«آريادنا» لتشيكوف: حين تسقط المثل العليا

02-01-2016

«آريادنا» لتشيكوف: حين تسقط المثل العليا

للوهلة الأولى قد يكون من الصعب نسب قصة «آريادنا» الطويلة إلى الكاتب الروسي أنطون تشيكوف. إذ، على رغم نَفَس تشيكوف الواضح فيها من خلال رسمه للشخصيات ولا سيما للشخصية الرئيسة فيها، شخصية الحسناء آريادنا، تبدو الأحداث والمواقف والعلاقات وكأنها مزيج من إبداع جين أوستن وهنري جيمس. وحتى لئن كان تشيكوف في عدد لا بأس به من مسرحياته أبدع في رسم صور لنساء معاصرات (كما في «الشقيقات الثلاث» أو في أجزاء أساسية من «الخال فانيا») فإن الشخصيات الأساسية لدى تشيكوف تبقى دائماً شخصيات ذكورية. وربما يكون إحباط شخصية من هذه الشخصيات ناتجاً من علاقة خيبة ما، بالمرأة، لكن هذه الخيبة، والمرأة بالتالي، تكونان نوعاً من الترميز لإحباط ما يتعلق بالحياة نفسها. وفي قصة «آريادنا» يطالعنا، في الحقيقة هذا الموضوع، وقد نجد لدى القراءة الأولى أن اهتمام الكاتب منصب على شخصية بطله، أو بطليه، وهما رجلان روسيان يلتقيان خلال سفر، فيروي واحد منهما إلى الآخر مشكلته التي تبدو في بعض الأحيان مأساته. ومن هنا ما يبدو أن المرأة (آريادنا) تصبح موضوع الحديث، والسبب الذي يدفع الراوي ليحكي حكايته عنها. غير أن هذه القراءة الأولى، من دون أن تكون غير صحيحة، ستحيلنا مع بعض التعمّق إلى حيز آخر: إننا هنا أمام صورة للمرأة، يرسمها تشيكوف بالواسطة. ويرسمها في شكل هو من الدقة والتفاصيل بحيث لا يعود الراوي هو الشخصية الأساس في القصة ولا مأساته هي الموضوع. الشخصية الأساس هي المرأة، والمأساة ليست أكثر من ذريعة لتقديم هذه المرأة. ومن هنا ذلك الإحساس وكأننا في هذه القصة، أمام واحدة من تلك الصور النسائية التي كثيراً ما رسمها المبدعون - والمبدعات - في محاولتهم الدائمة لسبر ما يُعتَبر نوعاً من الأدب الاجتماعي غوصاً في سر شخصية المرأة في زمن كانت هذه قد بدأت تطفو فيه على سطح الأحداث، وتتقدم من دون أن تكون لصورتها صورة الكائن الملحق بالرجل. ونعرف أن الحيز التاريخي لمثل ذلك الانقلاب في وضعية المرأة، شغل - في أوروبا على الأقل - المرحلة الفاصلة/ الواصلة بين القرن التاسع عشر ولاحقه القرن العشرين. وهو تحديداً الزمن الذي كتب فيه تشيكوف هذه القصة. بل كذلك الزمن الذي كَتب فيه معظم أعماله التي تحولت فيها المرأة من موضوع إلى ذات. ولم يكن صدفة بالطبع أن يكتب مسرحي أوروبي آخر، هو هنريك أبسن، مسرحياته «الأنثوية» في ذلك الزمن بالتحديد.

> «آريادنا» أو «آريادنا» في اللفظ الروسي، هي، إذاً، قصة طويلة تروى لنا من طريق الراوي، وهو المؤلف نفسه، الذي إذ كان عائداً في سفينة ركاب من رحلة قام بها إلى الخارج، يجد ذات يوم إلى مائدته في مقصف المركب، رجلاً غريباً، سرعان ما يكتشف أنه شديد اللطف وفصيح اللسان. وما أن يتعارف الرجلان على بعضهما البعض، حتى يبدأ الراكب الغريب برواية مآسيه العاطفية لصديقه الجديد. والحال أن الراوي/ المؤلف يتذكر عند تلك اللحظة بالذات أنه كان سبق له أن لمح هذا الرجل في السابق عند الحدود وفي رفقته سيدة لفتت أنظار رجال الجمارك بالعدد الكبير لحقائب سفرها وأناقتها. وهكذا، تبدأ إذاً الحكاية وقد بتنا، إلى حد ما، على معرفة بـ «بطليها» بوساطة صديقنا الراوي. والحكاية أن الراكب واسمه شاموتين يمتلك عزبة في منطقة ريفية تقع غير بعيد إلى الشمال من موسكو. وهو يعيش هناك مع أبيه، البروفسور المتقاعد. وفي الجوار هناك عزبة أكثر ثراء وفخامة يملكها الشاب كوتلوفتش، الأعزب الذي يفضّل أن يمضي وقته في السحر والشعوذة. إنه شخص غريب، لكن ما يثير اهتمام شاموتين به ليس غرابته ولا ممارسته السحر والشعوذة، بل شقيقته الحسناء آريادنا، موضوع حديث شاموتين، مع الراوي. ذلك أن آريادنا هذه هي التي لعبت، كما سنرى، الدور الأكثر حسماً في حياة شاموتين. وهذا الأخير بدأ حديثه عنها، على أي حال، بالتركيز على ذلك الميل الواضح لدى الروس إلى أمثلة المرأة وإضفاء أعظم الصفات عليها... ولكن قبل أن يعرفوها عن كثب، وتكون النتيجة سقوطهم في فخ أقصى درجات خيبة الأمل.

> كل هذا هو ما يرويه لنا شاموتين. وما يرويه هذا، هو الذي يعطي تشيكوف فرصة رسم صورة آريادنا في لغة شديدة البراعة. وهي صورة مركبة لا يستقيم اكتمالها إلا من خلال رسم علاقات آريادنا بمجموعة من الشبان والأشخاص الآخرين المحيطين بها، وهي علاقات يدخلنا شاموتين فيها وفي تفاصيلها، بادئاً بوصف آريادنا نفسها: إنها فتاة شديدة الحسن سمراء البشرة في نحو الثانية والعشرين من عمرها. إنها ذات أخلاق عالية ومزايا جيدة، غير أن مشكلتها الرئيسة تكمن في عدم قدرتها على أن تكون لها عواطف حقيقية ومحددة. إن آريادنا، بحسب رواية شاموتين تحلم بأن تصبح في عداد الأثرياء والأمراء، وفي عداد سيدات المجتمع، ومع هذا لم تتردد في الرفض حين تقدم منها الأمير ماكتويف عارضاً عليها الزواج، إذ بدا واضحاً أنها لم تعجب به على الإطلاق هي التي أحياناً، من أجل الوصول إلى ما تريد، تبدو قادرة على تدمير أي شخص كان وإيصاله إلى الحضيض. ومن هنا فإن شاموتين، على رغم حبه لها وإعجابه الهائل بها، يجد نفسه على تردد في طلب يدها، ولكن من دون أن يفهم هو نفسه سبب تردده. أما هي، فإنها ذات لحظة تقرر السفر إلى إيطاليا في رفقة صديق لها بوهيمي لا يبالي بأي شيء يدعى ميشال لوبكوف. إن ميشال هذا يحب آريادنا بالتأكيد، لكنه ليس من النوع الذي قد يدمر نفسه من أجل الحصول عليها. ذلك أنه منطقي في عواطفه، وشديد الواقعية حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع النساء. من هنا قد يصلح رفيق سفر مثالياً، من دون أن يتسبب في إحداث أي مشاكل حقيقية.

> تبدأ رحلة آريادنا وميشال في شكل جيد. غير أن آريادنا، وعلى عادتها، سرعان ما تسأم هذا كله، فلا يكون منها إلا أن تكتب إلى شاموتين، صديقها الوفي وعاشقها الأفلاطوني كما بتنا نعرف الآن، سائلة إياه أن يأتيها إلى إيطاليا لنجدتها. فيفعل الرجل كما يروي لنا، وينضم إلى الثنائي في مدينة أباتسيا. وهناك إذ يصعب عليه فهم كل ما يدور حوله يطلب من ميشال تفسيراً، فيحدثه هذا عن شخصية آريادنا، وعن تعامله هو، ميشال، معها. وإزاء الطريقة التي يروي بها ميشال كل هذا، يحس شاموتين بالإحباط ويعود إلى موسكو. ولكن بعد حين ترسل إليه آريادنا رسالة عتاب لطيفة طالبة إليه فيها أن يلاقيها في روما فيفعل إذ يعرف الآن أنها باتت وحيدة بعدما تخلى عنها ميشال نهائياً. وهذه المرة، في روما، تصبح آريادنا حقاً عشيقة شاموتين. وهكذا يبدأ دمار هذا الأخير، خلال رحلة عاصفة في ربوع المدن الأوروبية، وفي عالم نزوات هذه المرأة. وعلى هذا تخبو عاطفة شاموتين وتخبو أحلامه كلها ويصبح لا بد من العودة إلى موسكو بعد معايشة «أوروبا نهاية القرن»... ومعايشة عالم آريادنا القاسي في آن معاً. ولكن بعد العودة، نجد آريادنا وشاموتين، في انتظار مزدوج: هي تنتظر الأمير ماكتويف واثقة من أنه يحبها دائماً وقادر على إعطائها ما تريد من عاطفة ومكانة، وهو - أي شاموتين - ينتظر بدوره مجيء ماكتويف وقد قرر ألا يعترض كثيراً على تقدّمه إلى الحسناء التي صارت في نظره الآن، عبئاً عليه.

> على هذا النحو، إذاً، يختم انطون تشيكوف (1860 - 1904) هذه القصة، التي يبدو واضحاً لنا فيها أنه قد يكون هو بطلها الحقيقي، حتى وإن أعطى دور البطولة لآخر يلتقيه في السفينة ويروي له مأساته. وتشيكوف، أحد سادة الكتابة المسرحية والقصة القصيرة في الأدب الروسي، اعتاد في عدد لا بأس به من أعماله، أن يحكي عن نفسه ولكن دائماً بالواسطة، كما يفعل بالأحرى، في هذه القصة التي يعتبرها كثر من أكثر أعماله - غير المسرحية - شعبية.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...