اغتيال المعري
اغتيال رأس المعري؛ وقبل أن تستتب إمارة الإسلام المزعومة في معرّة النعمان الأدلبية السورية؛ هو اغتيال رمزي لعقل مفكر وشاعر متفلسف. خرج عن نطاق عصره العباسي كثيراً وشغلته أسرار الحياة والديانات والوجود والكون والمحسوسات والأساطير والخرافات. استطاب الشعر في سن مبكرة كما استطاب الجدل المعرفي في فلسفة التشكيك المغمورة بالتشاؤم واليأس، فكان الشاعر الفيلسوف وصاحب المقدرة الاستثنائية في تطويع بصيرته عبر العقل الجدلي وافر الحجة والقوة.
لكن قبل أن يحط إسلاميو المعرّة رحالهم الأخيرة في كابوس الحياة سبقهم أبو العلاء المعري قبل أكثر من عشرة قرون حينما تنبأ بهم وخلص يومها الى أن البحث عن السلطة تحت ستار الدين هو ما سيضعف الدين ورسالاته المختلفة، من أولئك الذين يركبون مطية الدين لينشروا الرعب في مسارب الحياة ويسوّدوا بياضها.ولأنهم كذلك فقد قطعوا رأسه.. لكن بقي الشاعر وبقي الفيلسوف بشكوكه القديمة التي أثبتت أخيراً أن» الزنديق» على حق !
(1)
هي نبوءة بلا شك.
سقط رأس المعري في مسقط رأسه، وبعد أن كان رهين المحبسين ثم الثلاثة ويمكن القول أنه رهين المحابس الأربعة الآن : فقْد النظر / لزوم البيت / كون الروح في الجسد الخبيث / وأخيراً غربة الجسد في مكان الروح. وهذه رباعية امتدت من محبسين لهما مبرراتهما العضوية والنفسيىة (العمى الاعتكاف) الى محبسين آخرين فيهما يتعلقان في الروح (في الجسد الخبيث) والجسد (مقطوع الرأس) ليكون فيلسوف الشعراء آخر من يتنبأ بالحدس والظن بنهايته الثانية، فالشك الذي خالجه طوال حياته وتعرضه الى المقدس بطريقته المثيرة، يتحقق في القرن الحادي والعشرين سهلاً ممتنعاً ولكن تحت حِراب الأخوة الأعداء ومروجي الفتن الطائفية ومتشددي السلوك الجامد تلك التي حذّر منها المعري واستعابَها وتنكر لها طوال حياته.
الغريب، كما قال الرواة، أن المعري لا يتذكر من الألوان إلا اللون الأحمر بسبب عماه المبكر! وكأن هذا اللون نبوءته أيضاً في أن تكون خواتيمه الحجرية الرمزية دماً أحمر، لكن هذه المرة لم تسقط من رأسه قطرة دم في معرّته، بل امتلأ تمثاله بالبارود فسقط رأسه خجلاً عند أقدام الغزاة الجدد وشخصت وصيته الفريدة « هذا ما جناه عليّ أبي» لكنّ أباه لم يجنِ عليه ولم يقطع رأسه، سوى أنه ارتكب جريمة ولادته.
لو أن الملك الحلبي صالح بن مرداس هو الغازي لمعرّته لتشفع عنده أبو العلاء ولأنشدنّه شعره ولقال له : الأمير لانَ مسُّهُ وخشُنَ حدّهُ وكالنهار الماتع قاظَ وسطهُ وطابَ أبردهُ. خذِ العفوَ وأمُرْ بالمعروف وأعرض عن الجاهلين.
(2)
تشاء المشيئة أن يفقد أبو العلاء بصَرهُ لتحل البصيرة محله، وهي الطاقة التعويضية في مثل هذه الحالات التي تعمل على وفق نسق مختلف عن الرؤية المباشرة، فتجمع ذخيرتها في باطنها السري وتتكتم عليه حتى تجد منافذها لاحقاً. البصيرة تجرّد الأشياء من ماهياتها الثابتة وتتوغل في رؤياها كثيراً وتستجلي صورها القريبة من ذائقة البصير وعلمه وثقافته وموضوعيته، ولأن اللون الأحمر له دلالاته الرمزية المعروفة فقد احتفظ به المعري وهو ابن السن الرابعة ولم ير لوناً غيره أو لم يكترث لغير هذا اللون في إضماماته الروحية والتفسية. وكما لكل بصيرٍ بَصَرَه الاستثنائي في رؤيته للحياة ومتفرعاتها وإشكالياتها، فإن أبا العلاء أشكلت عليه كثير من قضايا الوجود والدين والعلاقة الروحية بينهما فتشكك وصامَ وتجرأ على المقدس وزهد ولبس خشن الثياب وطلّق المباهج اليومية معتكفاً ( فالأعمى عورة كما قال ) ورأى من منظور شخصي الكثير مما اعترض عليه في حياته، لاسيما اعتراضاته على مدّعي السلوك الديني وشعائر الأديان.
طبعت حياته فلسفة تشاؤمية سوداء قلَ نظيرها في التشاؤم، فكان كثير السخط على المجتمع والرعاع التابعين الى الأديان من دون أن يتفحصوا طريق الحق بنقاء ويبددوا أعمارهم في أوهام من صنع السلاطين، وهذه الفلسفة المعقدة جعلته يتشكك في أعقد الأمور وأكثرها حساسية، وأولها تشكيكه في الأديان، فالدين عنده بدعة ابتدعها القدماء ليقبضوا على السلطة وهو الذي خبرَ أمراء بغداد وحلب والمعرّة، ولعل إثاراته الكبيرة في عصره هو انتقاده لبعض عقائد الإسلام كتشبيهه الحج برحلة الوثني أو تقبيل الحجر الأسود الذي عدّه صورة من صور الجاهلية وهذا ما جرّ عليه غضب رجال الدين المتشددين من ذوي الركائز الثابتة العمياء، وبلغ به السخط من الواقع والحياة ما طلب في وصيته أن يُكتب على قبره ( هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد ) في إحالة قدرية يستنكرها كونه انوجد في حياة لا تنفتح كثيراً على الجمال والحركية وأنساق الجدل، بل يريد عصرُهُ منها أن تتقولب في جماد الدين وثوابت السلف التي يعترض عليها بشدة ووضوح وجرأة كبيرة. بل في كتابه الوعظي « فصول وغايات» الذي نسجه شعراً قلّد فيه طريقة الكتابة في القرآن الكريم كما لو يريد أن يقول أن لغة القرآن ليست إعجازية الى هذا الحد وهو يقترف سلوكاً مغايراً لكتّاب جيله من حيث اقترابه ودخوله في النص المقدس الذي لا يمكن التّماس معه أو الإقتراب منه أو تقليده.
هذه الجرأة هي رديفة رسالة الغفران المتخيلة التي يحتفظ بها التراث السردي العربي كأثرٍ روائي غريب في تجلياتها الروحية والنفسية واللغوية والنقدية أيضاً، والتي انطوت على فرضية زيارته الى الجنّة ولقائه بشعراء الجاهلية والإسلام ومحاورتهم عبر شخصية (ابن القارح) بما يذكر بكوميديا دانتي الإلهية وفردوس ميلتون المفقود، ويذكّر أيضا بالإسراء والمعراج في رحلة الرسول الى السماء؛ وتجلت بلاغته الكبيرة حيّة وفلسفته ممكنة في رصده لمنافذ الحياة ونوافذها في الشمولية والإتساع والمنطق والمخالفة والرأي الآخر والوصف واللغة الباطنية والعلم والفلسفة والولوج الى مكمن المقدس بروح معرفية حتى لو نعترض على سياقاته الفكرية وجماليات التأويل المعرّية.
هذا الخيال العجيب جعله يفيض بعلومه بأنساق ومتواليات كثيرة بين النقد والتاريخ والتفسير واللغة والتوصيف القرآني وهو يتنقل بين الجنة والنار عبر تلك الشخصية القارحية التي كشفت عن سعة ثقافة معرّيّة لا مناص من الإعتراف بأهميتها التاريخية، فكان الرجل الشاعررالفيلسوف والفيلسوف الشاعر في ثنائية لم يكتسبها الكثيرون في عصره أو حتى العصور التي سبقته أو اعقبته، فالنظر الى الحياة من خلال الشعر قد لا يكون حاسماً في إذكاء جذوة التمرد بين مجموعات بشرية جبرية في خياراتها، وبالتالي سيكون الشعر غواية من غوايات كثيرة يعج بها الفضاء المتحول من جاهليته الى دينه الجديد الذي للمعري فيه وجهة نظر في بعض تفصيلاته الحيوية، بل في بعض طقوسه وأركانه الأساسية.
لذا فالنسق الفلسفي سار بوتائر متصاعدة في يوم الحشر الغفراني ومترابطة بين إيقوناتها المعرفية من نقد ووصف وتاريخ وفلسفة وبلاغة وبراعة تحت ركائز يسودها الشكل العام للحياة في منطق الشك وصيرورته، تعززه نظرة تشاؤم عميقة الغور في روحه.
قال المعري في رسالة الغفران ما لم يقله في كل كتبه، فالشاعر الأعمى الذي يتحسس وجوده في كتلة الظلام ابتعد عن جسده مسافة طويلة في إشكالية نفسية ذاتية صنعها مرض الطفولة الذي أفقده علاقته المباشرة مع مجتمعه وبالتالي مع الحياة عامة. لذلك ابتعد حرجاً عن جسده ولم يتزوج كي لا ينجب أطفالاُ بجنايته الذاتية، فقمع رغبة الذكورة فيه الى أقصى حال؛ وظل هذا الرجل النباتي يتنقل بين النثر والشعر وبصيرته تحقق في مجريات الحياة
وهو ما جعل من طه حسين (البصير مثله) أن يتقصى روح الفيلسوف والشاعر والزاهد والمتشكك؛ إرث المعري في رسالة الى أبي العلاء المعري كأول حادثة أكاديمية عربية لفتت الأنظار الى هذا الرجل المتشائم والسوداوي والقدري والعاجز عن الإصلاح.، يومها كان طه حسين شابا في مقتبل عمره (1914) وهو أول كتاب له، بعدها توالت إصداراته عن أبي العلاء وهي معروفة.
(3)
بلا تردد نقول أن المعري فيلسوف وجودي قرأ الحياة من زوايا مختلفة بعقلية ناضجة، لكن الفلسفة تتطلب نظرية وتنظيراً واسئلة وأجوبة وشكوك معرفية، وهو ما لم يكن سائداً في عصره بالشكل الأكاديمي الذي عليه اليوم، غير أن المعري بث وجوديته وقدرياته في أشعاره ونثره ومحاججاته المتينة التي انطوت على مقدرة لغوية وفكرية فذة في برهانه النظري العقلي الذي ينطوي على المنطق والشمولية في استقراءاته الكثيرة، حتى كان اختلافه عاصفاً في خلخلة الثابت من الشعائر والأديان والطقوس والمقدس المتفق عليه والتشكيك فيه، فالعصر العباسي الذي عاشه المعرّي كان عصراً حافلاً بالمعارف والعلوم والآداب في ازدهاره وفرادته التي أنتجت خير ما أنتجته من اسماء لامعة في مختلف العلوم.
كان المعري أحد أوتاد الحياة الثقافية العباسية شعراً ونثراً وتمكن من إعادة صياغة الكثير من المفاهيم السائدة في عصر بروح العقل الذي يمتلكه والإنسانية التي تسري بين كتبه مهما قيل عنه من تقاطعات فكرية ودينية. فالاجتهاد المعرّي له ما يبرره ويواسيه أيضاً..
كما نواسيه اليوم بقطع رأسه !
وارد بدر السالم (كاتب من العراق) :السفير
إضافة تعليق جديد