أسامة غنم أعاد هارولد بنتر إلى دمشق
بين مقهى Pages في ساحة النجمة، ومقهى فندق «برج الفردوس»، يمضي أسامة غنم أوقاته بصحبة ورشته المسرحية، قبل أن يتسللوا إلى قبو الفندق لاستكمال بروفات عرضهم «العودة إلى البيت». خمسة أشهر من البروفات الشاقة، والنقاشات، والمقترحات في كيفية مناوشة نص هارولد بنتر وإعادة اكتشافه من موقعٍ مغاير. النص الذي كان علامة فارقة في ستينيات المسرح البريطاني لجهة إطاحة النسق والتقاليد الشكسبيرية تحوّل في نسخته السورية إلى فضاء آخر يسبق الأزمة الحالية.
بالطبع، لم يكن العمل على نص من هذا النوع سهلاً، ذلك أنّ نصوص صاحب «الحارس» تنطوي على مفارقات لغوية، وإشارات مبهمة، وعبارات ملغّزة، وأسئلة قلقة تتعلّق بالفرد وتقاطعاته مع محيطه. سنلتقي في قبو البروفات نفسه شخصيات غرائبية تعيش تمزّقات غير قابلة للترميم، وحياة مقطّعة الأوصال. الأب العجوز الذي كان يعمل جزّاراً (محمد آل رشي)، يحاول استعادة سطوة مفقودة أمام أبنائه، مستعرضاً أمجاده الآفلة، من دون أن تلقى اهتماماً، فيتصنّع مشاجرات عنيفة لكسر عزلته وهشاشة حياته بعد موت زوجته. هذيانات كلامية معلّقة في الفراغ، يصعب التقاط فحواها بدقة، لكن هذا المناخ المشحون بالقسوة والعبث والألفاظ السوقية الخشنة سيتراجع بوصول الابن المهاجر (جمال المنيّر) وزوجته (نوّار يوسف).
عند هذا المنعطف الحاسم، تهتزّ مركزية الذكورة في البيت، وتتخذ اللغة منحى آخر، يتفاوت بين الحميمية المفتقدة، والانتهاك البهيمي، كما تبتعد المسافة بين الأفراد، تبعاً لرغباتهم المتباينة تجاه وجود امرأة في بيت قاحل. في المقابل، تختبر المرأة أنوثتها، سواء نحو زوجها، أو حيال أشقائه، بالإضافة إلى حيرتها بين البقاء أو العودة، لتقرر أخيراً البقاء، فيما يعود زوجها وحيداً. سوف تتكشف سلوكيات متباينة تقع في خانة الاحتضار الأخلاقي، رغم تغليفها بمواقف مضادة، إلى أن يفجّر العم (كامل نجمة) لغماً قديماً، حين يفشي سرّاً يتعلّق باغتصاب زوجة شقيقه العجوز، لتتوالى وقائع أخرى تميط اللثام عن طهرانية كاذبة تجمع هذه العائلة المتشظّية. أحد الأبناء يعمل قوّاداً (مؤيد روميّة)، وهذا ما يجعله يساوم زوجة شقيقه للعمل كعاهرة لديه. أما الشقيق الأصغر (مجد فضة)، الذي يعمل ممثلاً ناشئاً، فيعيش حياةً أوديبية، تتناوبها الرغبة بزوجة شقيقه، وحاجته لها كأم، وتكتمل دائرة العري الأخلاقي بإعلان الأب رغبته بعلاقة مع زوجة الابن. لا تكفي القراءة السيكولوجية وحدها في نبش مصائر هذه الشخصيّات وتطلعاتها الحياتية في مكان مغلق وكتيم ومعدني، عدا لحظات قليلة في الخروج والدخول للاشتباك مع المحيط الخارجي، وخصوصاً العم سائق التاكسي الذي يستدرج وقائع يومية إلى حياة شقيقه العجوز المتقاعد. وإذا بنا ندخل متاهة مكان أكثر ضيقاً، من مكان العيش، وهذا ما يقود إلى احتكاكات وصدامات عنيفة بين الشقيقين، على خلفية ذاكرة مشتّتة تفصح عن حياة تقف على حافة الهاوية. لن يشعر المتفرّج، بعد ثلاث ساعات (مدة العرض ـــ بدعم من «الصندوق العربي للثقافة والفنون»، و«صندوق شباب المسرح العربي») بمسافة تفصله عن حياة هؤلاء الأشخاص الذين التقى بعضهم على الأرجح في شارع، أو مقهى، أو سوق، فالشتائم السوقية التي تتعالى على خشبة المسرح، والعلاقات المحرّمة، وموجودات الحياة اليومية، تتسرّب من فم العجوز الخرف، بالحدّة نفسها التي يستدعي بها أحاسيسه العاطفية المخبوءة، في طبقات لغوية (كرونولوجية)، هي جوهر نصوص هارولد بنتر عبر الحفر في الذات، بديلاً من الفضاء الخارجي. هكذا تبطن اللغة مستويات من العنف والتوتّر والصمت، بموازاة حركة الجسد ورغباته المكبوتة، أو ما يسميه بنتر «القتال الحميمي». لكن هل بإمكاننا التقاط خط سير واضح، لكل واحدة من هذه الشخصيات باطمئنان؟ ربما، علينا أن نستعيد العبارة الأولى في العرض «أين المقص؟». المقص هنا ليس مجازاً عابراً، بقدر ما يضيء المساحات المعتمة في اللغة المقطّعة الأوصال، مثل حياة هذه العائلة. فما يبنيه المتفرج للحظة، ينسفه موقف لاحق في اشتغال صميمي على خاصية الكتابة والمحو، الحب والكراهية، الصدام والسخرية، أو ما يدعى «كوميديا التهديد». من ضفةٍ أخرى، تكمن جاذبية العرض في استخدام العامية المحليّة من دون أن يخسر عمق لغة النص الأصلي وإيحاءاته وطبقاته عبر مفردات وأمكنة وذاكرة دمشقية، ذاكرة القاع في المقام الأول، أو الواقعية الخشنة، بمواجهة أفكار غامضة، حاول أستاذ الفلسفة شرحها للآخرين، لردم المسافة بين عالمه الشخصي وحياة أفراد عائلته، من دون أن يصل إلى نتيجة، فيقرر العودة المضادة. سنتذكّر طويلاً الحضور الاستثنائي لمحمد آل رشي الذي برع في أداء دور صعب ومركّب، يضاف إلى منجزه السابق في «المهاجران»، و«الشريط الأخير»، فيما لعبت نوّار يوسف دورها بحساسية عالية تتأرجح في المنطقة الفاصلة بين الصخب والصمت، أما مفاجأة العرض، فكانت شخصية العم التي لعبها كامل نجمة بكل مراياها المتعددة والشائكة، من دون أن نتجاهل الطاقات الخفيّة لجمال المنيّر، وبقية أعضاء الورشة.
«العودة إلى البيت»: حتى اليوم على أن تقدَّم العروض مجدداً في موعد لاحق ـــ فندق «برج الفردوس»، دمشق ـــ للاستعلام: 00963934836104
سيرة
حالما أنهى دراسته العليا في باريس عن «المسرح الفرنسي المعاصر» (1995)، حاول أسامة غنم (1975) أن يلقي حجراً في المياه الراكدة للمسرح السوري، فالتفت إلى النصوص التي تقع في الجوار. عمل دراماتورجياً في مسرحية «المهاجران» مع المخرج سامر عمران (2008)، عن نص للبولوني سلافومير مروجيك، ثم خاض تجربته الإخراجية الأولى في «الشريط الأخير» لصموئيل بيكيت (2009) ثم «حدث ذلك غداً» (2010) بتوليفة من نصوص معاصرة. وها هو يوقّع عمله الثالث أخيراً «العودة إلى البيت». هذا النص كان حصيلة ورشة عمل في «مختبر دمشق المسرحي» لطرح أسئلة جوهرية في تطوير حساسية الممثل، واختبار أنماط كتابية لطالما كانت في الظلّ عن طريق البحث وتأصيل جماليات اليومي.
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد