«أحرار الشام».. «طالبان سوريا»
بينما يتعرّض مشروع حركة «طالبان» المتمثل بإقامة «إمارة إسلامية» في أفغانستان بمواصفات معينة، للتشكيك في إمكانية استمراره بعد الإعلان عن وفاة مؤسسه الملا محمد عمر مجاهد، وشيوع أنباء عن وجود خلافات وانقسامات ضمن صفوف الحركة على أحقية خلافته، يبدو أن مشروع الملا عمر وجد له من يحمل أمانة الاستمرار به ومتابعة خطوات تنفيذه، ولكن هذه المرة ليس في أفغانستان وإنما في سوريا، التي تشهد منذ سنوات عدة تصاعداً كبيراً للعديد من الحركات الإسلامية المتشددة على اختلاف انتماءاتها العقائدية وتنويعاتها المنهجية.
وقد يتبادر إلى الذهن بداية أن «جبهة النصرة» هي من أوائل الفصائل الإسلامية في سوريا التي ستسعى إلى حمل راية الملا عمر، ونشرها فوق الربوع التي تسيطر عليها، غير أن أسباباً عديدة جعلت «النصرة» تتأخر عن هذا الأمر، وتتعلق أولاً بـ «جبهة النصرة» وعلاقاتها مع الفصائل على الأرض، وبالتطورات التي طرأت على منهجها وعقيدتها نتيجة التنافس بين تيارين داخلها، وتتعلق ثانياً بحركة «طالبان» نفسها وعدم وضوح علاقتها مع تنظيم «القاعدة» الذي تنتمي إليه «النصرة» في الفترة الأخيرة، وبالسياسات الجديدة التي باتت تتبعها وعلى رأسها «المشروع الوطني» داخل أفغانستان واللجوء إلى الحل السياسي مع حكومة بلادها.
مجمل هذه الأسباب جعلت «جبهة النصرة» تتأخر عن مهمة حمل راية الملا عمر والسير بها. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعدّاه إلى أنها لم تصدر بعد أي بيان نعي أو رثاء بالراحل، بخلاف بعض الفصائل الأخرى. ولا يمكن لهذا التأخر في إصدار بيان نعي إلا أن تكون وراءه مجموعة مهمة من الأسباب، لأن الملا عمر، بحسب أدبيات «النصرة»، هو «أمير المؤمنين» الذي يدين له زعيمها الخراساني أيمن الظواهري بالولاء والبيعة. وليس أي بيعة إنما البيعة العظمى وذلك بحسب فيديو مسرّب لزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن يتحدث فيه بوضوح أن بيعته للملا عمر هي «بيعة إمامة عظمى» وليس مجرد بيعة قتال. وبحسب قول بن لادن، في الشريط المسرّب، فإن على كل متواجد ضمن رقعة سيطرة الملا عمر أن يبايعه «بيعة عظمى» وإلا مات ميتة جاهلية.
وإذا كان تأخر «جبهة النصرة» في نعي مَن يفترض أنه «وليّ أمر زعيمها» مفهوماً لوجود مجموعة أسباب وعوامل فرضته، فإن إسراع «حركة أحرار الشام الإسلامية» إلى نعيه ورثائه لا يبدو مستغرباً، بل يأتي في سياق هذه الأسباب والعوامل نفسها.
وقد فسّر البعض مسارعة «أحرار الشام» إلى إصدار بيان تنعى فيه الملا عمر بأنه مؤشر على وجود صراع بين تيارين داخلها، وأن بيان النعي صدر نتيجة ضغوط التيار المتشدد داخلها. غير أن الأمر هو على العكس تماماً، لأن التيار المتشدّد في «أحرار الشام»، والذي يتطابق مع توجهات «القاعدة»، قد تكون لديه العديد من التحفظات على سياسة وأداء الملا عمر في عدد من القضايا التنظيمية والسياسية والعسكرية. لذلك، ولا غرابة في قول ذلك، فإن التيار صاحب المراجعات في «أحرار الشام» والذي يطلق على نفسه التيار «الإصلاحي» هو الذي دفع باتجاه المسارعة في نعي الرجل الذي يعتبر من المطلوبين الأوائل عالمياً بتهم الإرهاب والعنف وانتهاك حقوق الإنسان وتدمير الآثار.
لكن التيار «الإصلاحي» صاحب المراجعات، لم يكن ينظر إلى هذه الاتهامات عندما قرّر وجوب نعي الملا عمر، فعينه كانت على نقاط معينة في سياسة الرجل بإمكان التيار إسقاطها على الحالة السورية، والاستفادة منها في أمور عدة، أهمها محاولة كسب الشرعية «الجهادية» التي تمثلها «طالبان» من خلال التمثّل بسياساتها واعتناق منهجها الجديد. وقد كان هذا الإسقاط جلياً في البيان الذي أصدرته الحركة، حيث ركّز البيان، الذي وصف الملا عمر بـ «الأمير السعيد»، على ما أسماها «بصماته في العمل الإسلامي». واستقراء هذه البصمات كما وردت في البيان يوضح كيف أن الغاية الأساسية منه هي إسقاط واقع «حركة طالبان الأفغانية» على الحالة السورية والتلويح بشكل غير مباشر بأن «حركة أحرار الشام» هي «طالبان سوريا».
فمن أهمّ بصمات الملا عمر، كما رآها بيان «أحرار الشام»، هي «الثبات على المبادئ، والالتحام مع الشعب الأفغاني فأصبحت المنبر الناطق باسمه، واستثمار الانتصارات العسكرية بعمل سياسي رشيد، ثم كانت البصمة الرابعة المهمة وهي الجمع بين محاربة الغلو والتفريط».
ولا يُخفى أن مجمل هذه البصمات تلخص بشكل مكثّف السياسة نفسها التي يحاول «التيار الإصلاحي» في «أحرار الشام» اتباعها. فقد تمّ تغيير شعار الحركة من «مشروع أمة» إلى «ثورة شعب»، أي أن الحركة تخلّت عن طموحاتها الإقليمية وحصرت نشاطها في سوريا كما فعلت حركة «طالبان» عندما تبنّت المشروع الوطني الأفغاني وابتعدت عن أي نشاطات في الخارج. كما تريد «أحرار الشام» أن تقول إنها هي التي تلتحم بالشعب السوري وتنطق باسمه وليس أي فصيل آخر. ولم يعُد سراً وجود توجه لدى «أحرار الشام» نحو إعطاء السياسة جزءاً كبيراً من اهتمامها. ومن هذا القبيل كانت مقالات مسؤول علاقاتها الخارجية لبيب النحاس في بعض الصحف الغربية، وثمة رأي داخل الحركة بأن التقدم الميداني ينبغي أن يرافقه عمل سياسي، وقد صدرت فتاوى من بعض مرجعيات الحركة تتيح لها الانخراط في علاقات مع بعض الدول الإقليمية وتسهيل مشاريعها في سوريا، ومن ذلك فتوى أبو العباس الشامي (محمد أيمن أبو التوت) بالوقوف مع تركيا في إقامة المنطقة العازلة.
أما محاربة الغلوّ، فهي من أكثر البصمات توافقاً مع الحالة السورية التي يشكل الاقتتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» المتّهم بالغلوّ، أبرز جوانبها. وفي الإشارة التي احتواها البيان إلى «الجمع بين محاربة الغلو والتفريط» مؤشر مهم على أن «أحرار الشام» ومهما بلغت المراجعات فيها من العمق فلن تتحوّل إلى «جيش حر» («الجيش الحر» يُتهم بالتفريط) ولن تتخلى عن مشروع «الدولة الإسلامية» الذي تتبناه في ميثاق تأسيسها.
وهنا تبرز نقطة في غاية الأهمية، فإلى أي مدى تريد «أحرار الشام» أن تقتبس تجربة حركة «طالبان»؟ وهل يتوقف الأمر عند البصمات الذي ذكرها البيان أم هناك أمور مسكوت عنها لا تستطيع الحركة البوح بها في هذه المرحلة؟
ويتعلق الأمر بطبيعة العلاقة الملتبسة بين «طالبان» وبين تنظيم «القاعدة»، والتي تقابلها علاقة «أحرار الشام» مع «جبهة النصرة»، على فرض أن «أحرار الشام» أو «التيار الإصلاحي» داخلها يمكنه النجاح في صياغة هذه العلاقة بما يناسبه. فصحيح أن «طالبان» اتجهت في السنتين الماضيتين نحو المشروع الوطني، غير أن «القاعدة» المبايع لأميرها ما يزال يمارس نشاطاته الإرهابية في عدد من الدول العربية والغربية من دون أن تحاول «طالبان» لجمه ومنعه من القيام بذلك. وهو ما فسّره البعض بأنه «سياسة حكيمة» من قبل الملا عمر، لأنه يلوح بالمشروع الوطني بيد ويلوح بمشروع «القاعدة» بيده الثانية، مع ملاحظة أن تبنّيه للمشروع الوطني لم يدفعه إلى فك ارتباط «القاعدة» به.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد