احتضار المجتمعات العربية
ابتُلي الاجتماعُ العربيّ بربيعٍ انقلب محنةَ المحَن في وجوده التاريخيّ المعاصر. وربَّ سائل يسأل عن أحقّيّة الربيع العربيّ في تعذيب الوجدان العربيّ. ومغزى السؤال أنّ الإنسان العربيّ كُتب عليه العذاب. فإذا كان هذا هو مصيره المحتوم، فالعذاب في سبيل حلم رفيع المقام أبعثُ على التعزية الذاتيّة من عذابٍ في سبيل عبثيّات الذهنيّة العربيّة المكبّلة بسلاسل التخلّف الثقافيّ والدينيّ والاجتماعيّ. فليتعذّب الإنسانُ العربيّ من أجل فكرة حضاريّة، لعلّه يفوز بشيء من الاستحقاق في محكمة التاريخ العليا. وهذا خيرٌ له من ألف عذاب عبثيّ.
بيد أنّ هذا كلّه يأتي المخيَّلةَ من باب النظم الشعريّ الخالص. أمّا الواقع، فينبئ بكارثة فظيعة تضرب مجتمعات العالم العربيّ بأسرها. والمسألة كلّها ترتبط بقابليّات العالم العربيّ الذاتيّة التي تؤهّله للانخراط في ربيع حقوق الإنسان والديموقراطيّات المنعشة للكرامة الإنسانيّة. وفي هذا السياق، لا بدّ من القول بأنّ المجتمعات العربيّة أتاها الربيعُ العربيّ على حين غفلة. فهي مجتمعاتٌ لا استعداد فيها لمثل هذا الاقتبال. والسبب في ذلك انعدامُ التأصيل الفكريّ الذي يتقدّم على التغيير التاريخيّ. وإذا ما عاين المرء تاريخ العالم العربيّ الحديث، أدرك فيه نزعةً شديدة إلى استرداد هويّته الضائعة. والاسترداد هذا، يُخيَّل للإنسان العربيّ أنّه قادرٌ على الفوز به، في الرجوع إلى العصر الأوّل الذهبيّ. وما أيقن العربُ حتّى الآن أنّ ذهبيّة العصر الأولّ وهمٌ جماعيٌّ تستوطن فيه جميعُ أصناف الالتواء المسلكيّ العربيّ.
ومن ثمّ، فإنّ إشكاليّة التأصيل الفكريّ الذي يُفترض فيه أن يُعدّ إعدادًا سليمًا للربيع العربيّ ظلّت مأسورةً بسلاسل الاسترداد الوهميّ للهويّة العربيّة. فأتت أصواتُ أهل النهضة العربيّة الأولى في معظهما تسأل الناسَ العودةَ إلى أصالتهم العربيّة المفقودة. وندر من دعا الناسَ إلى الكفّ عن تمجيد الماضي والانخراط في بناء الحاضر والمستقبل. وليست المسألة في عدد المفكّرين المدركين لخطورة هذا المركب. فالتغيير التاريخيّ لا يتأتّى للمجتمعات الإنسانيّة بكثرة الداعين إلى التغيير، بل بجرأة الملتزمين الفاعلين المشاركين في عمليّة التغيير.
وحين يتحدّث المرء عن التأصيل الفكريّ، ينبغي له الإلحاح على استجلاء خصائص الذهنيّة الثقافيّة العربيّة والانفطار الاجتماعيّ العربيّ والمزاج المسلكيّ العربيّ الغالب. وفي هذا المبحث بعينه، يسترهب المرء مستوى التخلّف الذي ما فتئت المجتمعاتُ العربيّة ترزح تحت أثقاله. فالفرد العربيّ ما انفكّ حتّى اليوم يعاين هويّتَه ملتصقةً التصاقًا كيانيًّا بهويّة الجماعة الدينيّة أو العرقيّة التي ينتمي إليها. ومهما قيل في انتقاد المشايعة الدينيّة وامتداح الانتماء القوميّ العربيّ، فإنّ الفرد العربيّ ما برح في كلتا الحالتين رهينَ الهيمنة الخارجيّة سليبَ الإرادة الذاتيّة.
ومن مظاهر التخلّف الذي يضرب المجتمعات العربيّة أنّ أنظومة القيَم السائدة التي يستلهمها الفردُ العربيّ ما انفكّت تمجّد العزّةَ القوميّة والمنعةَ الجماعيّة والانصياع القبيليّ والائتمار الأعمى للزعامة المتوارثة والاستعلاءَ الذكَريّ والمغالبة الغريزيّة والاستهتار البيئيّ والاستكثار الإنجابيّ المرَضيّ والاجترار العقيم لمضامين التراث. فأنَّى للعرب أن يفوزوا بربيع ديموقراطيّ، وحالهم حالُ الأمم المتسكّعة المختلّة المصابة بجنون التعظيم الذاتيّ القاتل؟ وكيف يستطيع المرء، والحال هذه، أن يفترض في العرب رغبةً حقيقيّةً في النهوض وعزمًا صادقًا على الإصلاح وقدرةً مكينةً على الابتكار؟ ولمن يُعَدّ هذا الربيع العربيّ الافتراضيّ الذي يتحدّث عنه أهلُ الفكر في مجتمعات العالم العربيّ؟
جلُّ ما في الأمر أنّ المجتمعات العربيّة تحتضر احتضارًا كيانيًّا. وهي، في احتضارها الكيانيّ، تتوهّم أنّها مقبلةٌ إلى ربيع الرفعة الإنسانيّة والازدهار الحضاريّ. والحالُ أنّ ربيع العرب هو ربيعُ الهويّات التاريخيّة المريضة المتشنّجة المتصلّبة المتناحرة، لا ربيع الأفراد الأحرار الواعين المسؤولين التائقين إلى الإصلاح والتجديد والابتكار. ولقد ثبت في مسرى التاريخ الإنسانيّ أنّ الحرّيّة الفرديّة هي مقياس الرفعة الإنسانيّة، وأنّ الابتكار الخلاّق هو باعث الازدهار الحضاريّ. ومهما قال الناسُ في امتداح قيَم الجماعة والقوم والدين، فإنّ قيمة الحرّيّة الإنسانيّة الفرديّة هي أرقى القيَم الإنسانيّة مجتمعةً، لا بل هي المقياسُ الوحيد الذي به تُقاس سائرُ القيَم الأخرى.
ومع أنّ معظم المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة في آسيا وأفريقيا وبعض دول أميركا الجنوبيّة ما فتئت تحيا في ذهنيّة الالتصاق الكيانيّ بجسم الجماعة وبسلطتها المطلقة على وعي الأفراد ومسلكهم، فإنّ الاختبار التاريخيّ الحديث لمقولة الحرّيّة الفرديّة في المجتمعات الغربيّة المتقدّمة أثبت أنّ فضائل هذه القيمة تسمو سموًّا مطلقًا على جميع ألوان الانحراف الطارئ في مسلك الأفراد. فالحرّيّة الفرديّة لا معنى لها إذا ما أخفق الإنسانُ في الاضطلاع بمسؤوليّتها الوجوديّة الكاملة. وقد يكون الانحرافُ الطارئُ في مسلك بعض الأفراد في المجتمعات الغربيّة أشدّ صونًا لكرامة الإنسان المطلقة من انسحاق الإنسان العربيّ تحت وطأة استبداد الجماعة والقوم والطائفة والمذهب.
ويبقى السؤال الجوهريّ في ملابسات الربيع العربيّ يتناول أوّلاً الخلفيّة الثقافيّة التي تستند إليها المجتمعاتُ العربيّة في تفاعلها مع طارئات الاضطراب الوجوديّ الذي يُلمّ بها، ويتناول ثانيًا الوضعيّة التاريخيّة التي تكتنف مسلكَ هذه المجتمعات وتأسرها بضروراتها القاهرة. فالناس في المجتمعات العربيّة يقتلها الاستبدادُ السياسيُّ العربيُّ، ويقتلها الاستدمارُ الغربيُّ المتفلّتُ، ويقتلها العدوانُ الصهيونيُّ المقيت، ويقتلها التديّنُ الأصوليّ المتوحّش. غير أنّ المقتلةَ الأشدّ فتكًا بالوعي العربيّ وبالوجود العربيّ هي التي يجرّها على المجتمعات العربيّة التخلّفُ الذهنيُّ الثقافيُّ العربيُّ عينُه. فالمتخلّف، حين يقيم هو بعينه الدليلَ على تخلّفه ويمعن في غيِّه، يعود الناسُ الغرباءُ لا يسترهبون التواطؤ عليه واستعباده وتدميره. وهيهات يكفي العرب الرجوع إلى أمجاد ماضيهم السحيق حتّى يقوم له ربيعٌ أصيلٌ فذٌّ. فالماضي المجيد يكفّ عن أن يكون مجيدًا حين تفتك به انسحاقاتُ الوعي الحاضر وتفاهاتُه المذلّة.
ولمّا ثبت حتّى الآن أنّ المجتمعات العربيّة لا تريد لنفسها تفكّرًا نقديًّا صريحًا في خلفيّتها الثقافيّة الضابطة لوعيها ولمسلكها، ولا تريد لنفسها ضروبًا استثنائيّة خلاّقة إنقاذيّة من التفاعل الفذّ مع الضرورات التاريخيّة التي تكتنفها، فإنّ التعزّي بتغيُّرٍ آتٍ من هنا وتبدُّل وافدٍ من هناك لا يعدو مجرّد المراوحة في مضايق العجز الأقصى. وإذا كانت الطبيعة الإنسانيّة هي عينها في الشرق والغرب، فإنّ ضروب الصقل والتهذيب تختلف من حضارة إلى حضارة ومن مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة إلى بيئة. فالصقل الغربيّ للطبيعة الإنسانيّة عينها أفضى بها في داخل أسوارها إلى تبصّر فكريّ عميق الدلالة ومنعة أخلاقيّة سديدة المرمى وتحسّس بيئيّ كونيّ مختمر الأداء. وهذا كلّه لم يمنع الإنسان الغربيّ من الانتماء القوميّ والالتزام الدينيّ. غير أنّ فرادة الاختبار الثقافيّ الغربيّ تُملي على الفرد الإنسانيّ أن يُخضع هذَين، الانتماء والالتزام، لأحكام الحرّيّة الذاتيّة.
ورأس الكلام في هذا كلّه أنّ الربيع العربيّ لن تقوم له قيامةٌ ظافرةٌ إلاّ إذا قبل أهلُه بصدارة هذه الحرّيّة الذاتيّة. ذلك أنّ الإنسان، مهما تباينت مشاربُه وانتماءاتُه، لا تني تسكنه رغبةٌ دفينةٌ في صون ذاتيّته وإعلاء كرامته وتعزيز حرّيتّه. وقد تتشوّه هذه الرغبةُ لشدّة ما ينتابها من ضروب الاستلاب والتغرّب. ولكنّ الأصل الصلب للفرد الإنسانيّ هو تلك الذاتيّة التي يطوي العمرَ كلَّه في رعايتها. فإذا امتنع أهلُ المجتمعات العربيّة عن صون هذه الذاتيّة الفرديّة، أتى ربيعُهم على صورتهم الباهتة، ربيعَ الإجابات المتشنّجة المتصلّبة العقيمة، لا ربيعَ الأسئلة الجذريّة الفاتحة لآفاق التجديد والابتكار والصياغة الخلاّقة. والثابت في هذا كلّه أنّ تغيير الحكّام وتبديل الأنظمة وتنقيح الدساتير وتنقية الأحكام في بعض المجتمعات العربيّة الثائرة لا يؤتي العربَ ربيعَهم الموعود. هي تحسيناتٌ إنشائيّةٌ بات العربُ يلجأون إليها في زمن الاضطراب الأقصى هربًا من مواجهة حقيقة تخلّفهم. وحده الاستفسار الجذريّ عن أمراض الخلفيّة الثقافيّة والدينيّة خليقٌ بإنقاذ المجتمعات العربيّة من أتون الدهر المشتعل.
الناس في المجتمعات العربية يقتلها الاستبداد السياسي العربي، ويقتلها الاستدمار الغربي المتفلت، ويقتلها العدوان الصهيوني، ويقتلها التدين الأصولي المتوحش... غير أن المقتلة الأشد فتكاً، هي التخلف الذهني الثقافي العربي، والاكتفاء بجنون التعظيم الذاتي القاتل.
مشير باسيل عون: السفير
إضافة تعليق جديد