«الدوائر التذكارية» لدافيد كولان: رحلة في اللغات والأماكن
ماذا لو أن الرواية ببساطة شديدة ولدت من الرحلات والسفر؟ سؤال لا بدّ من أن نطرحه ونحن نقرأ كتاب Les Cercles memoriaux «الدوائر التذكارية» (منشورات L’Escampette) لدافيد كولان David Colin مواليد العام 1968، يعيش في مدينة «فريبورغ» بسويسرا الذي يبدو أيضا عملا عن الذاكرة، وهي من الموضوعات المفضلّة لدى الكاتب الذي يُشرف على سلسلة تصدر عند دار «ميتسبريس» في جنيف بعنوان «كلمات الإبادة»، وتُعنى بهذا الموضوع الذي دفعه أيضا إلى أن يكتب نص كتاب «ورود الشرّ» (مع نص آخر للروائية اللبنانية إيمان حميدان)، وهو كتاب حول العمل الذي أنجزه النحات السويسري إتيان كراهينبول حول الحرب اللبنانية (في مدينة عاليه).
ما من شيء أكثر حضورا من هذا «التزاوج» ما بين الفانتازيا والتبحر، لأن السفر بجميع أشكاله ربما كان السبب الذي أفضى إلى ميلاد هذه الآلية الغامضة للمتخيل الذي يقودنا في النهاية إلى كتابة رواية، بمعنى أنه يحث الخيال، لنبني في الحلم كلّ ما نرغب في رؤيته. ألا نرحل محملين بالأحلام أكثر ممّا نحن محملون بالحقائب؟ فالبلاد المجهولة، وهذه اللغات التي تغني، وهذه الشعوب ذات «الألبسة المختلفة»، لا شك، تفتح أمامنا هذا الباب الذي نرغب في الهرب منه، من الواقع غير المحتمل، من هذه الأيام الثقيلة والرتيبة التي تحيل الحياة القصيرة حياة أطول. هل كانت «الأوديسيه»، السرد الروائي لرحالة شاعر، أم الحلم المتيقظ لرجل وجد متعته في السفر داخل رأسه؟
ربما كان الروائي، رحالة ومسافرا، وحتى في سفره الداخلي المستمر: فإلى هذه الفئة تنتمي رواية كولان، المولودة من هذا الواقع نصف المعيش ونصف المحلوم به، إذ ليس المهم أن يكون للمرء قلب ينبض، فعلينا أن نضعه في أماكن أخرى، وتحت سماوات أخرى، وبروائح مختلفة.
في هذا المسار الواقع بين رحلات عدة، رحلة الأدب والذاكرة والجغرافيا (ما يجعلنا نتذكر قول كارلوس فوينتس بأن الرواية هي الجغرافيا لا التاريخ) يروي كولان سيرة غريق ناج، ينتقل به من صحراء «غوبي» ليصل عند جماعة من المترهبين عند تخوم مونغوليا. لم يكن يعي من هو، فقط ثمة أحلام جعلته يقوم بهذه الرحلة في الذاكرة وفي الحلم، ليقع في هذا السديم الذي لا يعرف من أين جاء به ولا إلى أين يأخذه في النهاية. رواية كولان هي أيضا رحلة في اللغات، فالدفاتر التي وجدها الراهب تشينغ في بطانية سرواله، والتي تعذرت عليه قراءتها بسهولة، كانت مخطوطة بلغات عدة، ما توجب تحديا آخر: تحدي الراهب لاكتشاف المعنى. هذا المعنى الذي يقف على مفترق طرق، إذا جاز التعبير، بمعنى هل اكتشاف معنى المكتوب في الدفاتر سيقود إلى حقيقة أخرى؟ أي حقيقة القدر التي يشير إليها الكاتب عبر لعبة النرد، «المستوردة» من عند العرب؟
أسئلة كثيرة تفتحها أمامنا هذه الرواية الجميلة، على الأقل من حيث أنها لا تقدم لنا الأجوبة الجاهزة، بل تطرح علينا الكثير من الطروحات، التي لا نجد أجوبتها، إلا عبر التأويل. فحقل تأويلها هو الذي يعطي لهذه الكتابة المعنى الحقيقي الواقف بين الحلم والواقع، أي كل شيء يقف في هذه المنطقة الضبابية التي تسحب سرها، لتجعلنا نحاول أن نجد منفذا، لن نمر منه، إلا عبر حلم آخر، أي عبر حلمنا الخاص بالكلمات.
هذه الكلمات التي يعرف كولان كيف يصوغها فعلا، فالرواية، تبدو مختلفة حقا عن كثير من الأدب الفرنسي الذي يُكتب اليوم: تأتي من منطقة كتابية لا تريد أن تسقط في الاستسهال الجاهز، بل تعيد التفكير بكل جملة لتقدم إلينا أدبا حقيقيا، يشدنا، مثلما يشدنا هذا السر الذي حمله الناجي بدفاتره. هل الكتابة هي ما ينجينا؟ رهان جميل بالطبع.
إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد