أوروبا تحشد استثماراتها لدول اللجوء: «فتوحات» اقتصادية أم ضمادة للعجز؟

19-09-2016

أوروبا تحشد استثماراتها لدول اللجوء: «فتوحات» اقتصادية أم ضمادة للعجز؟

لو كان الأمر يتمّ في غير زمن المصارف، لكان يفترض أن تعبر الأطلسي برفقة الوفد الأوروبي بواخرُ تحمل الأوراق المالية. المناسبة تستأهل انهماك الاتحاد الأوروبي، ثم إرسال وفده الكبير الرفيع المستوى: قمتان دوليتان حول اللاجئين والهجرة تستضيفهما نيويورك، واحدة تنظمها الأمم المتحدة وثانية يرعاها الرئيس الأميركي باراك أوباما، حيث ستناقش قضيةً تشكل الشغل الشاغل لكهنة المشروع الأوروبي.
لأن الأمر للمصارف، يحمل وفد كبير من المسؤولين الأوروبيين مشروعاً مالياً يبتغي الإدهاش: إنها خطة لحشد عشرات المليارات، تعد بإحداث فتوحات استثمارية في الدول النامية الهشّة، بما في ذلك عمليات إعادة الإعمار بعد الحرب. المقصود طبعاً الدول المولّدة لموجات اللجوء والهجرة، ودول تشكّل معبراً لها. مع ذلك، هناك تقديرات مختلفة، بين اعتبار الخطة منعطفاً سياسياً واقتصادياً بمعنى الكلمة، وبين من يراها مجرد ضمادات لتغطية عجوزات محرجة.
من حيث المبدأ، هناك ما يستدعي خطة كبيرة من جهة بروكسل. القضية لا مزاح فيها أبداً، فقضية «أزمة اللاجئين»، كما يسميها الأوروبيون، ساهمت إلى حد كبير في انكشافهم. أزمة فوق أخرى، ثم باتوا أمام «تحدٍّ وجودي»، كما قالوا، مع حكومات تكافح لردّ موجة اليمين المتطرف الزاحف قاصداً الاستيلاء على الحكم بأشنع حملات العنصرية والتخويف.
على كل حال، الخطة الجديدة تستهدف نطاقاً جغرافياً عريضاً، مع إلحاح على أن الأمر يخص التنمية، المنفعة المتبادلة، وليس موجهاً حصراً لمعالجة «الأسباب الجذرية للهجرة» كما درجت خطابات سابقة. الأموال كبيرة. يعد الاتحاد الأوروبي بحجم استثمارات تصل سقف 90 مليار يورو، عبر إغراء القطاع الخاص الأوروبي للاستثمار «الخطر»، مع توفير الضمانات المالية والسياسية للاحتياط من الخسائر ولايصال الأموال إلى برّ الأرباح.
أطلق على المشروع الضخم عنوان «خطة الاستثمار الخارجي»، لتبدو رديفاً لاسم جهاز العمل الخارجي الذي ينسّق السياسة الخارجية الأوروبية. لذلك ستكون الخارجية الأوروبية في مقر عمليات القيادة، تتقدمها رئيستها فيدريكا موغيريني التي قالت إن الخطة تمثّل «أداة جديدة لمواجهة تحد غير مسبوق». استعرضت الديبلوماسية الإيطالية آفاق المنافع الواعدة للشركات الأوروبية، بما يعني وظائف أيضاً لتجفيف البطالة المستحكمة في دول أوروبية، قبل أن تستدرك «لكن لتوسيع الأعمال والانتقال إلى بلدان جديدة، غالباً صعبة جداً»، يحتاجون (القطاع الخاص) الأمن والحماية من الناحية المالية والقانونية والسياسية أو بالنسبة لعدم الاستقرار. لذا يمكننا توفير الضمانة لهم، وهذا ما ستفعله الخطة».
الحماية المالية ستوفرها «ضمانات مبتكرة» جرى استلهامها من تجربة سابقة. تستند الخطة إلى نموذج الخطة الاوروبية للاستثمار، التي أطلقت العام الماضي لمعالجة أزمة البطالة. معدلها في منطقة اليورو وصل 10 في المئة، لكن دولاً مثل اسبانيا واليونان بلغت بطالة الشباب فيها 50 في المئة. أطلق الاتحاد خطته مستهدفا حجم استثمارات قدره 315 مليار يورو. بدا الأمر حينها أشبه بألعاب سحر مالي، لكن بروكسل تعلن الآن نتائج: ثلث الهدف تحقق بعد عام من تشغيل الخطة، إذ تمّ ضخ استثمارات وصلت إلى 116 مليار يورو، دعمت مشاريع لنحو 200 ألف شركة في دول الاتحاد.
على المنوال ذاته، يستخدم الأوروبيون فلسفة عمل المصارف، لانشاء مصرف سياسي آخر، لكنه موجَّهٌ للخارج. مثلما يطلب من المصارف توفير رأسمال صلب، يبلغ إجمالاً عُشر بحر الأموال التي تشغّلها، سيقدم الاتحاد رأسمال يمثّل ضمانة لمن يريد الاقتراض والذهاب في الطريق المرسومة للاستثمارات الموجهة سياسياً. تضع بروكسل ضمانة 5.3 مليارات يورو، تمكّن «بنك الاستثمار الأوروبي» (الذراع المالية للاتحاد) من عمليات إقراض تصل إلى 44 مليار يورو.
تبقى المساهمة مفتوحة أمام الدول الأوروبية منفردة، مع تشجيع بأنها يمكن أن تقدّم الضمانة للخسارة الثانية، لتأتي بعد ضمانة بروكسل. إذا قامت تلك الدول بمساهمة تكافئ الضمانة الأوروبية، يتوقع مهندسو المشروع أن عمليات الاقراض يمكن أن تصل إلى 88 مليار يورو.
كل هذا يبقى في مدار التخطيط. لكن هل من الحكيم الاقتداء بخطة استثمار أوروبي، في بلدان هانئة، لبناء خطة تذهب إلى بلدان محفوفة بالحروب والنزاعات إذا لم تكن في قلبها؟
 السؤال وجهته «السفير» لمسؤول أوروبي من المشاركين في بناء تلك الباخرة المالية، فردّ عارضاً تفاؤل لغة أرقامه: «بالطبع هناك مخاطر أكبر، لكن أعتقد أنه خيار حكيم. أعتقد أنه يمكننا الوصول إلى إقراض 44 مليار يورو، فيما نوفّر ضمانة تشكّل 11 في المئة. هذه توقعات مبنية على تجارب إيجابية في الماضي، ونعتقد أننا قمنا بتقييم صلب»، قبل أن يضيف: «مجلس إدارة الصندوق الاستثماري يعكس اختلاف المخاطر (عن الاستثمار في أوروبا)، فإضافة للمفوضية نحن نشرك بفعاليةٍ البعثاتِ (الديبلوماسية) الأوروبية لتواكب على الأرض».
المسألة ترتكز أساساً على جعل القطاع الخاص يركب تلك المغامرة الاستثمارية المغرية، لكن بشروط تجعله يحقق الأهداف السياسية لمصمميها. في شكل ما، الأمر يمسّ أيضاً إحداث تغيير سياسي، اقتصادي، في البلدان المستقبِلة للاستثمار، تحت مظلة ضرورة توفير البيئة الجاذبة للأعمال. لذلك ستكون البعثات الديبلوماسية بمثابة المرافقة الضامنة لإنجاز تلك «الاصلاحات»، وللوقوف مع المستثمرين لدى أي مصاعب تواجههم جراء سلوك الحكومات، سواء التشريعي أو غيره.
تلك القضية محرّكُ عملٍ للخطة، لا يخفيه صانعوها. يقولون في تقديمها إن الهدف «تعزيز المساعدة التقنية في البيئة السياسية الأوسع لدعم السلطات العامة والشركات» لإيجاد مناخ جاذب، ألفبائه «تحسين البيئة العامة للأعمال عبر تعزيز الحوكمة الجيدة ومحاربة الفساد وإزالة الحواجز المعيقة للاستثمار وتشوهات السوق».
العقول التي ابتكرت تلك السياسة تقول إن الغاية الأساسية دعم الاقتصاد الأوروبي، لتوليد النمو وفرص العمل. فواضع الخطة الأم، رئيس المفوضية جان كلود يونكر، قال إن الخطوة تمثل ذهاباً بخطة الاستثمار الأوروبية «لجعلها عالمية». يؤكد هذا الاتجاه مسؤول أوروبي ساهم في التخطيط، إذ يقول إن «دول أفريقيا والجوار الأوروبي تشكل عادة سوقاً كبيرة، أعتقد أنها فرصة كبيرة لأوروبا وقطاعها الخاص للوصول إلى هناك»، قبل أن يستدرك مضاعفاً المبتغى: «لدينا سياسات نريد الدفاع عنها، وسياسات مع الدول الشريكة، لذا نريد توجيه القطاع الخاص» للمساهمة في تحقيقها.
هل يمكن أن تفيد تلك المخططات الدول المعنية، فعلاً؟ من حيث المبدأ هذا ممكن. المساس بالفساد، المسؤولون المتمولون على ظهر الدولة، الحكومات التي تحوّل الثروة المحلية إلى إقطاعية خاصة، كلها قضايا مفيدة. لكن من المشكوك أن يمكن للخطة ذلك لأسباب جوهرية. أحد أهم عوامل السماح بمرور الاستثمار الأجنبي، كما أثبت المستوى العالي من البراغماتية الأوروبية، هو استرضاء الحكومات التي يحتاجها الأوروبيون أيضاً لكبح الهجرة واللجوء.
هنا تختلف التقديرات: مهندسو الخطة يقدمونها كأنها تمهيد لفتوحات اقتصادية، لكن آخرين يرونها ضمادات مستعجلة لمواجع حجز مستحكمة ومخجلة للوجه الأوروبي. مصدر رفيع المستوى، واكب مسار ولادة الخطة، قال لـ «السفير» إن «القضية الأساسية هي مواجهة الهجرة لا الاستثمار. لكن الدول الأوروبية عاجزة عن تأمين التمويل من موازناتها، لذلك يحاولون إغراء القطاع الخاص لينهض بالمهمة».
مواضع العجز الأخرى، تحت أغلفة أفق الاستثمار الوردي، ليس أقل من قباحات محرجة. الأوروبيون ذاهبون إلى قمتين معنيتين باللجوء، يحتاجون منهما المساعدة، لكن مع سجل فاحش في ضعف الأداء عدا فظاعته. الأخيرة واضحة للجميع في الصفقة «المشينة» مع تركيا، كما وصفتها منظمات حقوقية دولية، ما جعل اللاجئين يرحلون قسراً من دول أوروبية موقعة على إعلان جنيف لحماية اللاجئين. فوق ذلك، ستطالب الدول الأوروبية العالم بتحمّل مسؤولياته عبر تقاسم أعباء اعادة توطين اللاجئين الأكثر ضعفاً، لأن الأزمة عالمية، على الرغم من أن انقسامهم دفن خطة أوروبية داخلية لتوزيع اللاجئين من اليونان وإيطاليا.
إضمار الخطة الأوروبية لاحتواء اللجوء، كهدف أساس، يبدو واضحاً من تخصيص 70 في المئة من حجم الاستثمارات ليذهب إلى دول المصدّات المطلوبة: الجوار الجنوبي، لبنان والأردن على رأسه، مع دول غرب البلقان. من ضمن الأهداف السياسية، الاقتصادية الواعدة أيضاً، أكد مسؤول أوروبي أن مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب مشمولة أيضاً. لا داعي لإعمال الخيال، فالأوروبيون يطالبون بالجلوس على طاولة تقرير مستقبل سوريا، واعدين بحمل استراتيجية خاصة لهذا الغرض بالذات.

وسيم إبراهيم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...