إدغار آلان بو شاعر الأحلام الغامضة
تتأسس فلسفة إدغار آلان بو الجمالية، في الشعر كما في النثر، على ديمومة الأثر، المتأتية من تناغم أجزاء النص وتلاحمها، وتقابل حوافه وتوازنها، وتراسل عناصره وتآلفها، موسيقياً ودلالياً وأسلوبياً، عبر الحفاظ على الوحدة العضوية بصفتها نتاج تفاعل خلاّق بين البنية والمضمون. وإدغار آلان بو حمل مفاهيمه النقدية، المتأثرة بالرومنطيقية الانكليزية، والفلسفة المثالية الألمانية، الى نتاجه الشعري والقصصي. وقد طبقها على نحو صارم، فجاءت القصة لديه، كالقصيدة تماماً، دفقة شعورية مكثفة، محكومة ببنية مصقولة، يتضافر كل عنصر فيها في تدوين الأثر الذي يترك جرحاً في الحساسية، وومضاً في الرؤيا، كما في قصته الشهيرة «سقوط منزل آشر» حيث يقبض الراوي، منذ اللحظة الأولى، على الروح الكلية للعمل، موظفاً نبرة رثائية قاتمة، لوصف الانهيار التدريجي، الداخلي والخارجي، لبطل القصة «آشر»، وتصدّع كل شيء حوله، بما في ذلك القصر العتيق الذي يسكنه. فحجارة القصر رمادية وتحديقة نوافذه خاوية، والشقوق التي تخدد جدرانه، تبدو مثل ندوب خلّفها برق الزمن وراءه، ناهيك عن ريح مجنونة لا تكف عن الهبوب، توقظ شياطين الذات، وتشطر عقل البطل الى نصفين، وتشطر الكينونة ذاتها الى نصفين، في عالم يتناهبه صراع الحقيقة والوهم. فالموتى يستيقظون من قبورهم، كما حدث لأخت البطل، مادلين، التي دُفنت حية، فعادت لتنتقم، رمزياً، من وأد رهيب تمّ في وضح النهار، والأشياء تتداعى بالتدريج، كما حدث لمنزل العائلة في نهاية القصة، إذ تضربه عاصفة رعدية، تجعله أثراً بعد عين.
هذا الشغف بتصوير الخوف والرعب والموت، وظّفه بو ببراعة فائقة ساعياً الى تكريس رؤيا فنية متكاملة، هي جزء من أسلوب نضج باكراً، وصقلته ثقافة واسعة، استفادت كثيراً من التقليد الأدبي الانكليزي، وبخاصة نقد الشاعر كولريدج، الذي علّم إدغار بو بأن المخيلة الشعرية هي انعكاس للذات الإلهية في ذات الفنان، ونمط من التذكّر المنفلت من الزمان والمكان، وقوّة يجب اخضاعها لإرادة الصنعة، في عملية ابتكار الصور والرموز والاستعارات. وهذا ما جعل الاستعارة أساس نظرة بو للوجود، بحيث وصفه نقاده بالرؤيوي الأعمى، الذي رفض فكرة ما يسمى «الأدب القومي»، المحلي، المرتبط بالزمان والمكان، وبنى لنفسه أسطورة الفنان الذي يتجاوز روح عصره، مفترقاً بذلك عن بعض معاصريه الكبار مثل وولت ويتمان ورالف إمرسون وديفيد ثورو وهرمان ملفيل، الذين أسسوا مذهب الماورائية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وساهموا في ابتكار أول نهضة أدبية أميركية حقيقية، بعد أن حققوا استقلالاً عن أدب أسلافهم الانكليز. لكن بو رفض المذهب الماورائي، ونعت مؤسسيه بـ «ضفادع البحيرة»، في اشارة منه الى شغف هؤلاء ببحيرة «والدن»، قرب بوسطن، التي اعتبرت رمزاً لصفاء الطبيعة. ورأى فيها الماورائي الكبير هنري ديفيد ثورو في كتابه «والدن»، «عين الله على الارض». لكن بو، المثالي، الأفلاطوني، المتشائم، ظل نشازاً في تاريخ الحساسية الأميركية، هو المطوّر الأول لفن القصة القصيرة في أميركا، والمبتكر الأول للقصة البوليسية في العالم، وأول ناقد جمالي حقيقي يمهد الطريق لظهور الحركة الرومنطيقية في الشعر الأميركي، وأحد رواد قصة الخيال العلمي في الأدب الانكليزي.
سيرة قاتمة
وينطبق على مسيرة إدغار بو قول نوفاليس «الحياة هي مرض الروح»، إذا نظرنا الى حياته القصيرة، الحافلة بالنكبات الشخصية، منذ أن رأى النور في بوسطن، عام 1809. فقد توفيت والدته، الممثلة الانكليزية اليزابيث أرنولد، فقيرة في ريتشموند، عام 1811، ولحق بها والده ديفيد بو، بعد أسابيع قليلة، ما جعل طفولته نهباً لحرمان عاطفي، تسرّب الى رؤياه القاتمة للوجود، حتى أنه اعترف مرة بأنه، في صباه، كان قادراً على سماع الظلام يهبط في الأفق. هذا اليتم طوّر لدى بو ملَكَة الحدس، فاعتمد الرؤيا العرفانية وسيلة لخلاص الذات، وبات الحلم آلية دفاعية لمقاومة قسوة الواقع، وهذا ما يشير اليه في احدى قصائده بالقول: «هل كل ما يبدو لنا أو نراه/ هو مجرد حلم داخل حلم؟» ولم يجد بو، الطفل اليتيم، ابن الثالثة، سوى تاجر تبغ اسكتلندي، اسمه جون ألن، يتعهد برعايته، فمنحه هذا الأخير اسمه الثاني، ليصبح معروفاً بإدغار آلان ب. بين عامي 1815 و 1820 انتقل الشاعر، مع عائلته الجديدة، الى لندن وعاش ودرس هناك مدة خمسة أعوام، لكنه عاد عام 1826، الى أميركا والتحق بجامعة فيرجينيا، ليتركها بعد عام دراسي واحد. في 1827، تأزمت علاقة بو بمربيه جون آلان، ودخل معه في شجار حاد، بسبب تراكم الديون في الجامعة، نتيجة إدمان بو القمار، ما اضطره الى ترك المنزل والهرب الى بوسطن، العاصمة الثقافية والأدبية لأميركا، آنئذ، وهناك نشر عمله الشعري الأول «تامرلين وقصائد أخرى»، وفي العام نفسه، وبسبب ضائقته المالية، التحق بالجيش الأميركي، لكنه طرد لاحقاً، عام 1831 بسبب عدم اطاعته الاوامر، وإهماله واجباته العسكرية.
في هذه الفترة بدأ بو ينشر المزيد من قصائده وقصصه القصيرة في الدوريات المحلية، وفي عام 1833 فاز لأول مرة بجائزة أدبية عن قصته القصيرة «م.س وجدت في قارورة». وفي السنوات الثلاث التالية عمل محرراً أدبياً في أكثر من دورية، بعد زواجه من قريبته فيرجينا كلم، عام 1836. لكن إدمانه الكحول وديونه المتراكمة، حالت دون استقراره النفسي. لهذا انتقل ليعيش بين عامي 1838 و 1843 في مدينة فليدالفيا حيث عمل من جديد محرراً أدبياً، ذاع صيته بفضل مراجعاته النقدية الحادة، وحساسيته العالية، ثم نشر روايته الأولى «سرد آرثر غوردون بيم» (1838)، تبعتها، بعد خمسة أعوام، مجموعته القصصية الشهيرة «حكايات الغرتيسك والآرابيسك»، التي ظهرت في مجلدين عام 1843، وضمت أفضل قصصه، ومنها «الخنفساء الذهبية». وتتميز قصص بو، كما يدل عنوانها، بأسلوبها المنمّق، الثري في زخرفته، وتشابك رموزه، وتعدد طبقاته الدلالية، واستحضاره نمط العمارة القروسطية، في بناء الحبكة، ورسم الشخصيات، واستلهام أجواء روايات الرومانس والقصص الخرافية. في عام 1844، عاد بو الى مدينة نيويورك، وفي 1845، نشر قصيدته الأشهر «الغراب»، في صحيفة تدعى «مرآة المساء»، جعلت اسمه معروفاً على نطاق واسع. في هذه الأثناء، أصدر مجموعته الشعرية «الغراب وقصائد أخرى»، وفي عام 1846 ظهرت مقالته التأسيسية «فلسفة التأليف»، التي حددت معايير ذائقته النقدية والجمالية، وتضمنت رؤيته لفن الكتابة، وبخاصة وصفه المسهب لكيفية كتابة قصيدة «الغراب» ذاتها، بيتاً بيتاً، وصورة صورة، حتى أن إليوت، المؤمن بالحسّ الموضوعي، وجد فجوة بين نظرية بو وقصيدته، واتهمه بالمبالغة، ورفض فيلسوف المذهب الماورائي رالف والدو إمرسون القصيدة بقوله: «لا أرى شيئاً فيها»، بينما عاب الفيلسوف البريطاني ألدوس هاكسلي على الشاعر إفراطه في الغموض، وإيغاله في «الشعرية».
في عام 1847، توفيت زوجته بمرض السلّ، وترك رحيلها أثراً عميقاً على مزاجه، وبات موضوع الجمال الأنثوي، المحكوم بالموت، محورياً في كتاباته. في هذه الفترة العصيبة انكب بو على كتابة مقالة غريبة تتأمل في أصول الكون، نشرها قبيل وفاته بعام، تحت عنوان «يوركا: قصيدة نثرية»، وفيها ينبذ أسس التحليل العلمي، ويترك العنان لحدوسه كي تقوده، رافضاً اعتبار مقالته نظرية علمية، بل عملاً فنياً خالصاً. في عام وفاته (1809) كتب الشاعر أجمل قصائده، من بينها «الأجراس» و «أنابالي»، و «الى آني» التي تمجّد الأنثى الغائبة، بوصفها رمزاً لجمال آفل.
واخترع بو طقساً غنائياً قاتماً للقبض على موضوعه، موظفاً بنى سردية مضمرة في معظم قصائده، ولغة باذخة، عالية الفصاحة، موزونة ومقفّاة. وتعكس قصائده نظريته الفنية، كما شرحها في مقالته «المبدأ الشعري»، حيث يعلن مقته الشديد للتبشيرية، وميله للغموض والتخفي، مؤكداً أن المعنى المباشر لا يصنع فناً. وقد دعا الى التكثيف، ونبذ الإسهاب، ورفض الروح الملحمية في الشعر. لكنه، وفي مدينة بالتيمور، كتب قصيدته الأخيرة، بعد أن برع في تقنيات التدمير البطيء لذاته ليعثر عليه، ذات صباح خريفي، مخموراً، غائباً عن الوعي، في أحد شوارع المدينة، ليُنقل الى أحد المستشفيات ويفارق الحياة، في الأربعين من عمره.
أثرت كتابات بو، في مسيرة الأدب الأميركي برمته، بل والعالمي أيضاً، وكان أول كاتب أميركي في القرن التاسع عشر، يحقق شهرة، خارج حدود بلاده، بفضل الترجمات التي قام بها الشاعر الفرنسي شارل بودلير لقصصه وأشعاره، التي أطلقته الى القراء في أوروبا. وقد اختار إدغار بو نمط النثر الغوثي (Gothic)، الذي يقوم على استحضار الأشباح، ونبش المقابر، وتتبع تحلل الجثث، ووصف عمليات الدفن قبل الأوان، وطقوس الحداد، وعودة الموتى. واعتبر النقاد هذه النزعة جزءاً من رومانطيقية قاتمة، جديدة كل الجدة، أضافها بو الى الحساسية البراغماتية الأميركية، هو الحالم المثالي، المهووس بالكوابيس، والحبكات الغامضة، والشفرات السرية، والمرايا المتقابلة، كما في قصصه البوليسية، التي تركت أثراً عميقاً في كاتب كبير مثل خورخي لويس بورخس، الذي يعترف بتأثره بالحبكة المحكمة لبو، ويصفها باللامرئية من «فرط شفافيتها». كما أن النقد الحديث، وبخاصة التحليل النفسي «الفرويدي»، والتفكيك الفلسفي «الديريدي»، وجد تربة خصبة في سرديات بو، لأنها تطرح أسئلة محورية عن مفهوم الهوية، ومعنى القراءة، ودلالات التأويل.
وفي الذكرى المئوية الثانية لولادته، تزداد أسطورة بو سحراً وغموضاً، حيث أضحى أقرب الى شخصية روائية مثيرة، ترمز، في المخيلة الجمعية الأميركية، الى جنون العبقرية، وبات من الصعب فصل الشخصي عن الأدبي، والتاريخي عن الرمزي. وما يزيد في أحجية بو وموته الغامض، طقس رمزي يتكرر كل عام، يمثله زائر مجهول لقبره، يأتي صبيحة التاسع عشر من كانون الثاني (يناير)، يوم ولادة بو، ليرفع نخب الشاعر، ويترك زهرات ثلاثاً عند شاهدة قبره، ويغادر بصمت، كأنما في قصة لبو تكتب نفسها باستمرار، وتظل حبكتها مفتوحة أمام كل أنواع التأويل. ولعل بو، في الذكرى المئوية الثانية لولادته، يستحق منا، نحن قراءه، حديقة زهور بأكملها، تنقل عبق عبقريته الفريدة، التي تركت أثرها العميق في الأدب العالمي برمته.
عابد اسماعيل
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد