إريــك شــوفيار: الإنســان، ذلــك القــرد الإلهــي
يعالج أدب إريك شوفيار هواجس الحداثة مستمداً منها جمالية رائعة. فللمنطق العلمي شاعرية خاصة وجمالية مميزة تبرزان في الكتابة الروائية. بالفعل، بفضل العلم، بات الإنسان يعي أنه يدمر البيئة، كما أنه صار يدرك تقاربه من الحيوان. بالإضافة الى ذلك، أصبح الإنترنت يشكل جزءاً من حياتنا اليومية. طُرحت كل تلك المواضيع في أدب شوفيار الذي عبّر من خلال أسلوبه المُتجدّد عن روحية عصره. إنه أدب يعبّر عن النظرة العلمية التي تجرّد الإنسان من روحانيته. يبرز البعد الديني ليخلق جواً من التضارب والتناقد فاتحاً أبواب التساؤلات الفلسفية والفكرية حول حياتنا العصرية. إذاً، في عالمٍ طغت عليه التكنولوجيا والعلوم، يبرز الحنين لإله يتجلى من خلال صور مختلفة. أين هو هذا الإله؟ هل هو موجود بالفعل؟ أم أن الإنسان هو الذي بات يلعب دور هذا الإله ويدمر الأرض والبيئة، غير مكترثٍ لمصيره ومصير الأجيال القادمة؟
في هذا السياق، تطرح رواية إريك شوفيار Sans l’Orang-outan «من دون القرد»، التي نُشرت عام 2007، المسألة البيئية في عصرنا الحالي. بات الإنسان يدرك أن إهماله للأرض يشكل خطراً حقيقياً على وجوده واستمراريته. بالفعل، بفضل تعميم الثقافة البيئية، يعي الناس أنهم يساهمون بتدمير أنفسهم من خلال نمط حياتهم الذي يهدد وجودهم ووجود الحيوانات والنباتات على سطح الأرض: «ربما سنختفي هكذا، يتقلص عددنا حتى نتلاشى نهائياً»، «تُدرج المغامرة البشرية ضمن التاريخ الذي يمكننا أن نتصوّر نهايته المنطقية»، «ما عاد العالم موجوداً بالنسبة للقرود. بدأ يتبدّد في ضباب الأوهام العجيبة»، «في هذا الفراغ، تحطم عالمنا القديم». يعبّر تكرار هذه العبارات عن الهوس بالفناء الجماعي في هذه الرواية التي تنطلق من حادثة اختفاء القردين باغوس ومينا، وهما يعيشان في حديقة الحيوانات حيث يعمل سارد القصة. وهكذا، يروي الكاتب قصة البشرية التي بدأت من تحول القرد الى إنسان، وذلك من وجهة نظر داروين. في هذه الرواية، يؤدي موت القردين الى تدمير الحضارة البشرية. في سياق هذا التدهور الجماعي، تصبح كل العناصر عدائية: «الرمل خائن»، «الهواء المُغم»، «ابتعدت الشمس». إنها عدائية البيئة التي تعاني من التدمير، فتعبّر عن غضبها.
لكن على الرغم من تحطيم هذه الأرض الحاضنة، يظهر التشبث العميق بها. فتبرز في الرواية علاقة القرد بالطبيعة وحاجته إليها، إنه التواصل الطبيعي الذي ينشأ بين الحيوان والبيئة: «يعيش القرد متمسكاً بالغصون. عجّل إتلاف الأحراج بسقوطه. اصطدناه وهو طائر؛ قطعنا العشب تحت أقدامه». إذاً يظهر القرد راسخاً في الطبيعة وكأنه جزءٌ منها. فإذا تدمرت هذه الطبيعة، فسوف يلقى القرد المصير نفسه ويفنى. لذلك يذكره الكاتب باستمرار مشدّداً على التواصل بينه وبين الإنسان، وكأنه يريد أن يعيد للإنسان هذا الانتماء العميق بمحيطه الطبيعي. بالفعل، انفصل الإنسان الحديث عن الطبيعة، فحلت الشقة محل الغصن الذي يتمسّك به القرد، وباتت الغابة التي تحتضن الحيوانات بناية سكنية، وتحوّل النهر الى مغطسٍ. بات انقطاع التواصل اليومي بين الإنسان والأرض تدميرياً. لم يعد الإنسان يشعر أنه بحاجةٍ ماسةٍ إليها، لم يعد يشعر بحضنها الدافئ وبجمالها، تبدّدت هذه الحاجة الماسة للأرض. لم يعد الإنسان يكترث لها، لم يعد يشعر أنه يحبها ويرغب بحمايتها، فسمح لنفسه بأن يدمرها. ولكن هذا التدمير انعكس على وجوده، فصار تدميراً للنفس، أي شبه انتحار. في هذا السياق، تتجلى رؤية نهاية العالم في هذه الرواية: «ضعفت المثل العليا. ما عدنا نشعر بالراحة إلا في بطن الأهرامات، بنصف علوها، وهي المصانة من الغوص في الرمال بسبب ثقل وزنها ومن السقوط المميت في الوقت نفسه. من الآن فصاعداً، نادراً ما تضم أهراماتنا ثلاثة صفوف. إنها فكرة الحضارة التي تترنح». نلاحظ في هذا المقتطف بروز الأهرامات التي يتكرر ذكرها في الرواية. الأهرامات هي المقابر في الحقبة الفرعونية. انتهت الحضارة الفرعونية، لذلك يذكرنا الكاتب بها، كي لا ننسى أن الحضارة البشرية قد تنتهي بدورها إذا استمررنا بتدمير البيئة. الإنسان الحديث هو فرعون يظن أنه قادر على السيطرة على كل شيء، يتصرف مع البيئة بغطرسة، يتيح لنفسه كل شيء، يدمر نفسه، محيطه، والأرض الحاضنة لوجوده. لكن، في نهاية المطاف، سيلقى حتفه، وستكون نتيجة هذه اللامبالاة بالبيئة دماراً جماعياً. لذلك يتحدث الكاتب عن الخطر في روايته: «لقد فقدنا اليوم الشعور بالتوازن. نحن نتمايل بشكل خطر. ما عدنا نلتزم. نبذتنا كل المساحات أو امتصتنا. كنا مرنين، متعرجين، متموجين، على غرار انعكاسنا في الماء. كانت الأسلاك المطاطية تملأ جيوبنا. تدخلنا في كل مكان حيث كان يهددنا الضجر، الفالج، منذ أن هبّت الرياح، ومنذ أن اتخذت الرواية شكلها، ومنذ أن تجمّدت الجثة، نحن ظهرنا». نلاحظ بروز عبارتي «خطر» و«يهددنا» في هذا المقتطف. زال الشعور بالطمأنينة في هذه الحياة العصرية. بات الإنسان يعي أنه يهدد نفسه، وبأنه يدمر الأرض التي تحتضنه، تلك الأم الخضراء ذات الجمال الرائع: «يريد الرجل أن يثقب رحم المرأة على غرار جعبة من الحقد»، «أحاول أن أغرق أمي». إنها الأرض، الأم الحاضنة، التي لا يتردّد الإنسان في تدميرها. تهبنا الأرض كل ثرواتها، على غرار الأم التي تطعم أولادها، ولكن سكانها هم أولاد جشعون: «أيدينا على أفخاذنا، العرق على جبيننا، ونغرف من ثروات الأرض، من أرضنا، على غرار الجمل الظمآن، نعيد لبلادنا أضعاف ما نأخذ، نحرّك الاقتصاد. نصنّع العالم. أُنجزت مهمتنا. أقصيت كل منافسة على الأراضي المهجورة». يُقارن الإنسان بجمل ظمآن في الصحراء. وبالفعل، قريباً، ستضمحل ثروات الأرض وسيجف ماؤها، فنصبح كالجمل المحاط بالجفاف. بالإضافة الى ذلك، نلاحظ بروز أعضاء الجسد المُتفكك في مختلف أقسام الرواية: «ننتزع كمية من الشعر قد تحملها الريح. تحطّم ظفر. تتلو الخسائر الأكثر ضخامةً سقوط الأجساد الثقيلة المُعقّد»، «يرمون الأذرع، الرُكب، تنتظم الخُطى تدريجياً، يتخطط الإيقاع، تتكرر الوجوه التي سيذكرونها في المعركة التالية». إنه الجسد الإنساني المتفكّك الذي يرمز لحالة الموت الجماعي في بيئة باتت بخطر.
الأجساد المتحولة
يتمزّق الجسد الإنساني وكأنه مرآة حال الأرض المهددة بالدمار. كما تترافق حركة تناثر أعضاء الجسد المتفكّك بالتحول المرتبط بوجهة نظر داروين العلمية: «كيف لنا ألا ننزلق على هذا الجليد؟ حتى الشمس تزلجت على سطحه وأعمتنا. الجليد يحرق. نحترق تدريجياً ونحن نرتجف من البرد. وفي الرياح الشمالية تصبح بشرتنا المسفوعة بالشمس زرقاء، إنه أزرق رُكام الثلج الشفاف: إنها بداية التحول». إذاً إنه التحول المستمر لجسد متفكك عابرٍ للحقبات والقرون. إنها النظرة العلمية الداروينية التي تظهر في أدب شوفيار لتذكّره بأن أصله قرد. في هذا السياق، في رواية Du Hérisson «حول القنفذ»، التي صدرت عام 2002، تجرّد الإنسان من قدسيته، وتجرّد العالم من قدسيته حين اكتشف الإنسان أصوله الحيوانية. فأين هي تلك الصورة السامية التي وهبتها الأديان للبشر؟ في هذا السياق، يتوجه الكاتب للقارئ المسيحي من خلال هذه السطور التي كتبها بيار دو بوفيه: «أنت، أيها المسيحي، رجل الله، احترس من القنفذ الساذج والكريوي، أي الشيطان، وهو مكسو بالشوك وجاهز دائماً لينصب لك شركاً، لأن الاهتمام بخيرات الدنيا والاهتمام بالملذات الدنيوية مغروزة على شوكاته». ارتبط الحيوان بالشيطان في هذا المقتطف حيث يبدو وكأن الكاتب يميّز بين الإنسان والحيوان، إنما بسخرية وتهكّم. نلاحظ أن صورة الحيوان تطغى في أدب شوفيار. بالفعل، تتمحور إحدى رواياته حول القرد، وتتناول روايته الأخرى القنفذ. وفي الحالتين، يُذكر الحيوان في عنوان الرواية. في هذين العملين الأدبيين، يتداخل الإنسان بالحيوان. بالفعل، يشبه الكاتب جسد القنفذ بجسده «جسد الكاتب، الخامل، الراقد بين الصفحات». إنها النظرة العلمية التي تجعل الإنسان يعي ارتباطه بالحيوان على المستوى البيولوجي. من وجهة نظر داروين، ينتمي الإنسان بيولوجياً الى جنس الحيوان، فجسمه يشبه جسماً حيوانياً، لا اختلاف أساسياً بين الانسان والحيوانات، بل هناك تجانس جوهري بين الانسان والطبيعة. لذلك تظهر النظرة الدينية في أدب شوفيار التي تختلف كلّيا عن النظرة العلمية، إذ أنهما تتضاربان خاصةً على مستوى خلق الإنسان. فمن أنت أيها الإنسان؟ جزء من الله أم جزء من الحيوان؟ يعبّر أسلوب شوفيار عن هذا الضياع الوجودي من خلال شكل المقطع المُدمر في روايته. فحين يفتقد الإنسان روحانيته يشعر بنوع من القلق يظهر في شكل الرواية وأسلوب الكتابة.
انطلاقاً من هذا المنطق العلمي ذات الشاعرية الخاصة، عرض الكاتب قصة البشرية من بدايتها حتى نهايتها، تلك النهاية التي يتوقعها أو يتخيلها بشكل من الأشكال في رواية «من دون القرد». بفضل إبداعه ولغته المتفجرة، تمكن شوفيار من خلق صور أدبية تعبّر عن النظريات العلمية. فكيف لنا أن نتخيل بدايتنا ونهايتنا؟ نجح الكاتب بالتعبير عن علاقة الإنسان بالاكتشافات العلمية بفضل جمالية مميزة. وأجمل ما في هذه الرواية هو أسلوب هذا الروائي الذي يعبّر بامتياز عن الشعور بالقلق الناتجة من وعينا لوجودنا ككائنات حيوانية مهددة بالفناء. بفضل أسلوبه الذي يدمر كل القواعد اللغوية، برع شوفيار بالتعبير عن تلك التساؤلات الجماعية. بالفعل، في رواية «دون القرد»، تمازج الفكر والهاجس ضمن رحلة خيالية مليئة بالصور المعبّرة. وقد عبّر الكاتب عن هذه الحالة من خلال جمل تمتاز بطولها، إذ أنها تنطلق من موضوعٍ ما ومن ثم تغوص في أجواء مشتتة، مبعثرة تُطرح من خلالها سلسلة من التساؤلات تبقى دون جواب. لا إجابة سوى الموت والفناء. إنه الصمت بالأحرى، صمت الفناء: «ومن ثم مات باغوس ومينا. خرج القرد من حياتنا. أطفأ نفسه الأخير الشعلة الصهباء الجميلة ولم يبقَ منه سوى كومة رماد بعثرتها الرياح على الأراضي المهجورة». وهكذا، يبرز أسلوب شوفيار الجريء الذي يدمر القواعد اللغوية، ويعرض مشاهد عبثية بهدف إعادة تقييم علاقتنا بالعالم الذي يحيط بنا. يتم طرح هذه التساؤلات على المستوى الجماعي، إذ أنها تتعلق بمصير كل الإنسانية. لذلك، نلاحظ تكرار عبارة «نحن» في هذه الرواية. إنها «الأنا» الجماعية التي تمتد عبر السنوات والقرون، لا حدود لها، تموت حين تموت الأرض. كيف لنا أن نتخيّل فناءنا؟ وكيف لنا أن نتخيل هذا العالم من دون وجودنا؟ إنه السقوط الجماعي الذي بات يخيّم على مخيلتنا الجماعية في هذه الحقبة التاريخية.
المصير الجماعي
تعبّر «الأنا» الجماعية عن عدائيتها في رواية «شوار» Choir : «تدافع إنسانيتنا عن نفسها بشراسة ووحشية في مواجهة التنظيم الإجرامي الجبار المؤلف من حيوانات شوار». في هذه الرواية، التي نُشرت عام 2010، يسرد شوفيار قصة جزيرة وسكانها. إن تلك الجزيرة «شوار» التي يشير اسمها الى السقوط، يلعنها سكانها ويكرهونها، كما أنهم يحلمون بهجرها، لكن رمالها ووحلها يتمسكان بهم. تمكن سلفهم إلينوك، الذي وُلد مشوهاً، من الهروب ففرّ الى السماء. ولكنه وعد سكان الجزيرة بأن يعود ليأخذهم معه، فتشبثوا بهذا الأمل: «الأجدى بنا أن نفر، لذلك تعدّدت الأبواب. وفي كل مرة نترك خلفنا جزءاً من شوار». إذاً، حوّل رحيل إلينوك عن الجزيرة حياة سكانها الى مأساة: «نحن نزحف بشكل بائس في شوار». بات إلينوك يجسد حلم الرحيل الى مكان آخر، مكان بعيد عن هذه الأرض: «وجد إلينوك المخرج الذي بحثنا عنه، لكن بلا جدوى. قد يكون اجتاز السماء حيث فُقد أثره». جعل حلم الرحيل من هذه الجزيرة أرضاً مكروهةً، إذ أن السارد بات يتساءل: «ربما سيصعقنا جمال شوار حين سينتزعنا صاروخ إلينوك من وحولها، ربما سيلد حبنا لهذه الأرض على غرار جرح لدى الفراق نحو المنفى في لحظة الإقلاع؟». بالفعل، إن رحيل إلينوك عن الجزيرة جعل منه كائناً خارقاً، حلماً سماوياً يخيّم على خيال سكان الجزيرة: «أيها التوت السماوي، يا أيها العنبر السائل، يا إلينوك، اغمر أرضنا الميتة بكآبتك، بلعابك، وببولك! يا أيتها الخمرة! افتح هذه السدود، ودع فيضاناتك تتفجّر، اقطع سيل دمنا! يا إلينوك!». لذلك يبرز تفوق إلينوك على الآخرين: «ظل وجود إلينوك الحر والفتاك يثير غيظ البعض الذين كانوا يريدون أن يروه مذلولاً ومهزوماً مثلهم». يظهر إذاً التناقض بين شوار والمكان الآخر الذي فرّ إليه إلينوك، ذلك المكان الآخر الذي بات حلماً بنظرهم، إنه حلم الخلاص الذي يلازم سكان شوار. وهكذا، يتمازج حلم الخلاص بحركة السمو نقيض السقوط: «انشر نِعمك على هذه الأرض المنخفضة، وارفعها!». يشبّه الكاتب الأرض المنخفضة بالجحيم في بعض المقتطفات. وهكذا، يبرز التضارب بين السمو والسقوط في هذه الرواية، فيظهر التناقض بين العظمة السماوية والتدهور الى الجحيم: «أنت تحتل كل السماء، يا إلينوك»،»يريحنا تأمل هذه السماء الفارغة بمثاليتها من عبء هذه الأرض»، «في هلاكنا، ننادي إلينوك. إلينوك! إلينوك! وينضم إلينا جيراننا في الجوقة. إلينوك! نجتمع أحياناً كلنا معاً ونناديه. إلينوك! ولكنه لا ينزل من السحابات تلبيةً لندائنا، بل بالعكس، كل العصافير طارت». إنه حلم الطيران الذي يحمل سكان الجزيرة على أجنحته. فباتت تلك الجزيرة وكأنها سجن، إذ أنها تتشبث بسكانها ولا تدعهم يرحلون. يبدو في هذا السياق وكأن لعنة جماعية تخيّم على حياة سكان هذه الجزيرة. لكن في بعض المقتطفات يتمازج السمو بالسقوط ليخفف من وطأة هذه اللعنة، فتجعل من الرسوخ بالأرض والفرار نحو السماء حركة واحدة: «كان الصعود مثل النزول»، «ليست أرض شوار سوى سماء». الأرض هي السماء، والسماء هي الأرض. باتت اللعنة الجماعية بركةً ملائكيةً ذات طابع سماوي. في هذا السياق، يكتسب السمو طابعاً مقدساً: «ترتفع الى السماء صلاة أنيننا»، «بخور مدافن وزبل شوار»، «إلينوك! ارحمنا! أيها الملاك الجميل، يا مخلصنا»، «أين ذهبت صلواتنا؟ ماذا فعلت بها؟». نذكر في هذا السياق صرخة يسوع المسيح على الصليب: «إيلي، إيلي، لماذا شبقتني؟»، فيبرز التشابه بين اسم «إلينوك» و«إيلي» الإله الذي يتضرع إليه المسيح في لحظة الشدّة. كما نلمس هذا الوجود الإلهي في رواية «من دون القرد» في المقتطف التالي: «إنه الله الذي يزأر فجأةً في الكنيسة».
ويبرز البعد الديني في رواية Du hérisson «حول القنفذ» في المقتطف التالي: «في الأيقونة حيث يظهر سان جورج وهو يصرع التنين، غالباً ما يبرز هذا القديس مستخدماً رمحه أوسيفه. بعد التفكير العميق، لا أذكر لوحة واحدة يظهر فيها هذا القديس وهو يطعن التنين». في هذا السياق، يتناول الكاتب الفن الديني بشكل تهكمي مطبقاً عليه نظرة فلسفية، وكأنه يتساءل حول حقيقة هذه الصورة الراسخة في خيالنا الجماعي. هكذا، يعبّر الكاتب عن الحاجة للبعد الإلهي، ولكنه يحطمه ويسخر منه في الوقت نفسه.
وقد برز أسلوب شوفيار ونمطه العصري منذ روايته الأولى «الموت يزكمني» Mourir m’enrhume (1987) التي تتميز بالفكاهة والتلاعب بالقواعد السردية. كما أنه نشر عدة روايات على غرار «شبح» Un fantôme (1995)، «غيابات القبطان كوك» Les Absences du capitaine Cook (2001)، «الأذن الحمراء» Oreille rouge (2005). وقد حازت روايته «سديم السرطان» Nébuleuse du crabe جائزة فينيون، كما حازت روايته «الخياط المقدام الصغير» Le Vaillant petit tailleur جائزة ويبلير. عام 2007، أسس شوفيار موقعاً إلكترونياً باسم «أتوفيكتيف» Autofictif حيث كان يكتب يومياً ثلاثة مناشير. استخدم شوفيار الإنترنت كفسحة خيالية لإعادة تجديد أشكال الكتابة. على هذا الموقع، الذي يشكل فسحة تتراوح بين الرسم الذاتي والسيرة الذاتية، يرسم السارد شخصية لا تتكلم الإنكليزية، عاجز عن التأقلم في العالم ولا يقود سيارة. في هذا السياق، يصبح شوفيار الكاتب إحدى الشخصيات. وهكذا، يطرح شوفيار مسألة هامة على مستوى التداخل بين الكاتب والشخصية، أي صانع الوهم والشخصية الوهمية. وهكذا، من البيئة الى نظرية داروين، ومن ثم الإنترنت، كتب إريك شوفيار عن روحية عصره وهواجسها. جسّدت كتابات شوفيار فسحةً يلتقي فيها الأدب والعلم. إنه سحر التكنولوجيا وجمالية الاكتشافات العلمية. لم يسمح شوفيار للعلم أن يجرده من شاعريته، بل أدرجه في عالمه الأدبي وجعل منه عنصراً جمالياً. فهل يريد الإنسان أن يعرف؟ هل يريد أن يدرك أنه قرد؟ أو أنه يدمر البيئة؟ أو ربما هو يفضل أن يبقى غارقاً في سحر الشعر وجمالية الأدب. وجد شوفيار مخرجاً، فجعل من العلم مصدر جمال، ومن التكنولوجيا عنصراً أدبياً، ولم ينسَ البعد الديني الذي يضفي على حياتنا بعداً مميزاً بفضل وهمه الرائع.
منيرة أبي زيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد