«النصرة» تنأى بنفسها عن «المنطقة العازلة»: إخلاء مناطق حدودية لمصلحة «داعش»!
على الرغم من تعقيدات الموقف في الشمال السوري، وبروز تضارب في المصالح بين تركيا من جهة و «جبهة النصرة» من جهة ثانية، حيث اضطرت الأخيرة إلى الانسحاب من المناطق التي تنوي أنقرة أن تقيم فيها المنطقة «العازلة أو الآمنة»، إلا أن ذلك لا يعني أن العلاقة بين الطرفين وصلت إلى نقطة الافتراق، فما تزال تربط بينهما العديد من المصالح المتقاطعة التي تحول دون ذلك.
وقد جاء بيان «جبهة النصرة» الأخير ليؤكد هذه الحقيقة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» قد يسابق الزمن من أجل الاستفادة من الثغرات التي سيتركها انسحاب «النصرة».
ومن الواضح أن الانتكاسة في العلاقات بين تركيا و «جبهة النصرة» تنحصر في بقعة جغرافية معينة، هي جزء من الشريط الحدودي في شمال حلب، وتقتصر على موضوع واحد هو إقامة المنطقة العازلة فقط. أما باقي جوانب العلاقة، فتسير على خير ما يرام، خصوصاً في محافظة إدلب التي لا تزال «جبهة النصرة» في مدنها الحدودية من دون أي اعتراض تركي، كما لا تزال خطوط الإمداد التركية مفتوحة أمام «جيش الفتح»، الذي تهيمن عليه «النصرة»، والذي يحقق تقدماً ميدانياً واضحاً في سهل الغاب جراء هذا الدعم التركي اللامحدود. ويستمر ذلك برغم تصريحات رئيس حكومة تصريف الأعمال التركية أحمد داود أوغلو، لمحطة «سي أن أن» الأميركية قبل أسبوعين، بأن «جبهة النصرة أصبحت خارج المعارضة المعتدلة، بل تحوّلت إلى هدف أو عدوٍ محتمل أو استراتيجي». وهو ما يعني على الأقل أن الانقلاب التركي على «النصرة» لم يحن وقته بعد، وأن أنقرة ما تزال تراهن على إمكانية توظيف الجبهة لممارسة المزيد من الاستنزاف والضغوط على الجيش السوري في إطار سعيها إلى إسقاط النظام.
وكانت «جبهة النصرة» قد بدأت، منذ الأسبوع الماضي، سلسلة انسحابات من معاقلها ونقاط تمركزها على خطوط التماس ضد «الدولة الإسلامية» في ريف حلب الشمالي. وشملت هذه الانسحابات حتى الآن عدداً من مراكزها في حرجلة وحوار كلس وبعض المناطق الأخرى المحيطة بمدينة إعزاز، وذلك بعد اجتماع عقدته مع قيادات الفصائل جرى خلاله إقناعها بضرورة الانسحاب: أولاً كي لا تعرقل المشروع التركي، وثانياً كي تحمي نفسها من القصف الذي قد يطال بطريقه المدنيين أيضاً.
ولم يكن بإمكان «جبهة النصرة» إلا القبول بالانسحاب لعدة أسباب، أهمها، عدم رغبتها بالتصادم مع أنقرة ومشاريعها وأذرعها المسلحة في هذه المرحلة على الأقل، ولأنها تدرك أن الوقوف علناً أمام المشروع التركي سيسبب لها العزلة، خاصة أن غالبية الفصائل أصدرت فتاوى تجيز التعاون مع الجيش التركي. كذلك فإن الانقسام الحاصل داخلها، بين تيار مؤيد لـ «المنطقة العازلة» ويرى أن دعمها يتسق مع متطلبات «السياسة الشرعية»، وتيار آخر لا يعارض المشروع فحسب بل يدعو إلى وجوب مواجهته وعدم السماح بالشروع في تنفيذه مهما كان الثمن، نظراً لما يعتقده هذا التيار من أن مشروع «المنطقة العازلة» يحمل في طياته تهديداً لوجود «جبهة النصرة» في عموم الشمال السوري.
هذا الانقسام دفع قيادة «جبهة النصرة» كعادتها نحو اتخاذ موقف من شأنه التوفيق بين كلا التيارين، والذي تمثل في معارضة المشروع دينياً وسياسياً، لكن من دون اتخاذ أي إجراءات عسكرية أو أمنية لمواجهته.
وقد أرخى انسحاب «جبهة النصرة» بظلاله مباشرةً على ميدان المعارك في ريف حلب الشمالي، حيث استغلّ «الدولة الإسلامية» هذا الانسحاب، وشنّ هجوماً عنيفاً تمكن خلاله من السيطرة على قرية أم حوش بعدما كانت الجبهة شبه جامدة طوال الأسابيع الماضية. ومن المتوقع أن يسعى «داعش» إلى مسابقة الوقت من أجل تحقيق المزيد من التقدم باتجاه مدينتي مارع وتل رفعت، لأن من شأن ذلك تعقيد مهمة الجانب التركي وإدخالها في نفق طويل من حروب المدن التي ستمتد من جرابلس مروراً بمنبج والباب وإعزاز وصولاً إلى مارع وتل رفعت.
ويبدو أن مجمل التعقيدات والتطورات السابقة دفعت «جبهة النصرة» إلى الخروج من الصمت الذي لاذت به منذ الإعلان التركي عن عزم أنقرة إقامة «منطقة عازلة»، والإدلاء ببيان حول ما أسمته «الأحداث الأخيرة في ريف حلب الشمالي (التدخل التركي)».
وقد حاولت «جبهة النصرة» من خلال البيان الذي صدر، مساء أمس الأول، أن تتجاهل تصريحات رئيس الحكومة التركية التي رشحتها لدخول قائمة الأعداء الاستراتيجيين، وركّزت على أن النقطة الجوهرية في الموضوع هي سبب انسحابها من نقاط الرباط ضد «داعش» وليس التدخل التركي وموقفها منه. فالبيان في مجمله كان مجرد سرد للأسباب التي دفعت «جبهة النصرة» إلى الانسحاب من نقاط تمركزها على خطوط التماس مع «الدولة الإسلامية»، ولم يتم التطرق فيه إلى التدخل التركي إلا في سياق تفسير هذا الانسحاب.
وكان واضحاً أن من صاغ البيان كان مسكوناً بهاجس التوفيق بين التناقضات الكبيرة التي ثارت بوجهه جراء تداعيات الخطوة التركية، والتي يبدو أن «النصرة» ليس لديها أي رؤية عملية للتعامل معها.
فمن جهة، حرّم البيانُ التحالفَ مع تركيا لأسباب دينية وسياسية، فشدد على «أنّنا في جبهة النصرة لا نرى جواز الدخول في هذا الحلف شرعًا، لا على جهة الانخراط في صفوفه، ولا على جهة الاستعانة به، بل ولا حتى التنسيق معه».
ولكن البيان سكت عن ذكر المناطات الشرعية والعلل الفقهية التي استند إليها لإصدار حكم «عدم الجواز الشرعي». وهذا السكوت متعمد ويخفي وراءه رغبة «نصراوية» بعدم التصعيد مع الجانب التركي، لأن ذلك يتطلب الدخول في توصيف الحكومة التركية هل هي إسلامية أم لا، وهل تطبق الشريعة الإسلامية أم هي حكومة طاغوت؟
أما سياسياً فقد أخذ البيان على المشروع التركي أنه يهدف أولاً لحماية «الأمن القومي التركي» في ظل مخاوف السلطات التركية من قيام دولة كردية على حدودها الجنوبية بعد الانتصارات التي حققتها «وحدات حماية الشعب» في عين العرب وتل أبيض. وأضاف البيان أن هذا المشروع «لا يخدم مصالح الساحة حالياً، خصوصاً بعد تقهقر النظام السوري ووصول المجاهدين إلى معاقله في الساحل السوري»، مشيراً إلى أن «الجماعات والفصائل المقاتلة على أرض الشام لديها القدرة على قتال الخوارج (جماعة «داعش») إذا توحدت واجتمعت من دون الحاجة للاستعانة بقوات دولية أو إقليمية».
لكن البيان من جهة ثانية، لم يسحب التحريم السابق على كل الفصائل بل قصره على «جبهة النصرة» فقط. بمعنى أنه ترك الحرية لباقي الفصائل في اتخاذ الموقف الذي يناسبها إزاء هذه «النازلة». وبما أن غالبية الفصائل سبق لها أن أصدرت فتاوى تجيز التحالف والتعاون مع تركيا لإقامة «المنطقة العازلة»، يكون مغزى ذلك أن «جبهة النصرة» ليس لديها أي نية لعرقلة مثل هذا التحالف، برغم عدم «جوازه شرعاً» وعدم تحقيقه لمصلحة الساحة.
وإذا كانت «جبهة النصرة» قد استفادت من وجود ثغرة فقهية تعتبر مثل هذه المسألة من المسائل الخلافية التي يصح فيها اجتهاد كلا الفريقين، أي الرافض أو المؤيد، فمن المتوقع أيضاً أن تحاول الاستفادة من تداعيات الحدث على الأرض، خاصة لجهة انشغال العديد من الفصائل بتأمين الدعم للمشروع التركي، وذلك من أجل أن تزيد نفوذها في مناطق أخرى، سواء في أحياء مدينة حلب أو في محافظة إدلب التي لم تستقر أمور إدارتها بعد.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد