أنسي الحاج: إقطاعات إبليس الإلهية
عن أبي امامة نقلاً عن الرسول محمد: «إن إبليس لمّا نَزَل إلى الأرض قال: «يا ربّ أنْزَلْتَني وجعلتني رجيماً فاجعلْ لي بيتاً، قال: الحمّام، قال: فاجعل لي مجلساً، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعلْ لي طعاماً، قال: ما لم يُذْكَر اسم الله عليه، قال: فاجعلْ لي شراباً، قال: كل مُسْكرٍ، قال: فاجعلْ لي مؤذّناً، قال: المزمار، قال: فاجعلْ لي قرآناً، قال: الشعر، قال: فاجعلْ لي خطّاً، قال: الوشْم، قال: فاجعلْ لي حديثاً، قال: الكذب، قال: فاجعلْ لي مصائد، قال: النساء».
لو كنتُ رسّاماً أو نحّاتاً لما استطعت أن أتجنّب بسهولة هاجس تصوير الوجه. هاجس خصب. كنت أقرأ في كتاب «مقاربات فلسفية» لإيلي نجم مقالة بعنوان «الفن من دون مواضيع» حول الفن التجريدي حيث يورد كلاماً للرسّام الروسي فاسيلي كاندينسكي يسأل فيه: «ما الذي يجب أن يحلّ محل الموضوع؟»، ويجيب: «الضرورة الجوّانية»، بمعنى أن مصدر الجمال هو الضرورة الجوّانية التي تقوم في النفس البشريّة. وبعد أن ينفي (كاندينسكي) أن يكون الموضوع المادي أو الملموس غاية الفنّ، يؤكّد أن اللون هو محتوى الفن وجوهره وروحه.
«الضرورة الجوّانية» حافز كلّ الفنون، لا الرسم التجريدي وحده. في بعض اللوحات التجريديّة من الفراغ والسطحيّة ما يؤكد أنْ ليس لها علاقة ولا بضرورة. نعود إلى المادي: حتّى الظل لا يخلو من العنصر «المادي الملموس». «المادي الملموس» ليس هو الغاية لكن الغاية قد تمرّ به، وهو مصير جميل من مصائر التعبير حين يَصْدر من «ضرورة جوّانية»، وقد بلغ بفضله فن الرسم قمماً لم يبلغها سواه من مذاهب التعبير، لا قبل التاريخ ولا خلاله. ما نسمّيه الروح هو شعاع منبعث من طاقة. والمجهول ما كنّا لندري بوجوده لولا «التعبير» عنه. التعبير هو دائماً محسوس. إنما اللون جزء، مهمّ ولكن جزء، سواء من خريطة الخارج أو من خريطة الداخل. قد تبدو لك هذه اللوحة التجريديّة أو تلك أجمل ما وقعتْ عليه عيناك وتشعر، مع هذا، في مكان ما، بنقص. في ما أقوله هنا هرطقة مضادة للحداثة، وينطوي على مخاطرة سوء فهم. أليس الانحياز إلى الشكل الجسدي أو اللحمي في الصورة تسويغاً لواقعيّة فوتوغرافية وللأكاديميسم؟ قد يكون هكذا بالتجريد وبعدمه. التحجّر والتقليد موجودان عبر كل التيارات وفي جميع العصور. الحنين هنا هو إلى عودة الشخص إلى اللوحة. عودة من الداخل الجواني طبعاً، ولا حاجة إلى قولها. ليس هناك انبثاق من الخارج البرّاني، شئنا أو أبينا، فلا نحوّل الأمر إلى ذريعة لعكس ما ندّعي.
مع شيء من المبالغة نستطيع القول إن الفنون كلّها نزعة إلى «تجسيد» الجوّاني، إلى بلورة الشعور والخيال والعاطفة. لولا ذلك لاكتفى الإنسان بالإشارة أو الثرثرة.
مرّة أخرى، على سذاجة السؤال، كيف يمكن طمس هاجس الوجه؟ هل تحل ألوان أو خطوط، ودائماً، محل الجسد بوجهه وعينيه؟ محل الجَسَد بتموّجات بَشَرته؟ «هناك معبد واحد في العالم، إنه الجسم البشري» (نوفاليس).
شِعر المتصوّفين نفسه حسّي ومحسوس. صلواتهم يعروها زبَد الشبق. اللّه لديهم معشوق فوّاح الرائحة. انتشاؤهم الشديد به يكاد يُجْرَع. لم يَهِمْ بالوجه فنّ كالرسم. لا الشعر ولا الموسيقى. جَعَل البشر يعبدون جماله ويرون في الإنسان أعمق وأقوى بكثير ممّا كانوا ينظرون. فجأة غاب الوجه. قُطِع رأس اللوحة.
الوجه الذي تكرّر مئات السنين عبر مئات الروائع لم يتكرّر إطلاقاً بل كان على الدوام يفاجئ. ما حلّ محلّه باسم الجوّانية ما هو بهذه الجوّانية. معظمه برّاني. الألوان ألوان، الخطوط خطوط، الوجه جوهر. الوجه لغز الألغاز ولا ينتهي.
الوجه هو الجوّاني.
أقرأ في كتاب سحر مندور «سأرسم نجمة على جبين فيينا»: «أنا لا أحيا إلاّ كي أُخْبرك». أول قصة لهذه الصحافية البركانيّة. هجوم وهزء، لغة تتخانق، صدْق يُسابق نَفْسه. وفي الطيّات خَجَل مُغلَّف بالاستفزاز، جرأة تزيدها حدودُها إحباطاً.
حين تَسْتغرق في صفاء ذاتها تُطلّ على هاويات مقلقة. تحلّق إذا تجاوزت التَمَسْخُر الواقي من التوغّل، المُعْفي من الجديّة الطويلة النَفَس. أحياناً ينطبع فيك أنها تهرب من عنفها إلى هزيمة، ومن غَلَيان مَسْرح نَفْسها إلى لَغْو التنفيس الفوري. تراوغ حين بإمكانها أن تُحدّق. من العنف إلى الهزيمة موقف خطير، ولكنْ من صراع الغليان النفسي إلى التنفيس الســــريع الساخر طريق خَطِر. ملاحظة تنسحب على معظم القصص العربيّة. التنكيت تغميز. من مساوئ الرواية هذا التغميز. الكاتب يُضَحّك القارئ على حاله وعلى أشخاصه بدلاً من ضائع التركيز والمتابَعَة، عوض الغوص غير المتواطئ مع جمهور. قليلة هذه التغميزات في «سأرسم نجمة على جبين فيينا» وكثيرة في القصص والروايات العربية الأخرى. العربية وغير العربية. وقد وصل مدّها إلى بعض الشعر. يجب أن لا نكتب كما نَسْهر ونُجَعْدن مع الأصحاب بل كما نستحمّ جسداً وروحاً. عند سَحَر منـــدور طاقة أكيدة على هذا الغوص، ولغتها الشغوفة الحارقة لا تنتظر غير أن يطل هــــذا الداخــــلي فــــــيها ويباشر تدفّقه تحت شمسه.
موهبة بدأت تتملّص من تملّك الإغراء الصحافي ــــــ حيث دوماً تَلْمع ــــــ لتَفْتح أبوابها الأخرى، فتكتب ما يتّسع أكثر لعوالمها الباطنة، للجوانب الدامسة، للحمم والتمرّدات. موهبة بالكاد شَرَعَتْ تُسفر عن ذاتها، وأقوى ما فيها وأكثره وعداً وخَطَراً أنها غافلة عن ذاتها.
علينا بالقصة، قصيرها وطويلها. في الحنايا رؤى وأدوار ودواخل وتجارب، وتحت اللسان كلام كثير يريد أن يتدفّق. لا حاجة إلى الحضّ على الشعر فالأكثرية تميل إليه. لا ننفّس بالشعر ما نعمّره في الرواية. الرواية لا الأقصوصة. الرواية فنّ المدن. الشعر طائر جميع الأقاليم. الرواية شبح المدينة. الرواية بكل أنواعها، من الشعبي إلى الدراماتيكي إلى الجرائمي إلى الأسود إلى الوردي. بنا عَطَش إلى مكابدة مشاكلنا وحوادثنا عَبْر أشخاص ومواقف وحوارات تقول كلّ شيء، تدقّ على بوّابات الأزمنة والأرواح وتقتحم الأسرار. لتجدْ الرواية لغاتها، مناخاتها، قرّاءها. لتستوعبْنا.
أعطى الشعراء الشعرَ حرّيته، لتعطِنا الرواية حرّيتنا!
بعد الحروب والكوارث، أو بعد حوادث دراماتيكيّة خاصة، «يظمط» بعض من كانوا مرشّحين للموت. يتحدث جان بول سارتر عن هذه الفئة ويسمّي أصحابها «الناجين» (سورفيفان). المتخلّفون عن موتهم.
في عالم الكتابة (وسواه) صرنا كثيرين من هذه العائلة. (الحرب. اليتم. الحرب. الفقر. الخصام المدمّر مع الذات...). عائلة المتحاملين على أنفسهم، الأطياف، الطواف حول قبور الذكرى. قد لا نلام ولكننا نُضيّق الصَدْر. قراءة الشباب والصبايا غير «الناجين» تَلْفحنا ببرودة هواء الأنهار. نمتصّ من إقبالهم على الحياة والكتابة، دمَ الصباح. كالفامباير. إنه حلْفُنا الممكن مع الشيطان. حين أقع على كتابة قويّة لشاب أو صَبيّة أشعر بأني لم أَنْجُ للاشيء. حيويّة هذا الجيل شرعيّة، غير ممدّد لها سهواً. الحياة في شرايينهم وفي مقاربتهم للكلمات تعيد وَصْل العيون بالدهشة. رغم تكرار الحياة، تكرار العيون، وتكرار الدهشة. ورغم تكرار الخيبة. كلّما قام وليدٌ متوهّج بدأت معه الحكاية من جديد. المَلَل لا يأتي من الإعادة بل من الانطفاء. الطالعون نجومُ صباح، لا يُنسوننا أعمارنا فحسب بل موتَنا. إذا تاهت أرواحهم فتيه الشَغَف، تيه المغامرة والاكتشاف، تيه الرقص مع العاصفة وقرع الأبواب المخيفة، لا تيه المترحّمين على أنفسهم المفقوءة عيونُ غدهم.
ليس في لبنان جيلان، شيوخ وشبان، بل شعبان: شعب الناجين وشعب المولودين. ونحن الشعب الأول نتطلّع إلى الشعب الثاني تطلّعَ غياب طال نَزْعُه إلى شروق ساطع متوحّش يغمر الأرض ويَدْفن ما يجب أن يُدْفَن.
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد