أدونيس: ثقبٌ ثقافيٌّ أسود
- 1 -
في اللغة الشعريّة بُعدٌ فنّيٌّ خاصّ نحتاج إليه، اليوم، في هذه المرحلة الثّقافيّة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فهو يساعدنا في تحَمُّل العالم، وفي فهمه بشكلٍ أفضل. يتمثّل هذا البعد في أنّ للّغة الشعريّة «سحراً» خاصّاً يتيح لها أن تؤثّر في النفس تلقائيّاً، بمادّيتها ذاتها: نُطقاً وسَماعاً، إيقاعاً وتخييلاً، دون حاجةٍ إلى أيّة «قضيّةٍ» من خارج.
في اللوحة، في المنحوتة، في القطعة الموسيقيّة، في الصّورة الفوتوغرافيّة التي هي «كتابةٌ للضّوء»، وفقاً لتعبير بودريارد، والتي لا تنقل خبراً، يمكن أن نجد هذا البُعْد وخاصّيته المؤثرة. بدءاً من هذا البعد وهذه الخاصّيّة، قد يكون التساؤل عن دور الفنّ، أكثر صِحّةً وأكثرَ كشفاً.
اكتشفوا معي إذاً، على سبيل المثل، كيف يؤثّر هذا البعد الشّعريّ الخاصّ:
1 ـ لأبي تمّام:
مطرٌ يذوبُ الصّحْوُ منه وخلفَه
صَحْوٌ يكاد من النّضارة يُمطِرُ
2 ـ للعقيلي:
ضاقَتْ عليَّ نواحيها فما قَدِرَتْ
على الإناخة في ساحاتها القُبَلُ
- 2 -
نبدو، نحن العرب، أنّ لنا «حضوراً» قويّاً في العالم كلِّه، على مستوى «الصّورة «، ونبدو في الوقت ذاته، أنّنا في غيابٍ عن العالم كلّه، على مستوى «المعنى».
وربّما سأكون أكثر دقّةً لو نوّعْتُ التّعبير عن هذه المشكلة، فقلت مثلاً، بطريقةٍ أخرى:
نتقدّم، نحن العرَبَ، أو يتقدّم بعضٌ منّا باسمنا جميعاً، في ابتكار فنٍّ جديدٍ هو فنُّ الغياب: غيابُ «حقيقتنا» بحيث لا يبقى منّا إلّا «اسمُنا».
وإلى أن يكتمل هذا «الغياب»، يُمضي بعضُنا الآخر، باسمنا جميعاً أيضاً، في الإقامة تحت سقْفِ بيتٍ سياسيٍّ «واحد» - نادبين، نائحين:
البيت السّياسيّ العربيّ الواحد!
ما أجملَهُ! ما أكبرَهُ - لو كان له أساس!
*
غير أنّ المشكلة في هذا المَسار ليست في «النّهاية». إنّها، على العكس، في «اللانهاية». الغياب متواصِلٌ، وهو يرتبط عضويّاً بكون النّهاية هي نفسها لانهاية - إلّا إذا أمكنَ القيامُ بثورةٍ (صار هذا الاسمُ شديدَ الالتباس) - إنسانيّةٍ حقّاً، أعني ثورةً لا يكون مَدارُها الغزوَ، نهباً، وقَتلاً، وتدميراً. بل يكون أساسُها الفصل الكامل بين الدنيا والآخِرة، لكي يمكن إعطاءُ كلٍّ منهما حقوقها الخاصّة.
- 3 -
«الحُسّادُ مناشيرُ لأنفسهِم»: كلِمةٌ مأثورةٌ لمفكِّرٍ عربيٍّ، قديمٍ ومجهول. بعض الباحثين الجدد يحاولون أن يقوموا بإحصاءٍ «أنتروبولوجيّ» لهذه «المناشير»، لكن عبثاً. ويفسّرون ذلك بأنّ الفردَ العربيّ لا يحزن لِما ينزل به من الشرّ فقط، وإنّما يحزن كذلك لِما يناله غيرُه من الخير.
استطراداً، أحبّ هنا أن أنقل للقارئ خبراً رواه أبو حيّان التّوحيديّ في كتابه «البصائر والذّخائر»، قال «إنّ شخصاً اسمُه عبدالعزيز بن دُلف، دعا بجاريةٍ له كان يرى الدنيا بعينها، فضرب عنقها. فقيل له: لمَ فعلتَ ذلك؟ فقال: مَخافةَ أن أموتَ في حبّها، فتبقى هي بعدي، تحت غيري.»
ويعلِّق التّوحيديّ، قائلاً: «هذا نمَطٌ من الجنون».
- 4 -
- «نعم، خِلافاً لكلّ ما تقول لا أريد أن أحيا إلّا في ثقافةِ ماضينا. ولا أريد البحثَ عن الحقائق، كلِّها مهما كانت، وفي أيّ ميدان، إلّا في ما يقوله ويعلّمه هذا الماضي. فهو المستقبل، بالنسبة إليّ، إلى نهاية العالم».
- هل تريد أن تسمع رأيي؟
- لا يهمّني.
- 5 -
- نعم، أعرف أشخاصاً «يبلغون من العمر، قبل وصولهم إلى الشّيخوخة، عشرة قرون»: هذا ما قاله مرّةً، الشاعر الفرنسيّ هنري ميشو.
لهذا الشخص وأمثاله القدرة العجيبة، نفسيّاً وعقليّاً، على الاعتقاد بأنّ للقمر رأساً وذيلاً، وبأنّ للشمس قدمَين ونهدَين.
- 6 -
إنّها لحظةُ الثّقب الأسود،
لا في الحياة وحدها، بل أيضاً في النّفس والعقل.
تتّكئ هذه اللحظة على هذا الواقع:
الدّيموقراطيّات، حقوق الإنسان، الحرّيّات،
هي المَهازِلُ الثّلاث الكبرى
على مسرح العالم السّياسيّ الحديث.
- 7 -
يثِقُ بلفظةٍ لا تثقُ هي نفسها بنفسها.
إنّها لفظةُ «الوطن «التي تنصهر غالباً في لفظة «الشّعب»، أو تنقلب إلى طريقٍ أوّلُها:
يحيا العدل،
وآخرها: يحيا القتل!
- 8 -
أين تكمن جوهريّاً، هويّةُ الإنسان:
في ما يقْبَلُه،
أو في ما يرفضُه،
أو في ما يبتكرُه؟
وهل يصحّ هذا السّؤال في بلادٍ يكادُ كلُّ فردٍ فيها يعيش في جلْدٍ ليس جلده الحقيقيّ؟
- 9 -
هل الإنسانُ مَقودٌ في كلّ لحظة من لحظات حياته، إلى أن يكون متناقضاً مع نفسه، أو أن يكون نفسَه ونقيضَها في آن؟
هل يمكن، من جهةٍ أخرى، أن يكونَ جديداً، وغيرَ ما هو كلّ لحظة؟
وإذا كان غيرَ قادرٍ على ذلك، فهل يمكن القول عنه إنّه موجودٌ حقّاً؟
ولا ننسَ أنّ تاريخنا يعلّمنا أنّ جميع الذين حاولوا أن «يغيِّروا ما بأنفسهم» - لكي يتجدّدوا، دائماً، نُبِذوا جميعاً، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، وذلك باسم الثّقافة الآمنة المطمئنّة، اليقينيّة، الثّابتة.
-10 -
لا يمكن إحداث منعطف أو تحوُّلٍ جماليّ إلّا بقطيعةٍ مع نظام الفكر السّائد.
- 11-
للنّواعير عبقريّةٌ هائلةٌ هي عبقريّةُ التّكرار. وهي صادقةٌ في كلّ ما تقول.
أمسِ، قالت:
«لا أحد يريد الحرّيّةَ إلّا لنفسه،
ولا يريدها لكي يزداد حريّةً،
يريدها لكي يزداد قدرةً على استعباد غيره.»
- 12-
يبدو لي في ضوء هذه التأمّلات المتنوّعة أنّ الثقافة العربية السّائدة بدأت تشكِّل خطراً يتزايد بسرعة. ويبدو أنّ المؤسَّسة العربية لا تريد أن تشعر أو أن تعترف به. المظهر الأوّل لهذا الخطر هو أنّ التقنية تستعبد الثّقافة. أو لنقُلْ إنّ العلاقة بين الثّقافيّ والتقنيّ تكاد تصبح علاقة استرقاق. يكفي، في هذا الصّدَد، أن نلاحظ أمرين:
الأوّل، هو مكان الثقافة في وسائل الإعلام، وفي المؤسّسات.
والثاني هو كيفيّة النّظر إلى الثقافة، ومستواه، فيها.
الكتاب في الحالَين سلعة. اللوحة سلعة. الأغنية سلعة: يزداد سعر هذه السّلعة طرداً مع نقص مستواها إبداعيّاً. والمعرفة في الحالَين تتحوّل إلى خبر وإعلام.
وحيث تهيمن ثقافة الخبر، تهيمن ثقافــة الجهل. وقد أتاحت التقنية للعربيّ، وللمسلم بعامّةٍ، أن يُحِلَّ السيّارة، مثلاً، بوصفها وسيلة سريعة للنقل والانتقال محلّ الحصان أو الجمل. وكان عليه، منطقيّاً وطبيعيّاً، أن يُحِلّ المبادئ العقلية التي أدّتْ إلى ابتكار السيّارة محلّ المبادئ المرتبطة بثقافة التقليد والماضي وانعدام الابتكار. فما السبب الذي حال دون ذلك؟ تلك هي المسألة.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد