«تقاعد» الناقد البريطاني فيليب فرنتش

14-09-2013

«تقاعد» الناقد البريطاني فيليب فرنتش

السينما تاريخان. أحدهما يؤسّسه الفيلم، والآخر ناقد أشرطتها. في تحوّلاتها الكبرى كلّها، واكبها متبصّرون كبار لهم قدرة على استيعاب تجدّد تقنياتها، وتلوّن خطاباتها، وجسّ روح دهشتها التي لا تخبو. مهمتهم فكّ ألغاز روعتها، ومقاربة مستويات صنعتها. بين هؤلاء المتبصّرين، حفظ البريطاني فيليب فرنتش مكانة وعمادة لم تُخدشا بالمزايدة أو الحساب الخطأ، إذ شدّد في رسالته الوداعية على ضرورة أن «يكون المرء صادقاً».الناقد السينمائي البريطاني فيليب فرنتش: تقاعد الكبار (عن "إنترنت")
في الأول من أيلول 2013، كتب الناقد الثمانينيّ آخر عمود له في «ذي أوبزيرفر» (إحدى أعرق صحف العالم التي انضمّ إليها في العام 1978)، معلناً بذلك تقاعده ونهاية حقبة ذهبية من نقد السينما في جزيرة شكسبير وتشارلي شابلن. تقاعد فرنتش (أول مقالة له نشرها في العام 1963) بعد نصف قرن ماراثونيّ من التفرّس بالفن السابع وانقلاباته ومحطّاته الكبرى ونجومه وعناوينه وكلاسيكياته ومغامريه الفريدين، مختاراً وداع صفحته الأخيرة باثنين من رجالاتها، استقبلت الأسواق نسخاً مرمّمة من عمليهما «صباح الخير أيها الحزن» (1958) للنمسلوي المجري الأميركي أوتو بريمنغير (عن رواية الفرنسية فرانسواز ساغان)، و«شمس كاملة» للفرنسيّ رينيه كليمون، الذي أطلق نجومية آلان ديلون. للأول، دعم قراءاته باستلافات متقنة من نظرات «نقّاد» مطبوعة «كرّاسات السينما» التأسيسية، أمثال إيريك رومير وجان ـ لوك غودار وفرانسوا تروفو، ممن أصبحوا لاحقاً رموز «السينما الجديدة» في فرنسا، التي عكست استمرار منهجيّته المتميّزة، وانتقائيته التي أثبتت سطوته الإعلامية وشعبية تأثيره على جمهرة عائلية واسعة التنوّع ضمن ثقافات وأعراق كثيرة، تتعايش في مملكة مرفّهة وثريّة، الأمر الذي جعل صفحات النقد السينمائي الأسبوعية (كل أحد)، في الصحيفة اليسارية العريقة على مدى الخمسين سنة الفائتة، أشبه بـ«مؤسّسة موازية توعوية ذات تأثير هائل» على الذائقة المحلية.
مزج ابن ليفربول (مواليد العام 1933) في نصوصه بين الاستعارات الأدبية والفلسفية وأخريات من وعي تنظيرات رفاقه على ضفتيّ الأطلسي، جعلت من نقده شأناً معرفياً جامعاً، تداخلت فيه ثقافة عامة وقوّة إرشاد ومسايرة دعاية، وازنت حضوراً تثقيفياً مع اشتراطات سوق عروض وتوزيع وإعلام، تتحكّم بمنافذها شركات هوليوود الكبرى. لم يتورّع عن تحديد بوصلته النقدية، فكان يتجرّأ ويتحامل على فيلم تجاري أميركي ويسفّهه من دون تردّد، هو المعروف عنه ولعه بأفلام رعاة البقر، ونشره مؤلّفاً حولها بعنوان «الوسترن: تمظهرات نوع سينمائي». في رسالته الوداعية، قال: «لا ينبغي على أي ناقد القول إنه متبرّم. لا يكفي أن تفهم فيلماً ما، بل يتوجّب عليك أن قول شيئا ناجعاً وقيّماً». ليس مغالاة القول إن صفحة فرنتش أضحت، خلال الخمسين سنة الماضية، منظومة نقدية شديدة التأثير والإعجاب، دفعت مخرجاً مجيداً كالأميركي مارتن سكورسيزي إلى الكتابة في ملف «وداع» فرنتش أن «نقده سما بالسينما والفنانين الذين أبدعوها والجمهور الذي شغف بها. إنه إنسان لا يعوّض». بينما قال البريطاني جون بورمان إن «مقالاته سخيّة وإيجابية وثاقبة»، و«إن ذاكرته المذهلة مكّنته من وضع كل فيلم جديد في سياقه التاريخي».
لم يغفل صاحب «وجدتها في السينما: تأملات سينيفيلي» (2011) السينما العربية في نقده. وصف «الشتا اللي فات» للمصري إبراهيم البطوط بأنه «دراما عميقة التفكير». عن باكورة السعودية هيفاء المنصور «وجدة» كتب «أن حكايته أشبه بسلسلة باهرة من حقائق وحكايات وتبصّرات تسلّط الضوء على حيوات نساء يغفلهن مجتمع بطريركي وشمولي». بشأن «الزمن المتبقي» للفلسطيني إيليا سليمان، قال إنه نموذج «للسينما الإنسانية بأفضل أحوالها»، و«إن غياب الإنفعالية ودماثة السخرية والحدّ من الضغينة لافتة للنظر فيه». وعن «كسكسي بالسمك» للتونسي عبد اللطيف كشيش قال إن «هذا الفيلم حول المنفى والوحدة وسجايا العائلات والإعتداد بالذات والسعي إلى تحقيق الأحلام» يمزج بين الكوميديا والتراجيديا بتفهّم وإشفاق، من دون الوقوع في عاطفية مبتذلة».

زياد الخزاعي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...