ابن رشد، وعبور جبال الآلب
في تاريخ الفلسفة العربية، هنالك عديد المحطات التي ينبغي أن تُدرَس بعناية فائقة لأنها تعتبر محطات فارقة في تاريخ الفلسفة العالمية برمتها، ولعلّ فلسفة ابن رشد خير مثال يؤكد وجوب هذه العناية، إذ لا تزال إلى اليوم تسيل الكثير من الحبر من جهة مصادرها كما من جهة مصيرها عندما انتقلت إلى أوروبا اللاتينية في بدايات القرن الثالث عشر عن طريق الترجمة، فكانت لها عندئذ حياة خصبة جديدة. وقد كان لابن رشد في أوروبا تلامذة وأتباع ومدرسة تامة الأركان هي الرشدية اللاتينية. وبنفس القدر، حصدت الرشدية عددا لا يستهان به من الخصوم، وفي مقدمتهم القديس توما الإكوينى، الممثل الأكبر للكنيسة الكاثوليكية. لقد كانت باريس هي مهد الرشدية اللاتينية، فعليها ينبغي التركيز إذًا.
لقد ظهرت هذه الرشدية أولاً بين أساتذة وطلاب كلية الآداب بجامعة باريس في القرن الثالث عشر، وذلك قبل أن تمتد إلى مراكز أوروبية أخرى، ويستمر نشاطها حتى القرن السادس عشر، أي على عتبات العصر الحديث، وبداية الفلسفة الحديثة. ولكن مصير ابن رشد في أوروبا سيتقرر، حيث ظهر لأول مرة، في منفاه الباريسي.
ويمكن الإقرار بداية أننا لا نكاد نعرف عن الرشدية اللاتينية في هذه المرحلة سوى ما نسبه إليها خصومها. ويبدو أن هذا التعتيم يعود، في جزء كبير منه، إلى منشورات التفتيش وبيانات التكفير التي أصدرتها الكنيسة في حق الرشديين اللاّتين الذين كانوا يتداولون آراءهم داخل حلقات شبه سرية، أو في “زوايا مظلمة” كما يقول الإكويني في كتابه في وحدة العقل، ضد الرشديين، وهو الكتاب الذي فنّد فيه آراءهم وآراء ابن رشد فيما يتعلق بنظرية وحدة العقل، وطلب أحد ممثليهم، من دون أن يسمّيه، أن يظهر في العلن ويجاهر بآرائه ويواجه التفنيد.
إذًا، كان لابد من جيل كامل بعد وفاته، سنة 1198، حتى تتم ترجمة شبه كاملة لشروحات المتن الأرسطي التي كتبها ابن رشد إلى اللاتينية وحتى تستفيد باريس. لقد كان مصير ابن رشد في هذه الحقبة مضاعفا، مصير إيجابيّ جعل منه “الشارح الأكبر” بامتياز، والشاهد الذي لابد منه على الصرح التام لنسق أرسطو وعلى ثراء تقليد شرحه، ومصير آخر، معاكس تماما، يشير إلى أفول بعض قراءاته بشدة، وإلى عدم استساغة أطروحاته ويدفع إلى ظهور قائمة سوداء عنوانها ابن رشد، “عدوّ الإيمان” و”حامل لواء الكفر” وزعيم كل الفلاسفة الكفار وحامي مذاهبهم الغريبة من خلال سلطته العلمية.
من ابن رشد إلى الرشدية
ولد ابن رشد في قرطبة سنة 1126 ضمن عائلة شهيرة من الأعيان المحليين الذين لعبوا دورا رياديّا على المستويين الديني والسياسي على امتداد جيلين في الأندلس. وقد أضحى هو ذاته طبيبا وقاضيا وفيلسوفا، ومؤلف أعمال قيّمة تتداخل فيها ضروب متنوعة من المعالجات التي أتاحتها له وظائفه ومهاراته المتعددة. وإذا اعتمدنا ما أورده بعض المؤرخين من أنّ شرح ابن رشد(المعروف بتلاخيصه) حول أرسطو(الذي عُرف بغموض عبارته) قد تمّ بناءً على طلب من الخليفة أبو يعقوب، فإنّ هذه الشروحات تحديدا هي التي قلبت الغرب المسيحي، وخاصة أساتذة جامعة باريس في فرنسا.
لقد أمّن عديد المترجمين مرور أعمال ابن رشد إلى اللاتينية، من بينهم غويوم اللوني(Guillaume de Luna)، الذي لا نعلم عنه أيّ شيء تقريبا وبيير غاليغو(Pierre Gallego) أسقف كنيسة قرطاجنة(بين 1250-1267) وكذلك هرمن الألماني(Hermann l’Allemand) وميشال سكوت(Michel Scot). وقد شكلت ترجمات هذا الأخير في العقود الأولى من القرن الثالث عشر اللبنات الأساسية لتشكّل صورة ابن رشد اللاتيني، حيث انطلق مشروعه منذ سنة 1230 بطلب من فريدريك الثاني(Frédéric II) الذي استعان به حتى وفاته سنة 1235. وبين سنوات 1220 و1224، بدأ بترجمة الشرح الكبير لكتاب النفس لابن رشد والشرح الكبير لكتاب ما بعد الطبيعة، ثم تلا ذلك ترجمات شروح كتاب الطبيعة وكتاب السماء والعالم.
ابن رشد في جامعة باريس
يمكن القول أن أول ظهور لاسم ابن رشد في باريس قد ورد في كتاب صغير لأستاذ في الفنون مجهول الاسم وكان ذلك بتاريخ 1225 تحت عنوان في النفس وفي قواها(De l’âme et de ses puissances). وقد كان هذا المؤلف وقتها عارفا بالترجمة العربية-اللاتينية لكتاب ما بعد الطبيعة، حيث نجده يعود في مناسبتين إلى الأهداف التي يستنتجها ابن رشد في شرحه لكتاب في النفس لكي يفسح المجال لتأويل ابن سينا لنظرية أرسطو في العقل. وفي مقالتين من كتابه في النفس، جمع هذا الأخير اعتبارات عديدة حول العقل الذي ظل معناه غامضا إلى حد كبير، بما أنه لم تتم الإجابة على الأسئلة الأساسية الخاصة به على نحو، ما هي علاقة العقل بالنفس وبجسم الشخص؟ ما هي طبيعتها؟ وكيف ينبغي علينا تصوّر فعل التعقل؟
لم يكن الجواب على أيّ من هذه الأسئلة صريحا وواضحا. فإذا كانت النفس متّحدة تماما بالجسم، إلى الحد الذي يجعلها غير قائمة الوجود إلا معه، باعتبار أنه تم تقديم هذا العقل على أنه “منفصل” من دون أن نعلم بالوضوح التام وفق أيّ انفصال ينبغي أن يكون الفعل. وبالإضافة إلى ذلك فقد اقترح أرسطو، بغرض تفسير العمليات العقلية للإنسان، التمييز بين عقلين، عقل فاعل”قادر على إنتاج كل شيء”، وعقل منفعل هو “استعداد لأن يصبح كل شيء”(7)، في حين تحدث شرّاحه عن عقل “فاعل” وعقل “مادي” أو “ممكن” لا ينبغي التشكيك بشأنهم.
يدافع أستاذ الفنون مجهول الاسم، إلى جانب ابن رشد، عن نظرية يكون من خلالها العقل الفعال قوة في النفس خاصة بكل فرد ومتماهية جوهريا مع العقل الممكن الذي لا يختلف عنه سوى من جهة العلّة. وذلك ضدّ ابن سينا الذي يفصل النفس الفردية عن العقل الفعال لكي يجعل منها عقلا وجوهرا متمايز أنطولوجيا ومفارق للإنسان ضمن نظام الكوسموس. وبالتالي، يوافق العقل الفعال النفس الفردية، في حين يشير العقل الممكن إلى هذه النفس ذاتها في اتحادها مع الجسم.
لقد سيطرت هذه النظرية التي تأسست ردّا على نظرية ابن سينا بخصوص فكرة متأتية من خارج وصادرة عن عقل خارجي داخل كلية الفنون إلى حدود سنة 1250. وهذا ما نجد عرضا له مثلا في كتاب في النفس الذي أصدره أسقف باريس غويوم الأوفرني(Guillaume d’Auvergne) سنة 1240، حيث يدحض هذه النظرية بنفس القدر الذي يدحض فيه الأطروحة المناقضة واسما ابن رشد بــــ”الفيلسوف النبيل”. فقد وقع الخلط، حسب رأيه، بين هذا الأخير وبين الصورة التي رسخها المدرسيون الأوائل عن هذه النظرية بخصوص العقل الفعال بوصفه قوة من قوى النفس، والتي لم تكن في الحقيقة نظريته.
علينا التساؤل إذًا عن مصدر هذا البون بين المعنى الحقيقي لنصّ ابن رشد وبين الاستخدام الذي اعتمده المعلمون الباريسيون الشبّان؟ إذ من المتأكد أن ذلك لم يكن ناتجا عن قراءة متأنية ودقيقة لشرح فيلسوف قرطبة الذي نجده مُلتبسا وأحيانا مترجم وفق لغة لاتينية ركيكة، أو باعتماد “ألفاظ تقنية هزيلة وغير مألوفة”. بل لعل هذا التوجه إنما هو صادر عن تمشّ تفسيري يعفيهم من أيّ انتباه دقيق لفرادة هذا التأويل العربي. وبالجملة، لم يكن ابن رشد بالنسبة إليهم حينها مؤلفا بالمعنى القوي للكلمة، حتى وإن تمّ اعتماد قاموسه ولو جزئيا أو استحضار بعض أطروحاته، فقد كان ذلك خارج السياق وبطريقة جدلية، حيث كان الغرض الأساسي هو فهم نصّ أرسطو لا غير.
وفي هذا الإطار، لم يكن ابن رشد سوى أداة مناسبة، كما أن أطروحاته الشخصية الكبرى، حتى وإن كانت معروفة، فهي لم تتوطد بعد لتكشف عن طاقتها التفجيرية الكامنة. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المعلّمون الباريسيون الأوائل لم يكونوا تلامذة، فنقلهم عن ابن رشد ليس دليلا عن ولاء غير مشروط، وإنما هو مجرد تطوير لعلم أصيل، في النفس، ينهل من أصول متنوعة سمتها الأفلاطونية المحدثة الوسيطة التي تتأسس على اعتبار مضاعف للنفس بما هي صورة (forma) وواقع جوهري مستقل بذاته(hoc aliquid). وفي خضمّ هذا المسار، لم تكن الرشدية، في الواقع، قد انطلقت بعد.
“إهانة” العقيدة المسيحية
ابتداء من سنة 1250، تغيّر كل شيء، فقد تم عزل نظرية ابن رشد الأصيلة حول مسألة العقل، وملخّص هذه النظرية يمكن إرجاعه إلى أطروحات ثلاثة، نجدها مفصّلة في الشرح الكبير لكتاب النفس: العقل منفصل من جهة وجوده عن الأشخاص، فهو واحد بالنسبة لجميعهم، وهو خالد. لقد أحدثت هذه الأطروحات الثلاثة انقلابا في تصوّر وفي معالجة نظرية العقل السائدة وقتئذ. فالعقلين الفعال والممكن ليسا قوتين أو صفتين لنفس واحدة جزئية، وإنما جوهرين مستقلين أنطولوجيا ولا يلتقيان في الشخص إلا عند التعقل المحض القائم على الصور التي يمتلكها الشخص بفضل جسمه. فالإنسان إذا، لا يحوز على ملكة تعقل خاصة به، وإنما هو فقط يحاول التخيل لغرض الاتصال، عن طريق هذه الصور، بالعقل الكوني الذي لا يتسنى له الفعل من دون أساس مادي.
تغيّرت منزلة ابن رشد إذًا، بالاستناد إلى ذلك. فبالنسبة لعديد الجامعيين اللاّتين لم يعد الشارح موضع حذر يستخدم لصالحه الخاص، ولا هو مجرد أداة تستخدم ضد ابن سينا، وإنما أضحى أكثر من ذلك، فهو المدافع عن مذهب أكثر جذرية وأشد انحرافا أيضا، فهو لا يفصل فقط العقل الفعال عن النفس الفردية، بل يفصل كذلك العقل الممكن بوصفه المتقبل الوحيد أو الموضوع الوحيد للتصورات. فالعقل لم يعد فينا ولا لنا. كما أن التفكير لم يعد داخليا ولا خاصا بنا، فالعقل هو من يعقل، تعقل هو في نفس الوقت لا مركزي وغير شخصي.
لقد كانت هذه الفكرة بمثابة الإهانة عند الغرب المسيحي، إذ رأوا في ذلك بروز نسق جديد ينزع عن الشخص أية مسؤولية، ويخلخل مبادئ الأخلاق والسياسة كما يستهدف، في نفس الوقت، الفكرة الإيمانية القائمة على الجزاء، ذلك أنه يترتب عن اعتماد هذه الأطروحات الثلاثة انتفاء الخير والشر، وانعدام القرار والأفعال، باعتبار أنه لا شيء يتعلق بالشخص. وإزاء ذلك، لن يتأخر الردّ طويلا، حيث ستنهض الخصومة الرشدية التي سينعت فيها بالمفكر “الملعون” و”اللامسؤول”، هذه الأوصاف التي ستلاحق ابن رشد طويلا والتي لن تختفي إلا مع نسيان اسمه.
توما الإكويني ونقد الرشديين
استهل الإكويني الشاب نقده لنظرية العقل الرشدية في باريس منذ سنوات 1254-1255، حيث يصف في شرحه لكتاب العبارة، مذهب الاتصال بين الإنسان والعقل الواحد والمنفصل بكونه “لا معنى له لأسباب عدة”متبنيا الإدانات التي وجهت لابن رشد والتي قرأها عند بونافونتير(Bonaventure). فقد ندّد هذا الأخير، قبل ذلك بفترة، بالفكرة التي ألصقت صراحة بالشارح والقائلة بنفس عاقلة واحدة لكل الناس، وهذا “ليس خاصا بالعقل الفعال، وإنما أيضا بالعقل الممكن” ، وهذا غير كاف بالنسبة إلى الإكويني. لقد كان بونافونتير أول من أشار إلى ذلك في محاضراته حول الوصايا العشر التي كتبها سنة 1267 حيث انتبه إلى أن نظرية ابن رشد لم تتوقف عن كسب أنصار لها، وهو ما يتطلب، حسب رأيه، ضرورة تصدي طلبة ومعلّمو الفنون الباريسيين لــ”أخطاء الفلاسفة”، منتقدا أطروحة وحدة العقل التي تعني أنه “لا وجود لحقيقة إيمانية، ولا لخلاص للأنفس ولا مراعاة للوصايا، وأنه بناء عليها ستتم مجازاة الإنسان السيئ في حين تلحق الإدانة الإنسان الفاضل”.
اكتشف الإكويني، إثر عودته إلى باريس سنة 1269 وبعد عدة سنوات قضاها في إيطاليا، أن لابن رشد، الذي اعتقد أنه تمكّن من دحض موقفه نهائيا، أتباعا داخل طلبة الفنون(les artiens). وكان أكثر هؤلاء الأتباع شهرة هو البلجيكي سيغار الأبرابوني(Siger de Brabant) الذي دافع وفق طريقته في مسائل حول الفصل الثالث من كتاب النفس (Questions sur le livre III du traité De l’âme) عن أطروحة وحدة وانفصال العقل وعن اتصاله العرضي بالشخص عن طريق الصور. وقد ردّ الإكويني سنة 1270 من خلال تأليف كتاب في وحدة العقل الذي صاغ فيه لفط “الرشديين” لأول مرة إشارةً إلى خصومه، حيث يستأنف، في هذا الكتيّب، نقده السابق.
بالنسبة إلى الإكويني، كان ابن رشد شارحا سيّئا، باعتبار أن أرسطو، حسب رأيه، لم يعتمد العقل جوهرا منفصلا وواحدا، بل على العكس من ذلك عدّه ملكة شخصية للنفس، وأن هذه الأخيرة ما هي إلاّ صورة لجسم جزئي. ويضيف الإكويني أن ابن رشد وأتباعه هم فلاسفة سيئون بما أن مذهبهم لا يقيم اعتبارا لهذا الفعل المعرفي البديهي: وهو أن الشخص هو من يعقل، وليس العقل الكوني. وبالتالي، فإن ما يفصل العقل، لا يمكن أن يجعل من تعقل العقل تعقلا خاصا بهذا الشخص أو ذاك. كما أن الإنسان لن يكون قادرا على التعقل إذا كان لا يتوفر سوى على صور للتجريد فلن يكون سوى بمنزلة الشيء. “فالوصل الذي بين العقل الممكن والإنسان الذي توجد به الصور الخيالية التي معانيها موجودة في العقل الممكن، هو كالوصل الذي بين الجدار الذي يعلوه اللّون، والبصر الذي به يوجد المعنى اللونيّ. فلو كان الذي بين العقل والإنسان ذاك الوصل، فسيلزم حتما أنه كما أنّ الجدار ليس هو الذي يُبصر، بل لونه المُبصَر، كذلك فليس الإنسان الذي يعقل، بل صوره الخيالية هي التي تُعقل، والذي يعقلها هو العقل الممكن”.
إدانة ابن رشد من قبل الكنيسة
إنها بداية جدال قوي طالما ردّده كثير من مراقبي الكنيسة. إذ لم يمض وقت طويل على ظهور كتيّب الإكويني سالف الذكر، حتى ردّ عليه أحد معلّمي الفنون مستعيدا، وفق كثير من الإثارة، ما يعتبره الموقف الصائب لابن رشد: “يمكن أن نقول عن الشخص أنه يعقل إذا كنا ننبهه إلى فعل أن التعقّل لا يتم على منوال الإحساس، فالإنسان يعقل حتما، ولكنه لا يعقل بنفس الطريقة التي يحسّ بها. فهو يعقل بوصفه كذلك، أي من خلال الصور التي هي موضوع العقل وليس عن طريق إحدى قواه، أي موضوع -تقبّل الفكر”. وقد كانت هذه الأطروحة، التي لم تنشر، موضع إدانة في 10 ديسمبر 1270 من قبل أسقف باريس إتيان تومبياي(Étienne Tempier)، الذي تدخل لاحقا مستعينا هذه المرة بردّ سيغار الأبرابوني الذي أراد توجيهه إلى الإكويني في كتاب يحمل عنوان في النفس العاقلة ( De l’âme intellective) والذي يخلو من أية إشارة صريحة إلى نظرية ابن رشد حول مسألة الاتصال.
لقد شكّلت إدانة الأساقفة الكبرى لسنة 1277 التي احتوت 219 أطروحة، أهمية كبرى في تاريخ تقبّل وانتشار فكر ابن رشد عند اللاّتين، فقد أدانت أولا عديد القضايا المرتبطة بمؤلفات الشارح مثل تلك التي تتعلق بالسعادة في الفلسفة التي تشيد بالكمال التام لإنسانية الإنسان على الأرض عن طريق قوى العقل وحده. وقد تبنت بعض المؤسسات الكنسية، في ما بعد، نقد الإكويني الأخير للرشديين في رسالته في وحدة العقل، لتشن هجوما شديدا طال كلّ ما له صلة بأطروحة واحدية النفس التي تؤلف إضافة إلى موضوع “إزدواجية الحقيقة”، تاريخ الرشدية.
يآخذ الإكويني أتباع ابن رشد كونهم يستنتجون أمورا من خلال العقل في ذات الوقت الذي يجعلون فيه تلك الاستنتاجات مستحيلة على مستوى العقيدة. فمن خلال العقل، يقول الإكويني، يخشى الرشديون اعتبار أن العقل واحد ومنفصل، ولكنهم من خلال الإيمان يعتمدون العكس إذ يعتبرونه قوة شخصية لنفس هي صورة للجسم. وبطريقة القياس، فإن الرشديون يبرهنون على القضية “أ”، ولكنهم ومن أجل إنقاذ العقيدة والنجاة بأنفسهم يرومون بنفس الطريقة الاعتقاد في “لا أ”. وهذا ما يرفضه الإكويني بشدة.
وفي خضم هذا السياق من القياس، يعتقد أنه بإمكانه دحض هذه الوضعية الفلسفية التي هي في نفس الوقت خُلف (باعتبار أن الذي يبرهن على “أ” يصل بالضرورة إلى القول أن “لا أ” متناقضة، وبالتالي فإن موضوع العقيدة هو أمر مستحيل) ومجرد نفاق (باعتبار أن الرشدي ليس بإمكانه الإيمان حقّا، بما أنه يعلم أن موضوع الإيمان مستحيل، وبالتالي فإن تصريحه بالإيمان ليس سوى خديعة). وبناءً على هذه القطيعة الحاصلة بين العقل والوحي، يعتمد الإكويني ضرب من ريبية مقنّعة ليستنكر المبدأ الرشدي، ليس بوصفه مبدأ إبستيمولوجيا وإنما بوصفه استراتيجيا عقلية ابتدعها طلبة الفنون من أجل مراوغة تهمة الدفاع عن أطروحات فلسفية مناقضة للعقيدة.
وكان تأثير هذا الهجوم الذي قاده الإكويني شديدا، حيث استعاده تومبياي في افتتاحيته لإدانة 1277 ليتهم طلبة الفنون بكونهم يتحدثون عن “الحق حسب الفلسفة، وعن الحق حسب العقيدة الكاثوليكية كما لو أنه هنالك حقيقتين متناقضتين”. فحسب مذهب الحقيقة المزدوجة، يمكن أن تكون نتيجة ما “صادقة”فلسفيا، في حين تكون النتيجة المناقضة “صادقة جزئيا” من زاوية نظر الوحي والعقيدة المسيحية. وفي واقع الأمر فإنه لا أحد من أتباع ابن رشد قد اعتمد ذلك مطلقا، لا سيغار الأبرابوني الذي وضع الحقيقة إلى جانب الإيمان، ولا بواس الأداسي (Boèce de Dacie) زميله الدنماركي الذي يعتبر أن الحقيقة الفلسفية ليست مطلقة وإنما فقط نسبية في علاقة بمبادئ النظرية التي تنصّ عليها. وعلى هذا النحو، فإن القضية القائلة أن: الميّت لا يمكن أن يبعث، صادقة. ولكن ذلك صادق فقط نسبة إلى مبادئ الطبيعة، فالفلسفة الطبيعية ليست صالحة سوى في حقول معينة ولا يمكن أن تناقض الإيمان.
الملاحظ هنا أن الشكوك حول مسألة الإزدواجية التي لحقت الرشدية لم تختفي نهائيا، فمن قرطبة إلى باريس، أخذ مرور فكر ابن رشد منحى انقلاب متناقض، فابن رشد صاحب فصل المقال الذي حاول تصوّر اتصال بين الفلسفة والشريعة من زاوية نظر وحدة الحق والدفاع عن فكرة أن كلاّ من الخطاب الفلسفي وخطاب الوحي طريقان مفضيان إلى نفس الحقيقة لا يقصي أحدهما الآخر، متّهم ، في شخص الرشديين، بعكس ذلك، أي بهذا الفصل بين الدين والفلسفة حسب الصياغة التي أطلقها عليه خصومه والتي تتم من خلالها التضحية بالعقيدة لصالح الفلسفة. لقد أضحت صورة ابن رشد مغايرة نهائيا، فقد أصبح، صاحب الأطروحة المرفوضة حول العقل، العنوان الرئيسي لضرب من البدع، هي بدع الفلاسفة المقنّعين المثيرين للسخرية وللشكوك، والتي ستدرك من قبل المؤرخين بوصفها إعلان بالزندقة.
الرشدية الباريسية ومصيرها الإيطالي
لقد تراجع انتشار الرشدية لبضع سنوات، تحت تأثير التهمة الكنسية لسنة 1277. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نجد بعض آثارها في باريس في أواخر القرن الثالث عشر في أعمال جيل الأورليني( Gilles d’Orléans) وفرّاند الإسباني (Ferrand d’Espagne) وعديد الأساتذة مجهولي الاسم. وما يجمع كل هؤلاء المؤلفين هو خشيتهم النقل حرفيا عن ابن رشد وتحاشي الدخول في الخصومات القائمة بين المتشددين من الأرتودكس وبين غيرهم. ففي بداية القرن الرابع عشر فقط استطاعت الرشدية الباريسية النشأة حقا مع جون الغوتنغني (Jean de Goettingen) وأنطوان البارمي (Antoine de Parme) وتوماس ويلتون (Thomas Wilton) وهيغو الأوتريشي (Hugo d’Utrecht) الذين دافع جميعهم بدرجات متفاوتة عن نظريات العقل المستمدة من الشارح.
ومن بين هؤلاء الأساتذة نجد جون الجونديني (Jean de Jandun) الذي درّس الفلسفة في باريس منذ 1310 والذي عُرف بكونه “شارح الشارح”، حيث يصف نفسه بكونه “علامة وصل” بين أرسطو وابن رشد. ويصبح فيلسوف قرطبة حسب قوله ” المدافع الشجاع والصديق التام والأكثر انتصارا للحقيقة”. يبدو جون الجونديني هنا بمثابة المريد الوفي لابن رشد إلى درجة أن منتقديه يجدون في ذلك ذريعة للتنديد بأفكاره بوصفها أفكارا مستهجنة لا هوية لها، مثلما هو حال بادوان نيفو (Padouan Nifo) الذي وصفه بأنه لم يكن “لا عربيا ولا لاتينيا. لم يكن جون الجونديني مفكرا سطحيا أو سجينا لخطاب ابن رشد، فهذا الأخير لا يمكن أن يحل محل أرسطو بشكل نسقي. باعتبار أن نصّ الشارح ظل غامضا في مواضع كثيرة وهو ما يتطلب التفسير. لقد كان جون الجونديني يعلم أن الرشدية لم تكن ابن رشد، وأن النص اللاتيني الذي ترجم عن العربية لم يحز دائما على الوضوح المطلوب وأن مترجمه قد تعقّبه “بقدر استطاعته”. وعليه فإن اللجوء إلى شروحات ابن رشد لم تكن معزولة حسب جون الجونديني أو تم احيائها برمتها، وإنما هي محفورة في البنى المفهومية التي تتغذى من الخصومات المدرسية في تلك الحقبة. لم يكن نص ابن رشد إذًا نصا جامدا بل مجالا خصبا يتطلب في كل مرة فك شفراته وإثرائه بإشكاليات جديدة.
أما في ما يتعلق ببقية الرشديين فلم يكونوا مجرد أتباع فقط، وإنما كانت رشديتهم ترتكز على صلة وثيقة بمدونة الشارح، وعلى القرار الفلسفي القائم على تأسيس براهينهم تساوقا مع ابن رشد، فقد ترتب عن استخدام هذه المدونة اختلافات نظرية عديدة أكثر مما ترتب عن قربهم النصي الذي لا ينفتح إلا في مستوى السطح على هويات مذهبية. ليست الرشدية إذًا الوجه اللاتيني لنفس النظرية التي أُنتجت عضويا بالعربية من قبل ابن رشد، إنها شيء مختلف يعالج الابستمية الخاصة للفكر الجامعي الوسيط، مثلما تشهد بذلك نظرية العقل لجون الجونديني التي استطاعت، بخروجها من القراءة السطحية للنص الرشدي، أن تكون الوريثة الحقيقية للجدال الباريسي الذي وضع توما الإكويني وسيغار الأبرابوني موضع تعارض، باعتبار أن وجهة النظر الشخصية أصبحت في الوقت الحاضر التجربة الحاسمة للرشدية، وأن النظرية الرشدية في “الاتصال” تجاوزت النقد الإكويني لم تعد كافية. لذلك يعيد جون الجونديني إحياء الحل الذي اقترحه سيغار الأبرابوني في رسالته في النفس العاقلة والذي يعتمد أن الإنسان الذي يعقل ليس جسما حيا متصلا بعقل خارجي فقط، وإنما كائن جديد متألف من جسم حي ومن عقل، حيث يدمجه كما لو أنه جزء من أجزائه.
مع جون الجونديني، يبرز من جديد مشكل الحقيقة المزدوجة، فبعد صفحات من البرهنة الفلسفية يعقدها مع ابن رشد وأرسطو، يستنتج حول هذه المسائل الدقيقة، مثل وحدة العقل أو أزلية العالم ومن خلال صياغات مختصرة من العقيدة تعارض قوة الله الكلية مع القوى المحدودة للعقل الإنساني. أبرهن على هذا ولكني أعتقد في ذاك، وهو أن الله يمكن أن يصنع بعقلي ما لا يمكن أن أفعله. فالأسلوب يبدو ضارا أحيانا، إذ يعتقد جون الجونديني فيما يقوله المخلصون الكاتوليك في موضوع الخلود، ولكنه غير قادر على البرهنة على ذلك، “ولكن إذا كان هنالك من يستطيع فذلك أمر جيد بالنسبة إليهم، فهو يعلم أن الله بمقدوره أن يجعل النفس خالدة من خلال المعجزة، ولكنه يضيف: كيف ذلك؟ ويجيب لا أعلم شيئا، فالله وحده من يعلم ذلك”!
يلخّص جون الجونديني مبدأ الخصومة فيما يلي: “أعتقد أن ما تقوله العقيدة هو صحيح، ولكني أرى أن هذا خاطئ”. إضافة إلى ذلك فنحن نؤكد أن اعتقادات الرشديين كانت خاطئة وكان ينبغي ألا نكون مغفلين حتى نتمكن من محاربتها. فأثر هجوم الإكويني على سيغار الأبروبيني لم يمحي بعد، إذ أن ابن رشد الحقيقي قد توارى نهائيا خلف ابن رشد الريبي.
وفي سنة 1326، كان على جون الجونديني مغادرة باريس رفقة زميله وصديقه مارسيل الأبدوي (Marsile de Padoue) مؤلف كتاب مدافع عن السلم وهو كتاب يدافع عن الإمبراطورية، حيث وجد نفسه منفيا في نورمبورغ في بلاط الإمبراطور لوي البافيري (Louis de Bavière) الذي دافع عنه ضد الكنيسة، ثم فرّ من هناك إلى إيطاليا، أين اتهمته الكنيسة بالهرطقة، إلا أنه حظي لوقت طويل بمنزلة كبرى في جامعات إيطاليا حتى أنه تم توسيمه بعد مائتي عام من قبل بعض مدرسي جامعة بادو (Padoue)”كما لو أنه إله”.
خاتمة
مثلما تم التخلي في السابق عن جثمان الفيلسوف وتركه يسافر بعيدًا في رحلة شاقة، من مراكش إلى قرطبة، تم التخلي كذلك عن أعماله التي تعالج “قلق عبارة” أرسطو لتكون خير رفيق في رحلة لا تنتهي خاصة مع مؤلف وشارحٍ فوق العادة، سيُلقب، بعد أن وجد في أوروبا مستقرا له، الشارح الأكبر، وبذلك كانت الإجابة عن الحيرة التي أبداها ابن عربي حين وصف، بطريقة تراجيدية، صورة نقل جثمان الفيلسوف، قائلا
هذا الإمام وهذه أعماله
يا ليت شعري هل أتت آماله ؟؟؟
من الأكيد إذًا أن ابن رشد لم يغب عن مناهج كلية الفنون في فرنسا، فقد أصبحت شروحاته محفورة في البنى المفهومية التي تتغذى من الخصومات المدرسية داخل الأوساط الجامعية، بالرغم من أن هروب جون الجونديني إلى إيطاليا كان مساوٍ تقريبا لغياب الرشدية بصفة عملية في فرنسا. إن هذه الرشدية التي سيكون مصيرها كونيّا بعد الآن، عليها أن تعبر جبال الآلب.
العربي الطاهري - الآوان
إضافة تعليق جديد