الشر المطلق الواجب استئصاله بكل الأشكال بما فيها الثأر من الأبرياء وإشهار روح الحقد والكراهية القاتلة في وجه الآخر. لكن هل هما متناقضتان فعلاً سواء في الرؤية الايديولوجية او في الخطاب والآليات الناظمة لنمط تعاملهما مع الذات والآخر؟
إن ما يبدو في الظاهر تضاداً او قطيعة لا يقدم صورة حقيقية للعلاقة بين الايديولوجيتين الأصوليتين البنلادنية والأميركية، إذ يلغي او يهمل ما بينهما من الوحدة والتلاقي، ويتجاوز ما يجمعهما من صلات في النمهج والآلية والنتائج، فالاثنتان على السواء تنطلقان من منطق أحادي مآله نبذ الآخر واستبعاده، باعتبار التناقض قائماً بين داخل مطلق وخارج مطلق، بين خير مطلق وشر مطلق، بين أنا معصومة مقدسة وآخر كافر مارق يجب اجتثاثه بالعنف والإكراه والقتل، والاثنتان على السواء تمارسان الاجتزاء والانتقاء، تبرّران وتسوّغان تبعاً لمنطقهما الأحادي المغلق والمنحاز.
فهل ثمة اختلاف بين واقعة نيويورك وغزو افغانستان والعراق وقتل وتشريد الملايين من مواطنيهما وإفقارهما وتفكيك عراهما الوطنية ثأراً وانتقاماً؟
هل قدم الأميركيون بقتلهم بن لادن من دون مقاومة ورمي جثته في البحر نموذجاً حضارياً في التعامل مع الذات الإنسانية بوصفها قيمة في حد ذاتها أرقى من «تنظيم القاعدة» في تعامله مع ضحاياه العزَّل والانتقام منهم لمجرد كونهم اميركيين؟
هل يختلف موقف أميركا في تعاملها مع سجناء غوانتنامو وأبو غريب عن تعامل بن لادن وتنظيمه مع رهائنه الغربيين؟
هل تختلف الأوصاف التي أطلقها على الغرب وحضارته عن تلك التي أطلقها الأميركيون على تنظيمه وعلى الحركات الاسلامية المناوئة لهم عموماً؟
كلاهما يُشَيطن الآخر ويؤلِّه الذات، فيما هما ينتميان الى فضاء ايديولوجي واحد برغم ما يوهمان به من تضاد وتناقض. إن الإرهاب تحت لافتة الحداثة والحرية وحقوق الانسان لا يقل فداحة وظلماً عن الإرهاب باسم القداسة والأصالة وصون الهوية.
ثمة لغة خشبية جامعة بين الخطابين الأميركي والبنلادني كأنما ثمة اتفاق غير مبرم فيما بينهما مآله إبقاء الهوة فاغرة بين أميركا والغرب عموماً والعالميْن العربي والإسلامي.
إن روح الثأر المهيمنة من الجانبين لن تؤدي إلا الى المزيد من إراقة الدماء وتعقيد المشكلة. ولا يمكن الخروج من مأزق التصادم الدموي الراهن في رأينا إلا بالعودة الى جذور الأشكال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فطوال عقد التسعينيات كان العالمان العربي والاسلامي يتقهقران على كل المستويات، في حين لم يبادر الغرب، وعلى رأسه أميركا، الى مد يد العون إليهما ومساعدتهما على تجاوز أزماتهما، بل إنه على العكس من ذلك كان نصير أنظمتهما الاستبدادية والتسلطية، وتعامل مع الشعوب العربية والإسلامية دائماً من منظور نفعي بحت غلَّب مصالحه الأنانية على توق هذه الشعوب الى الحرية ولو في حدها الأدنى.
في الوقت ذاته لم يرتقِ العرب والمسلمون الى الرد على التحدي الغربي من منظور حداثي، فيما آثر الغلاة الانكفاء الى تصورات ماضوية جهادية مستعادة بين داري الايمان والكفر.
كان الأميركيون ثأروا فعلاً من بن لادن لو أنهم ردوا عليه بغير الثأر وتعاملوا معه بروح الحداثة ومنظومة حقوق الإنسان فاقتادوه الى محكمة عادلة وأفسحوا له في المجال للدفاع عن نفسه، على ضآلة حججه وتهافتها. إذ ذاك كانوا برهنوا بالوجه الساطع أن ثمة بدائل حضارية غير العنف والدم لحل الاشكالات الكبرى بين الامم والحضارات، وأن ما طرحه بن لادن كان فعلاً خطيئة بحق التقدم والانسانية.
كرم الحلو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد