أبو غريب وأشقاؤه أبعد من الحدث التاريخي
لا يمكن في أيّ حال اعتبار ما يصوّره فيلم «التعذيب صنع في الولايات المتحدة» جديداً، لا صورة ولا تحليلاً. وليس هذا، فقط لأن هذا الفيلم الوثائقي التلفزيوني الفرنسي الذي تعرضه مساء اليوم قناة «آرتي» الثقافية الفرنسية - الألمانية، قد حقّق وأنجز قبل عامين لكنه لم يعرض حتى الآن لأسباب «تقنية» و«قانونية»، بل كذلك لأن الصور والمشاهد التي يضمها الفيلم على مدى ساعة ونصف الساعة باتت قديمة ومعروفة بحيث ان ليس في وسع أيّ منها ان يفاجئ أحداً. الجديد هنا هو الأسلوب التحقيقي الذي اعتمدته كاتبة الفيلم ومخرجته الصحافية ماري - مونيك روبين، حيث نجدها – انطلاقاً من ممارسات تعذيبية أميركية اقترفت في العراق كما في أفغانستان وغوانتانامو - تقدم توليفة اتهامية تطاول السلطات الأميركية بالاستناد خصوصاً الى جلسات استجواب أجريت في مجلس الشيوخ الأميركي وكان على رأس الذين اسجوبوا فيها، كلٌّ من نائب الرئيس السابق ديك تشيني، ووزير الدفاع رونالد رامسفيلد. وهنا، حتى وإن كانت هذه الاستجوابات معروفة وشكلت إحدى نقاط العار لحكم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، فإن استخدامها في الفيلم يعيد الروح إليها، بخاصة أن الفيلم – وهذا هو الأساس في عمل المخرجة - لا يعزل خطابه عن الإطار الأوسع للممارسات التعذيبية الأميركية حتى قبل «أيلول 2001» ومنذ عهد الرئيس السابق بيل كلينتون.
إذا، ما تقدمه روبين هنا، ليس عملاً ظرفياً يرتبط بتاريخ أو بحال سياسية محددة، بل هو تاريخ للممارسات السلطوية في هذا المجال، مع تركيز فائق الأهمية على واقع أن إذا كانت ممارسات حكومات بوش في هذا المجال قد ظهرت الى العلن على ضوء «عالمية» الحدث الأيلولي وانتشار الممارسة التعذيبية لتطاول بلداناً ومناطق خارج الولايات المتحدة ما جعل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان في العالم تصور الفضائح في هذا المجال واحدة بعد الأخرى وصولاً إلى «الفضيحة الكبرى» في سجن أبو غريب العراقي، فإن المؤرخ الحقيقي يجب أن يذهب إلى أبعد وأعمق. وهذا تحديداً، ما فعلته مخرجة الفيلم، هي التي سبق لها قبل فترة أن حققت فيلماً تلفزيونياً مشابهاً كان موضوعه الممارسات التعذيبية التي تمارس في الكثير من بلدان أميركا الجنوبية تحت إشراف فرنسي مباشر. يومذاك أثار ذلك الفيلم ضجة كانت هي ما جعل المخرجة تتجه الى استكمال مشروعها في جانبه الأميركي الشمالي هذه المرة.
والحال أن النظر الآن إلى الفيلمين معاً يقول لنا، فيما هو أبعد كثيراً مما قالته حتى اليوم عشرات الأفلام التي تحدثت عن صنوف التعذيب الأميركي - بخاصة انطلاقاً من صور سجن أبو غريب التي باتت مشهورة الآن ونموذجية في إثارتها للاشمئزاز، ومنها طبعاً فيلم المخرج الإنكيزي إرل موريس حول الموضوع نفسه - يقول أشـــياء كــثيرة تتعدى «ظرفية الحدث» وراهنيته التاريخية لتصل الى أبعاد يمكن ربطها فكرياً بنظريات الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو حول «المراقبة والمعاقبة». وإضافة الى هذا، قد يكون في إمكاننا اعتبار العملين معاً، درساً في الاستخدام الذكي وربما الأيديولوجي أيضاً لصور ومشاهد بات يستحسن إخراجها – وفق المخرجة - من إطارها الحدثي البحت لإردائها ثوبها الحقيقي: ثوب الممارسة السلطوية كجزء من منظومة متكاملة وذلك بالاستناد الى لعبة التوليف التي تصل مع ماري - مونيك روبين الى ذروتها في هذا العمل الجديد.
* «آرتي»، 19,40 بتوقيت غرينتش.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد