أناييس نين... كاتبة بورنوغرافيّة
لا تحفل المكتبة العربية بأعمال الكاتبة الأميركيّة (الفرنسيّة الأصل) أناييس نين (1903ــــ1977)، فعدا شذرات متفرقة من يومياتها التي تربو على سبعة مجلدات، وترجمة لروايتها «كولاج» (دار ورد)، لن يجد القارئ صورة واضحة عن أعمال هذه الكاتبة المثيرة التي قورنت بمارسيل بروست لجهة إطاحتها البنية التقليدية في الرواية، وترك العنان لشخصياتها بالتجوّل في المكان والزمان بحرية مطلقة في محاولتها وصف الحياة بكل صفاء الحلم المبعثر، وبأسلوب تحريضي ونثر محكم ومقتصد.
«دار المدى» أماطت اللثام أخيراً عن أحد أكثر كتب أناييس نين جرأةً: إنّه «دلتا فينوس» (تعريب علي عبد الأمير). في المقدمة تروي نين ظروف كتابة مجموعة القصص الإيروتيكية تلك، بناءً على طلب رجل ثري جامع كتب، عرض على الروائي الأميركي هنري ميللر عام ١٩٤٠ كتابة نصوص إباحيّة... وكان أن انخرطت أناييس في المشروع أيضاً للخروج من الحالة المادية الصعبة التي كانت تتخبّط فيها. وكانت تعرّفت في باريس الثلاثينيات، إلى صاحب «مدار السرطان» الذي كان يعيش حياة بوهيمية. ومنذ اللحظة الأولى، أحست أنّها تفتقد إلى هذا العالم الغرائبي، فقد كان رفاق ميللر قطّاع طرق ومومسات ومدمني مخدرات، وبدا لها أنّ حياة القاع ستفتح أمامها الأبواب الواسعة لحياة لم تألفها بصحبة زوجها المصرفي الصارم... هكذا ارتمت في علاقة عاصفة مع الكاتب الأميركي الذي لم يكن بلغ شهرته آنذاك.
وتذكر نين في يومياتها أنّ الملياردير الغامض كان يمنح ميللر مئة دولار شهرياً ليكتب قصصاً إيروتيكية. وقد بدا ذلك أشبه بعقاب دانتي: أن تكتب أدباً إيروتيكياً مقابل دولار للصفحة الواحدة. كان ميللر يرى الكتابة بحسب الطلب مهنة المخصيّين.... لكن الحاجة دفعته إلى اختراع قصص جامحة، لم تكن من صلب عمله، ولم يضع توقيعه عليها أبداً. وقد أورثته هذه المهنة السرّية الكآبة والضجر. ذات مرّة كان ميللر يحتاج لمبلغ يغطي نفقات سفره، فطلب من نين أن تكتب شيئاً في غيابه. هكذا، دخلت صاحبة «شتاء الخديعة» هذا الحقل الفريد لتكون أول كاتبة تقتحم الكتابة الإيروتيكية من دون مواربة. صحيح أنّها لم توقّع قصصها باسمها الصريح آنذاك، لكنها تمكّنت من ابتكار جنس أدبي كان آنذاك حكراً على الرجال.
في اتصال أجرته نين مع الرجل الذي لم تقابله أبداً، بدا متحمساً لأول قصة كتبتها: «إنها كتابة رائعة. إنما اتركي الشعر ووصف الأشياء كلها، وركزي على الجنس». تقول نين: «بدأت الكتابة بلغة وقحة، كي أغدو غير مألوفة، وبالغتُ كثيراً في وصف الجنس، وخصوصاً أنني قضيت وقتاً طويلاً في المكتبة أدرس الكاماسوترا الهندية، مصغيةً إلى مغامرات موغلة في الإسراف الجنسي». كانت متيقنة من أنّ الرجل العجوز لا يعرف شيئاً عن النشوة وسعادة الحب، فهو يرغب بكتابة تخاطب الغريزة، بمعزل عن تأثير الحواس الأخرى. وحين قبضتْ أناييس أول مئة دولار مقابل نصوصها الإباحيّة، تقاسمت المبلغ مع الأصدقاء المحتاجين، وكان هنري ميللر أحدهم طبعاً.
التجربة التي بدأت أشبه بدعابة وتسلية، وكان الدافع إليها الحاجة إلى المال، كشفت لدى نين بعداً آخر يتجلى في خصوصية كتابة المرأة عن الجنس، في حقل لم يُختبر قبلاً. فهناك اختلاف واضح بين المعالجة الذكورية والمعالجة الأنثوية للتجربة الجنسية. في كتاباتها، تطغى الشاعرية والغموض على طريقة الوصف، ونستشف أسراراً حسية خاصة بالمرأة، على عكس ما نقع عليه لدى ميللر. إذ كانت كتاباته شديدة الوضوح على خلفية هزلية: «النساء، في اعتقادي، أكثر ميلاً لأن يدمجن الجنس مع العاطفة، مع الحب، مع الإحساس، لكنّنا لم نتعلم حتى الآن كيفية الكتابة عنه. لغة الحواس لم تُستكشف بعد».
15 قصة مترعة بالخلاعة والبورنوغرافيا والمكاشفات الحسيّة والإثارة، هي حصيلة تلك التجربة الاستثنائية، لكاتبة ظلت حتى فترة طويلة تبحث عن ناشر لكتبها الأخرى «الجدّية». ما اضطرها إلى أن تعمل في مطلع حياتها راقصة في نادٍ ليلي، و“موديل” للرسامين والنحّاتين، وأن تتشرد بين باريس ونيويورك بعدما هجرت المدرسة باكراً (نجد أصداءً لهذه المرحلة من حياتها في قصصها اللإاباحيّة).
لكنّ نين لم تخرج من تلك التجربة من دون انتقام. كتبت لجامع الكتب الغريب الأطوار، رسالةً طويلةً كانت أقرب إلى التحليل النفسي منها إلى الهجاء: «أنت لا تعرف ماذا تفقد من خلال عزلك المجهري للنشاط الجنسي، وإقصاء الملامح الإنسانيّة التي هي وقوده الفعليّ. أي البعد الفكري والخيالي والرومانسي. إنّه ما يهب الجنس صفاته المميزة المدهشة، وتحوّلاته الحاذقة. أنت تقلّص عالم أحاسيسك، تذبله، تجوّعه، تفرّغ دمه»... وتختتم رسالتها كالآتي: « إذا كنت أغلقت حواسك، وأغفلت الحرير والضوء واللون والرائحة والشخصية والمزاج، فلا بد أنك الآن ذبلتَ كلياً. وحدها الخفقة المشتركة بين الجنس والقلب معاً تستطيع أن تخلق النشوة».
تعترف نين بأنّها اقتحمت الكتابة الإيروتيكية في البدء بأسلوب سردي مستمد من قراءات لأعمال الرجال، وخصوصاً دي. إتش. لورنس الذي خصّته بكتابها الأوّل (١٩٣٢). هذا الكاتب الذي منح الغريزة لغةً عميقة وأصيلة. لكنّ البعد الذاتي لن يلبث أن يأخذ مكانه: «إنّ صوتي الخاص لم يقمع كلياً. في بعض قصصي استخدمت بديهياً لغة امرأة، ورحت أنظر إلى التجربة الجنسية من وجهة نظر امرأة. قررتُ أخيراً أن أطلق سراح الإيروسيّة الكامنة في داخلي، فقمت بالخطوات الأولى لامرأة في عالمٍ كان مُلكاً للرجال».
«ورشة الدعارة الأدبية» كما أسمتها أناييس متهكمةً، فتحت الباب على مصراعيه في أربعينيات القرن العشرين للأدب الإباحي، وأسهمت في تشجيع عشرات الناشرين على إطلاق المجلات الإيروسية. وكما علقت لاحقاً: «الجميع جعلوا يكتبون تجاربهم الجنسية. تجارب مُخترعة، لا أحد يعرف ما إذا كانت صحيحة أم ملفّقة».
- كاتبات عربيات على خطاها... بعد نصف قرن
في «دلتا فينوس»، تقتحم أناييس نين عالماً سرّياً وتضيئه من الداخل، باستسلام الراوية للنزوات والأهواء والرغبات. وتكشف عن شخصيات تتحكم بحياتها الشهوانية، وتحكي عن اقتناص لحظات اللذة أينما كانت، في الأسرّة وتحت الجسور، في الشوارع المظلمة وفي القصور. صحيح أنّ نين كتبت هذه القصص تحت ضغط الحاجة إلى المال، لكنّها دشّنت نوعاً أدبياً نسوياً، ستقتحمه أخريات بعد عقود بوصفه ملاذاً لحرية كانت مفتقدة ومحرّمة، وعفّة فرضتها القيم الاجتماعية الصارمة. لعل الكتابات الأنثوية العربية اليوم، في تجرُّئها على المحظور، تدين بالكثير إلى تلك الأديبة الجريئة التي سبقت عصرها، كاشفة عن احتدامات الجسد المشتعل وانفعالاته من دون وجل. هناك مسافة نصف قرن بين مكاشفات أناييس نين والتمارين الإيروتيكية العربية التي تُحاكم بقسوة، تحت بند خدش الحياء العام. لعلها فرصة للمقارنة؟
بعد وفاتها بالسرطان (1977)، قفزت كتب أناييس نين إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وبريطانيا: «بيت السفَاح» (1936)، «جاسوسة في بيت الحب» (1954)، إضافة طبعاً إلى «اليوميات».
تقول نين: «إن لم تتنفس عبر الكتابة، إن لم تصرخ في الكتابة، أو تغنّي في الكتابة، إذاً لا تكتب». هكذا، كانت فلسفة هذه الكاتبة التي صادقت أبرز كتّاب القرن العشرين: هنري ميللر، أنتونان أرتو، غور فيدال، لورنس داريل. سوريالية كتبت هذياناتها بأقصى طاقة الروح، وحسيّة إلى ما فوق الخطوط الحمر. ألم تقل يوماً «ارمِ أحلامك في الفضاء، كما ترمي طائرة ورقية، فأنت لا تعرف ما الذي ستعود به، حياةً جديدة، صديقاً جديداً، حباً جديداً، بلداً جديداً».
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد